جرت انتخابات جزئية في بعض الدوائر التشريعية بعد أن ألغى المجلس الدستوري بعض نتائج انتخابات 7 شتنبر 2007، وتم التباري في الانتخابات الجزئية حول سبعة مقاعد بدوائر آسفي الجنوبية، ومراكش جليز-النخيل، وتزنيت، والمحمدية. وأسفرت نتيجة الاقتراع عن اقتسام المقاعد السبعة بين الأحزاب التالية: حزب الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والحزب العمالي، والحركة الديمقراطية الاجتماعية، والاتحاد الدستوري، والتجمع الوطني للأحرار، وحزب الأصالة والمعاصرة. هذا الحزب الأخير، ورغم الأصوات المهمة التي حصدها في أول تجربة انتخابية له بهذا الاسم، فإن حصوله على مقعد واحد فقط مثل مفاجأة حقيقية بالنسبة إلى قطاع واسع من الرأي العام والمراقبين، ذلك أن الناس في المغرب عاشوا نوعاً من التحضير النفسي لاستقبال نتائج مغايرة تماماً، وترقبوا تحقيق حزب السيد فؤاد عالي الهمة لاكتساح كبير وظفره بكل أو أغلبية المقاعد المتبارى حولها، تماما مثلما وقع بالرحامنة خلال 7 شتنبر. وقد غذت هذا التصور وسائل الإعلام وصيحات الاستغاثة الصادرة عن بعض القادة السياسيين الذين أنذروا بحدوث كارثة «تسونامي» مغربية في الحقل الانتخابي تطيح بالقلاع التقليدية للأحزاب الكبرى وتقتلع نفوذها في مختلف المناطق، وتتوج الفارس الجديد كبطل لا ينافس وكمهيمن على الساحة السياسية بواسطة حزب أغلبي نافذ، خالق المعجزات، ومبدل الخرائط، والمعبر عن صوت كل المغاربة الذين هجروا صناديق الاقتراع لأن العرض الحزبي الموجود لم يرضهم. ولهذا، فلقد اعتبر حصول حزب الأصالة والمعاصرة على مقعد يتيم، هزيمة موجعة وإخفاقاً ذريعاً، وإحساساً برعشة «الحمام البارد»، لأن الإطار المرجعي للمقارنة كان هو نتائج الرحامنة، بينما سبق لمقال نشر بهذه الجريدة تحت عنوان «حزب الدولة.. الضرة» أن نازع في سلامة الأطروحة التي تقوم على انتظار تكرار سيناريو الرحامنة بطريقة أوتوماتيكية، وقد جاء في المقال المذكور أن: (الانتصار الوطني غير مؤكد للوافد الجديد بذات السهولة التي تم فيها الانتصار الأولي بدائرة معينة، لمجرد أن الفاعل الرئيسي في الحركة السياسية الجديدة هو السيد فؤاد عالي الهمة، فلا يمكن أن نتصور أن الاكتساح الذي تحقق في الرحامنة سيتحقق بالضرورة في كل المناطق بدون «دعم خاص»، ففي الرحامنة اعتبر الناخبون ربما أنهم يصوتون على ابن البلد المقرب من مركز القرار والقادر على التوسط لهم لحل مشاكل منطقتهم. أما في مناطق أخرى، فلابد من وجوه ذات تأثير محلي مؤكد، ولن تنفع صورة عالي الهمة الوطنية لإقناع «كل المغاربة» بأنه قادر على حل مشاكلهم جميعاً أينما وجدوا وفي أية نقطة كانوا) جريدة المساء-ع 425 بتاريخ 31 يناير 2008. وقد كان وقع «الهزيمة الانتخابية» أعمق بحكم رمزية ومكانة الوجوه التي لم تتمكن من ولوج مجلس النواب، بالنسبة إلى الحزب الجديد الذي يتوفر على فريق نيابي عرمرم، ولكنه محتاج إلى طاقات جديدة ذات ماض مشرف، لضخ نفس جديد في عمل الفريق وتسويق صورة للحزب، تظهره وكأنه ليس قطعة من معمار سياسي عتيق. في ما يتعلق بنسبة المشاركة في الانتخابات الجزئية الأخيرة، فإنها تبدو على العموم منطقية، ذلك أن الإقبال على المشاركة في انتخابات جزئية يكون في العادة ضعيفاً، بالإضافة إلى عدم حدوث أي طارئ يمكن أن يحمل الذين قاطعوا انتخابات 7 شتنبر على مراجعة موقفهم. بلغت النسبة المتوسطة 27٪، إلا أن النسبة المسجلة بمراكش لم تزد على 15٫29٪، والنسبة المسجلة بالمحمدية لم تزد على 17٫22٪، فنسبة المقاطعة تتزايد بالمدن إلى درجة نخشى معها أن تتحول الانتخابات عندنا إلى شأن قروي فقط. لا تتوفر إلى حد الساعة معلومات مفصلة ومدققة وموثوق بها عن أعمال لانظامية مرتبة باشرتها الأجهزة الإدارية بتوجيه محدد لمساندة هذا الطرف ومحاربة طرف آخر، ولكن التجارب الانتخابية التي عرفتها السنوات الأخيرة في المغرب، علمتنا أن مثل تلك المعلومات لا تتظاهر على السطح إلا بعد مضي مدة من الزمن. ومن المستجدات التي عرفتها هذه الانتخابات الرمضانية الجزئية قيام مجموعة من الفعاليات المدنية بتنظيم وقفة احتجاجية في مواجهة التجمع الانتخابي الذي ترأسه فؤاد عالي الهمة