قال الدكتور محمد قشيقش، رئيس شعبة الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس، إن حالة البحث العلمي تعتبر علامة على تقدم أو تأخر الدول بناء على الميزانية التي تخصصها للبحث في المجالات العلمي، وأوضح قشقش في حوار ل «المساء»، أن للبحث العلمي شروط ومواصفات موضوعية وذاتية لابد من توفرها، مؤكدا أنه لا يعقل أن يقدم طالب أطروحة أمام اللجنة العلمية وهو لا يحسن التحدث بأكثر من لغة واحدة. - من الناحية الكمية، من ينظر إلى عدد الأطروحات الفلسفية المُقدَّمة في الجامعات المغربية سيخرج بقناعة أن البحث العلمي عندنا على غير ما يرام. لكنْ من الناحية النوعية هناك لغط كبير، نظرا إلى تضارب وجهات النظر في معايير وشروط وطرائق البحث العلمي، ما قناعتك في هذا الشأن؟ تعتبر حالة البحث العلمي، في أي دولة اليوم، علامة على تقدم أو تأخر في ترتيب الدول ورقيها ومعيارا لترتيبها وتصنيفها بناء على الميزانية التي تخصصها للبحث العلمي في كل المجالات العلوم الإنسانية والدقيقة، على حد سواء. فللبحث العلمي شروط ومواصفات موضوعية وذاتية. وتكمن الشروط الموضوعية في توفير البنيات التحتية الضرورية ومختبرات (مراكز البحث) مُجهَّزة ومكتفية بذاتها وفرق البحث متوفرة على مؤهلات، وهذه مسؤولية المؤسسة الوصية والمؤسسات ذات الاهتمام المشترك، وإسناد مسؤولية تسييرها وتأطيرها للأطر المؤهلة الكفأة، التي أبانت عن جدّية ومثابرة وتفانٍ في العمل. وتكمن الشروط الذاتية في مواصفات المؤطر والمشرف على إنجاز العمل العلمي، بالمتابعة المتواصلة إلى أن ينضج ويثمر، والتركيز في التأطير على تمرين الباحث على أدوات العمل وكيفية البحث وسبل الإبداع، أي تمكينه من كفايات ومهارات الإنتاج الذاتي، الذي يحترم قواعد البحث العلمي الرصين، الذي يتطلب الجرأة والإبداع والتّروّي في إصدار الأحكام، مع ضرورة الاهتمام باللغات، فلا يعقل أن يقدم طالب أطروحة أمام اللجنة العلمية وهو لا يحسن التحدث بأكثر من لغة واحدة. - يشكل «مركز الدراسات الرشدية»، الذي أسسه المرحوم جمال الدين العلوي، مدرسة قائمة بذاتها في مجال البحث العلمي في الفلسفة، حيث استطاعت، بفضل رؤية مؤسسها وتلامذته في ما بعد، أن تحقق تراكما محترما جدا، تحقيقا وتأليفا وبحثا، هل لك أن تعطينا لمحة عن فلسفة البحث العلمي في المركز وعن أهمّ إنجازاته؟ شكّل مركز الدراسات الرشدية، منذ تأسيسه في كلية الآداب «ظهر المهراز» في فاس سنة 1989، مدرسة متميزة في البحث بمجالات اهتماماته وطرق اشتغاله وأهدافه. وقد بدأت الانطلاقة بالاشتغال على التراث الفلسفي العربي الإسلامي، والغرب الإسلامي منه على الخصوص، بتحقيق النصوص تحقيقا علميا. وقد أصدر المركز نصوصا لابن رشد: تلخيص السماء والعالم وتلخيص الآثار العلوية وتلخيص الكون والفساد وتلخيص المستصفى والضروري في أصول الفقه.. كلها تقديم وتحقيق وتعليق الأستاذ جمال الدين العلوي ونصوص ابن باجة «التعاليق المنطقية»: الإيساغوجي، الفصول، المقولات و«تعليق على كتاب المقولات»، لأبي نصر الفارابي، و«ارتياض في كتاب التحليل»، تقديم وتحقيق الأستاذ محمد الوزاد، و«تعليق على كتاب الفارابي في البرهان»، تقديم وتحقيق وتعليق الأستاذ أحمد العلمي حمدان، و«شرح