ونحن على مشارف الاحتفال بالذكرى الأولى للربيع العربي، التي يؤرخ البعض لانطلاقتها بإضرام الشهيد محمد البوعزيزي النار في نفسه في السابع عشر من شهر ديسمبر أمام ولاية سيدي بوزيد، شرعت بعض دور النشر في إعداد حصيلة بالإنجازات والإخفاقات لهذا الحدث. غير أن ثمة خبراء مهدوا قبل ذلك للثورات العربية بإصدارات اختزلت في بعض أسئلة محورية روح هذه الانتفاضات، دواعيها، أسبابها وآفاقها المستقبلية. ويندرج البحث، الذي أصدره جان-بيار فيليو بعنوان «الثورة العربية، عشرة دروس عن الانتفاضة الديمقراطية» (منشورات فايار)، في هذا الاتجاه. جان-بيار فيليو هو بروفيسور بمعهد الدراسات السياسية في باريس، عمل أستاذا بجامعتي كولومبيا (نيويورك) وجورج تاون (واشنطن). كما أنه باحث ومؤرخ معرب، وسبق له أن نشر لدى نفس الناشر مجموعة كتب، أهمها «نهاية الكون في الإسلام». في التصدير، يشير الباحث إلى أنه برحيل زين العابدين بنعلي وحسني مبارك، دخل العالم العربي طورا جديدا من التحول، كما تابع التاريخ مسيرته مصحوبا بكل القلاقل والآمال. وحري بالمؤرخ الانتظار كي يستقر الوضع الجديد قبل المغامرة باستخلاص الدروس، لكن هذه الثورة توفر من الآن مجالا مثيرا ومدهشا من التجارب والمعطيات يمكن من الآن أن نستخلص عشرة دروس منها. يسعى هذا الكتاب إلى أن يضع المسلسل الراهن في بعده التاريخي. وعلى أي حال، تبقى أي خلاصة غير محبذة. لذا تبقى هذه الدروس العشرة إسهاما متواضعا في التقييم الشمولي والعام لحدث بهذه الأهمية. دشنت انفجارات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ضد مركز التجارة العالمي وضد البانتغون حقبة نوعية من الزمن، وجدت خاتمتها في الانتفاضة الديمقراطية للعالم العربي، يكتب جان-بيار فيليو، مذكرا بأنه كان محظوظا بمعايشته هذه الأحداث لما كان يدرس بجامعة كولومبيا بنيويورك. وإن سبق للمؤلف أن نشر بعضا من شذرات الكتاب على شكل مقالات فإن البعض الآخر ينشر لأول مرة ليعرض أطروحات جديدة يناقض بعضها ما هو رائج ومستهلك في موضوع ثورات الربيع العربي. يمكن لثلاث أطروحات من بين الأطروحات العشر أن تستوقف الانتباه، من دون التقليل من شأن باقي الأطروحات التي عرضها وناقشها الكتاب. الشبكات الاجتماعية لا تصنع الربيع في شهر نوفمبر من عام 2011، أعرب زين العابدين بنعلي عن اعتزازه وفخره باستقبال «المؤتمر العالمي للمجتمع الإعلامي». وقد شكلت هذه القمة الشطر الثاني من المناظرة، التي عقدتها الأممالمتحدة. وقد عقد الشطر الأول منها بمدينة جنيف. احتضنت تونس إذن خلال هذا الاجتماع، الذي دام ثلاثة أيام، مئات الوفود العالمية، منها ما هو رسمي ومنها ما هو غير حكومي. وكانت ورقة الطريق تستند على مبدأ الحوار والتناظر وتقديم وجهات النظر في موضوع العصر الرقمي الجديد وكذا في موضوع الإعلام الجديد للمواطنة. وقد حشرت الوفود في مكان فاخر ومعزول في الضاحية الشمالية للعاصمة، وكان الإنترنيت يغطي مجال المؤتمر والفنادق لا غير، أما الناشطون التونسيون والمنظمات غير الحكومية فكانت ممنوعة من المشاركة في هذا المؤتمر. وفيما يخص ممثلي «المجتمع المدني»، فقد تم انتقاؤهم بعناية من سلة الحزب الحاكم، حيث رافقهم جواسيس من قوات الأمن. مؤتمر المغفلين نحن أمام وضع عبثي. إذ في الوقت الذي كان المؤتمرون يمدحون الفضائل التحررية للتكنولوجيات الحديثة والجديدة، كان الإنترنيت تحت المراقبة الصارمة لمزودي استعمالاته، المرتبطين بعائلة الرئيس بنعلي أو بالشرطة السرية. وقد لجأ المدافعون عن حقوق الإنسان إلى مواقع بديلة (بروكسيس) يوجد مقرها بفرنسا للإشارة إلى القمع ومناهضة الدعاية الرسمية، الأسلوب الوحيد الذي كان له الحق في الإعلام المكتوب والمرئي. وحتى داخل