الآثار العلوية»، تحقيق الأستاذ مساعد، و«كتاب النفس»، تحقيق جمال راشق، ونص للفارابي «شرح صدر المقالة الأولى والخامسة من كتاب الأصول لأقليدس»، تقديم وتحقيق الأستاذ محمد قشيقش.. وما أحوج مؤرخ الفلسفة إلى هذا العمل التوثيقي قبل فحص النصوص وتأويلها. في هذا المنتوج، تتجلى فلسفة البحث العلمي الخاص بالمركز، الذي بدأ بفريق بحث واحد وتطور اليوم إلى «مختبر الدراسات الرشدية»، الذي يضم ثلاث فرق بحث. مجال اشتغال الفريق الأول «فلسفة الدين والثيولوجيا»، والفريق الثاني «الفلسفة الإسلامية والنصوص المؤسسة»، التي تنشر أعمالها في «دفاتر مجموعة البحث في الفلسفة الإسلامية»، العدد السابع قيد الطبع، والفريق الثالث «الأخلاق والسياسة». وقد حصل المركز، مؤخرا، على جائزة الجودة، وهو اعتراف يشجع على المزيد من العطاء في مجال البحث العلمي الرصين. - عرف الدرس الفلسفيّ في المغرب تحولات على مدى العقد الأخير، ما هو واقع هذا الدرس وآفاقه والعوائق التي لما تزال تعرقل تحقيق الجودة فيه؟ في تقديري، تحقق تراكم مهم في التدريس الفلسفة في جميع المستويات، الثانوي -التأهيلي والجامعي، بفضل تضحيات و«مجاهدة» أطراف متعددة، وعلى رأسها مدرسو المادة. فقد امتد تدريس المادة إلى شعب وتخصصات جديدة، لكنْ ما يزال مطلب دخولها في صورة مجزءات محددة إلى التدريس في كلية العوم (الإبستيمولوجا وتاريخ العلوم والخلاق على سبيل المثال لا الحصر) مطلبا مشروعا للمساهمة في تفتح طالب كلية العلوم وانفتاحه على المقاربات التحليلية النقدية للمعرفة العلمية. وبالفعل، فإن العوائق كثيرة يمكن التمييز فيها بين الموضوعي والذاتي. ويكمن الموضوعي في إكراهات المؤسسة، التي يمكن أن تكون عامة بالنسبة إلى جميع المواد: نقص وضعف في البنيات التحتية الضرورية، الخصاص في قاعات الدرس، الاكتظاظ ونقص في الموارد البشرية الضرورية للتأطير في المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح. والذاتي هو المتعلق بمدرس المادة، سواء كان في الثانوي -التأهيلي أو العالي، مع أخذ الاختلاف بعين الاعتبار. فلا يعقل أن تسند التدريس إلى من لم يخضع للتكوين في مركز تكوين المدرسين.. ماذا يمكن أن تنتظر ممن تسند إليه مهمة التدريس وكل ما لديه لهذه المهمة النبيلة هو شهادة جامعية: إجازة، ماستر أو دكتوراه!.. قد يتوفر على زاد معرفي، لكنه يفتقر إلى تصور تصريفه في الفصل وتحويله إلى مادة تعليمية وفق المواصفات المطلوبة، لأنه يفتقر إلى العُدّتين الدياكتيكية والبيداغوجية.. إنه سيرتكب «الفظاعات»، لذلك تقتضي الجودة الشجاعة الكافية من المسؤولين للقطع النهائي مع هذا التوجه الذي تتحكم فيه إكراهات كثيرة، منها سد الخصاص وامتصاص غضب العاطلين من حاملي الشهادات.. إن المقبل على التدريس في المؤسسة الجامعية مطالَب إذا لم يسبق له أن اكتسب تكوينا في الموضوع- بالخضوع لتكوين ديداكتيكي وتربوي، قبل أن تسند إليه مهمة التدريس في مؤسسات التعليم العالي. أما العائق الثاني، زوالذي أعتبره العائق الأكبر، السائد في هذا التدريس، فهو تعليم الأفكار أو التركيب على المعرفة، المذاهب والآراء والتصورات، وبصفة عامة، التركيز على المعرفة بدل التركيز على تعليم التفكير، أي تمكين التلميذ والطالب من أدوات العمل وإنتاج المعرفة، لماذا؟ لأنه قد «يستنشق» المعرفة مع الهواء وقد تلاحقه في لحظة اليقظة وتحاصره وهي من الكثرة والتنوع وفي متناوله، بفعل الوسائط الكثيرة والمتنوعة. ولما كانت الجودة تتطلب التركيز على التعلم الذاتي، فإن هذا التعلم يفترض تمكينه من أدوات البحث وتعليمه كيف يستغل على المعرفة. وما دمنا في مجال تدريس الفلسفة، يلزم تمرين المتمدرس على كيفية الاشتغال على النصوص الفلسفية وكيف يمارس التحليل والمناقشة والتفسير والنقد، وكيف يكتب بالشكل المطلوب. يلزم تمكينه من كفايات ومهارات وقدرات تؤهله للإبداع الذاتي والقطع مع القفز على النصوص. إن التدريس بها حاصل عمل دؤوب، بل «مجاهدة» طويلة من طرف نخبة من المسؤولين على تدريس المادة في المغرب، كل في مجاله الخاص، من أجل القطع مع تصور منتهي الصلاحية في علاقة مدرس المادة بالتلميذ أو الطالب، علاقة هي أشبه بعلاقة مريد بالشيخ، الممتلك للمعرفة، الفاعل بالمستهلك المنفعل، المتلقي السلبي. جاء البديل في وضع المتلقي التلميذ أو الطالب مباشرة وجها لوجه مع خطاب الفيلسوف أو العالِم، ليتحول المدرّس إلى معلم لكيفية قراءة النص في إشكالية محددة مضبوطة. وأخذ القراءة بالمعنى العميق للفظ (الفهم، التحليل والشرح والمناقشة) يعلم ويلقن مهارات وكفايات، بدل أن يلعب دور «المفتي»، العارف الأول وربما الأوحد، الذي يضع الغير، الجاهل، المتلقي السلبي على الطريق السليم.. وهو المنحى الذي قد يقتل الإبداع عند التلميذ أو الطالب ويقوض الثقة في النفس ويُرسّخ نفس الأعطاب عند المتلقي في عدم القدرة على الكتابة والقراءة الصحيحة. - يعد موضوع التكوين التربوي للأستاذ الجامعي موضوعا «محرّما» حتى الآن، مع أن ما يقوم به بعض أساتذة الجامعات مع طلبتهم لا علاقة له إطلاقا بالتعليم كتعليم.. قياسا إلى ما عهدناه فيك من صراحة ونزاهة في القول والتفكير، كيف تنظر لهذا المشكل؟ صحيح أن هناك عوائق كبيرة في التدريس في المؤسسات الجامعية. فيها المشترك بين جميع المؤسسات وفيها ما هو خاص بهذه المؤسسة أو تلك، وهي متداخلة معقدة لا يسمح الحيّز لبسطها وفحصها، ومنها ما يخص المواصفات التي يلزم توفرها في المدرس في مؤسسات التعليم العالي. إن الشهادة الجامعية، الدكتوراه مثلا، لا تؤهل، لوحدها، صاحبها للتدريس، لأن التدريس مهنة، فن وصناعة. لذلك، يلزمه امتلاك عدة بيداغوجيا، أي تصورا تربويا واضحا دقيقا وعميقا ملازما للممارسة التي تُغْني التصور وتُنضِجه وتسمح بتطبيقه، إضافة إلى العُدّة الديداكتيكية، التي تُمكّن المدرّس من العمل وإنجاز درسه بالشروط والمواصفات الخاصة بالمادة التي يُدرّسها،لأن لكل مادة خصوصيتها.. وإذا افتقر المدرس إلى هذا صار ك«حاطب الليل»، على حد تعبير أبي نصر الفارابي (إحصاء العلوم في الفصل المخصص للمنطق) في رده على من قال: يمكن لمن يطلب التفكير السليم الاستغناء على المنطق والاكتفاء بالنحو فقط. في غياب هذه المواصفات، قد ترتكب الفظاعات، كما قلتُ، وأخطاء قاتلة تنعكس سلبا على الطلبة وعلى نوعية التكوين. خلاصة هذا أن هذا التكوين ضروري لكل مقْبل على التدريس في المؤسسات الجامعية. أما صيغة التكوين ومدته فمن صلاحيات المجالس العلمية والمؤسسات ذات الاختصاص.