المؤتمر، كان يفرض الصمت على الأصوات المنتقدة. لقد أدركت الأنظمة العربية بأن مراقبة المتشددة للإنترنيت تبقى أنجع بكثير من منعه. لقد منعت سوريا مدة طويلة الإنترنيت في الوقت الذي أينعت مقاهي الإنترنيت بلبنان. ومباشرة بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة رفع هذا المنع، لكنه ما لبث فيما بعد أن منع استعماله. وللتذكير، فقد كان المكان الذي انعقد به المؤتمر قريبا من السكرتارية العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب! لم تطبق مصر نفس الرقابة، أي الرقابة المطلقة، على الإعلام مثل ما قامت به السلطات التونسية، بل سمحت بانبثاق وتطور صحافة وإعلام نسبيا حر. وقع التحول مع انطلاقة جريدة «المصري اليوم»، وهي جريدة مستقلة تم إطلاقها عام 2004، والتي لم تكن على علاقة بأي تيار من المعارضة. المهم أن وضع الإنترنيت بمصر كان مغايرا عما هو عليه بتونس. إذ لجأ الناشطون المصريون إلى خدمة الإنترنيت وشبكات التواصل خلال حملة «كفاية» ضد الاستفتاء الدستوري والانتخابات الرئاسية لعام 2005. وقد حاول المنشقون التونسيون استنساخ نفس الأساليب من خلال عملية تحت اسم «يزي»، لكن المخابرات التونسية نجحت في إفشال خطتهم. شهيد ال«فايسبوك» في شهر فبراير من عام 2005، عاد محمد البرادعي، الحائز على جائزة نوبل للسلام، ليستقر بمصر. وقد قرر العديد من الناشطين الرهان على المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية، الذي بقي بفضل الثلاثين سنة التي قضاها موظفا دوليا، بمنأى عن النظام. وقد اقترح وائل غنيم، أحد أطر «غوغل»، البالغ من العمر 29 عاما، للإشراف على إعلام البرادعي فقام بإطلاق موقع للإنترنيت جنده لجمع توقيعات من أجل بيان إصلاحي. في نفس الفترة، لكن بالإسكندرية، كان خالد سعيد ناشط الإنترنيت، وهو في ال28 من عمره، ينشر على الشبكة فيديو يظهر شرطيين يتقاسمان غنيمة من المخدرات. لكن انتقام الشرطة كان بربريا حيث أخرج خالد سعيد من أحد المقاهي وتم ضربه إلى حد الموت. حاولت السلطات المحلية طمس الحقيقة، زاعمة أن سعيد كان يتاجر في المخدرات، لكن صورة جسده المعنف وجمجمته المفككة طافت على الإنترنيت. وفي الوقت الذي قاد البرادعي مظاهرة تنديد بشوارع الإسكندرية، أطلق غنيم صفحة على ال«فايسبوك» بعنوان: «كلنا خالد سعيد»، فتحول ناشط الإنترنت إلى رمز للنضال ضد نظام مبارك اللاشرعي. ومن ثم احتدم النشاط على الشبكة خلال الحملة من أجل الانتخابات التشريعية لشهر نوفمبر 2010، التي قاطعها البرادعي والإخوان المسلمون، الشيء الذي مكن الحزب الحاكم من الفوز ب420 مقعدا من بين 518 مقعدا، مع مراقبة بقية المنتخبين المستقلين. الوضع الصعب للإسلاميين وضعت الانتفاضة الديمقراطية الإخوان المسلمين في وضع غير مسبوق، بل في وضع غير مريح. لمدة عقود، استفاد الإخوان من وضع مميز. إذ حولتهم شبكاتهم، تنظيماتهم، وتكوينهم إلى قطب أو طرف إما إيجابي أو سلبي للمشهد السياسي العربي. بعد انهيار الناصرية، بعد التفرقة بين تياري البعث السوري-العراقي، مثّل الإخوان القوة الوحيدة القادرة على تنشيط دينامية إقليمية، إذ أثروا في جيل من المثقفين والمناضلين ونزلوا بثقلهم في النقاش. كما خيم شبح الإخوان على العديد من الأنظمة العربية وعلى حلفائهم الغربيين. وغالبا ما تم النفخ والتمطيط في هذا الشبح لتبرير قمعهم. أدت هذه الأنظمة الثمن غاليا بالتركيز البوليسي على الإخوان المسلمين. وخلال عقود كان شعارهم «الإسلام هو الحل» عبارة عن البرنامج الرئيسي للحركة. لكن انتفاضة الحريات فجرت من الداخل هذا الرأسمال. إذ ظهرت شعارات ومطالب أخرى تنافس هذا الشعار. حلف الإخوان مع الجيش بعد خلع مبارك وحل البرلمان، استقبل الإخوان المسلمون بحذر «وعود» المجلس الأعلى للقوات المسلحة لما تحدث عن نقل السلطة بسرعة وبشكل سلمي إلى المدنيين. إذ أعربوا عن رغبتهم في أن «تتفرغ النخبة العسكرية لمهمتها النبيلة، ألا وهي حماية البلد». رافق هذا التحذير دعوة إلى التحرير الفوري لكل سجناء الرأي، وأغلبهم من الإخوان. كما أن مليونا من الإخوان المنفيين ينتظرون عفوا شاملا حتى يتمكنوا من العودة إلى البلد. وقد جندت المنظمة خلال الحراك الأخير يوسف القرضاوي الداعية الأكثر شعبية من بين الإخوان. وقد سبق للقرضاوي أن دعا إلى رحيل مبارك قبل أن تقدم إدارة المنظمة على ذلك. وقد احتفى القرضاوي برحيل الطاغية مبارك بتطوعه إلى إنشاد أغنية، وأمكن له بعد نصف قرن من المنفى أن يقود الصلاة بميدان التحرير يوم الجمعة 18 فبراير 2011. وبدل بداية خطابه بالجملة: «أيها المسلمون»، بدأ خطبته: «أيها المسلمون، أيها المسيحيون» واحتفى ب«شهداء» مصر من كلا الديانتين، ثم وجه تحذيرا إلى الحكام العرب قائلا: «لاتحاربوا التاريخ، لأنه ليس بمستطاعكم تعطيله لما ينطلق. فلقد تغير اليوم العالم العربي»، ثم دعا معمر القذافي إلى التنحي عن السلطة، ولما رغب وائل غنيم بالصعود إلى المنصة، منعه حراس القرضاوي من ذلك، فما كان على «الناشط الرقمي» سوى أن غادر ميدان التحرير ملفوفا بالعلم المصري. لكن وائل غنيم أخذ ثأره فيما بعد لما صعد رفقة البلطجي، وهو من شباب الإخوان، في 26 فبراير للدعوة إلى استقالة الوزير الأول المعين من طرف مبارك، وهو ما حصل خمسة أيام بعد هذا النداء. وعليه فإن حلف الأجيال بين «الشباب الغاضب» والإخوان الحداثيين بقي ولا يزال قويا. وفي الوقت الذي انشغل الإخوان بالصراعات الداخلية في مواضيع الترشح للرئاسة والتحالفات، حصل حزب الوسط أخيرا على اعتراف السلطة. وأمكن بذلك لرئيس الحزب أن يدعو إلى الاحتذاء بنموذج العدالة والتنمية التركي. كما أكد على التقارب في وجهات النظر بينه وبين أردوغان في مسألة «إعادة إصلاح الفكر الإسلامي». بعد رحيل مبارك، رأى النور ما لا يقل عن أربعة أحزاب إسلامية. كما أن تحالفا يتألف من 18 منظمة صوفية يرغب في إنشاء حزب سياسي. يبقى أن الثورة العربية. نهضة تسعى إلى إعادة الحياة إلى جسم اجتماعي مشلول، جسم شله الطغاة، زبانيتهم وشرطتهم. لكن دينامية التحديات والمسؤولية التي أطلقتها الطاقة الشابة لن تتوقف بقلب الحاكم المسن، وستعيش الأحزاب والنقابات والجمعيات أياما جديدة للغضب لتغيير مسؤوليها وإداراتها. إنها موجهة جهوية لن يفلت منها أي قطاع.
النموذج التركي قد تصبح تركيا بلدا إسلاميا، إذ كان الإخوان ينظرون إليها كأحد التجسدات العدوانية للعلمانية. اليوم أصبح حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، الذي تعايش مع الجيش وطالب بالعضوية الأوروبية وطبق إصلاحات ليبيرالية على المستوى الاقتصادي والسياسي، بالنسبة للعديد من الحركات الإسلامية القدوة التي يجب الاحتذاء بها. بمصر حاول تيار منشق ممثلا في تيار «الوسط» بزعامة عبد الإله مادي الانخراط في اللعبة السياسية. من بين 74 عضوا مؤسسا، 62 هم من الإخوان. غير أن منظمة الإخوان نددت بمحاولتهم. ولم تنفع المحاولات المتكررة التي قام بها تنظيم الوسط للحصول على ترخيص من طرف السلطة إلا مؤخرا. وفي الانتفاضات التي شهدتها مصر، ما لبث الإخوان أن التحقوا بميدان التحرير للانضمام إلى المتظاهرين. وخلال المظاهرات فقدوا ما يزيد عن 50 ناشطا من بين صفوفهم، فيما بلغ مجمل الضحايا 846 شخصا. تقاسم التيار الإسلامي اتجاهان: من جهة الشيوخ السلفيون الذين انضموا بدون أي مفاجأة إلى نداءات الامتثال التي أطلقتها البيروقراطية الدينية، ومن جهة ثانية دينامية الأجيال التي تجمع «الشباب الغاضب» والإخوان غير المسنين.