بمدينة اليوسفية. وإذا كان حق الاحتجاج ضد مسؤول سابق بالداخلية أو ضد تصرف حزب من الأحزاب، يدخل في خانة الحريات المخولة دستورياً، فإن اختيار التعرض لحملة انتخابية لأحد الأطراف بشكل مرتب مسبقاً، يمكن في المستقبل بغض الطرف عن طبيعة الأطراف المتصارعة، أن يؤدي إلى ما يشبه حربا أهلية انتخابية. وربما كان الأجدر بقوى اليسار التي عارضت بشدة ممارسات وزارة الداخلية في عهد فؤاد عالي الهمة، والتي تجد اليوم في المشروع السياسي لهذا الأخير وصفة جديدة لتكريس الطابع المغلق لبنية النظام، أن تجند الطاقة الضرورية لتأمين وصول مناضلين مشبعين بقيم اليسار ومنخرطين في معركة التغيير الديمقراطي إلى مجلس النواب. إن فريقاً للمعارضة اليسارية بهذا المجلس كان سيمنح الصراع السياسي في المغرب قوة دفع خلاقة ومنتجة. فهل قدر اليسار المعارض أن يتقن فن «الحملات المضادة فقط». لقد كان هذا اليسار-على الأقل من خلال تحالف الطليعة والمؤتمر والاشتراكي الموحد- خارج حلبة التنافس الحقيقي خلال هذه الانتخابات الجزئية، بسبب امتناعه أصلاً عن تقديم مرشحين في أغلب الدوائر. ويمكن أن يعزى ذلك ربما إلى كون اليسار المعارض في المغرب مازال على العموم تحت تأثير صدمة نتائج 7 شتنبر، ولم يهتد بعد إلى وسيلة لمواجهة المعادلة التي تجعل خيوط الإمساك بالانتخابات تفلت من بين أنامله رغم صدقية رموزه وتماسك خطابه وقوة حجته. وفي الإجمال، يمكن القول إن الواقع الذي كرسته الانتخابات الجزئية الأخيرة هو عودة نفس الوجوه بعد إعادة الاقتراع، وهذا يعني أننا نتجه إذا بقيت الأمور على حالها إلى انتخابات مغربية بدون مفاجآت، تتكرر فيها نفس النتائج ولو أعيدت عشرات المرات، والسبب في ذلك هو أن الكتلة الناخبة التي تصوت فعليا مؤطرة بصورة قارة ونتائج تصويتها معروفة مسبقاً. يتعلق الأمر بما يقارب ربع الناخبين المسجلين قانونياً. وهذا الربع مرتبط «عضوياً» بأعيان معروفين، وملتزم معهم وفق تعاقد متين، ويشعر بأنه لا ينطوي على غبن لأي من طرفيه. كل واحد من الأعيان يتوفر على جيش من «المساعدين» الدائمين، الذين هم أشبه بأجراء لديه، يرتبط قوتهم اليومي به. وهؤلاء المساعدون المقتدرون واليقظون يشرفون على سير شبكات دائمة، فكل «مساعد» مرتبط بمجموعة من الناخبين، يسهر على تسجيلهم وحصولهم على بطائقهم الانتخابية وتصويتهم يوم الاقتراع، وهو وسيط يشتغل لحساب مرشح ذي نفوذ اجتماعي واقتصادي وإداري. والوسيط قد يكون مستشاراً جماعياً أو رئيس فرقة رياضية أو فنية أو ممثل سكان (سانديك) أو أحد الأعيان والوجوه المحلية أو رئيس جمعية أو ممثل مجموعة من الحرفيين أو مجرد شاب يتولى مع شباب آخرين ضبط الحياة الجماعية في حي أو درب أو مجموعة أزقة... الخ. يكلف الوسيط، باسم المرشح، بإسداء خدمات للسكان الذين يرتبط بهم، فيقوم بحملات لإعذار الأطفال، وتوزيع الأدوات المدرسية على التلاميذ، أو تقديم مساعدات مادية للمحتاجين، أو ضمان تشغيل قار أو مؤقت لعاطلين، أو توفير تسهيلات لمن يريد من السكان إنجاز أعمال بناء أو القيام بتجارة ثابتة أو متنقلة، أو حماية السكان من تدخلات السلطة سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، أو وضع منشآت رهن الساكنة، أو المساعدة في حل المشاكل الاجتماعية والتوسط حتى في حل النزاعات القضائية وقضاء المصالح الإدارية، أو تجهيز المساكن والأزقة والطرقات أو التدخل للحصول على تراخيص أو أوراق رسمية. إلى درجة أن عدداً من المواطنين بمناطق معينة لا يكادون يتعرفون على ملامح وجه الدولة إلا من خلال «مرشحهم» وبطانته ومساعديه ووسطائه، فأجهزة الدولة ومؤسساتها ليست إلا وسيلة في يده لخدمة ناخبيه الفعليين. أما تلك الأجهزة والمؤسسات فلا يشعرون بأنها تخدمهم مباشرة وترعى شؤونهم وتنشغل بأوضاعهم. ففضل المرشح على ناخبيه ثابت، وتصويتهم عليه يمثل اعترافاً بهذا الفضل وجزءاً من واجبهم إزاءه. ويحرص «مساعدو» المرشح على مراقبة عملية التصويت الفعلي للناخبين، ويحاسبون على ضوء النتائج التي تظهرها عملية الفرز في كل مكتب تصويت، إذ تتحدد مسبقاً نسبة الأصوات التي سيحصل عليها في هذا المكتب أو ذاك، وإذا لم يتم الأمر كما كان متوقعا فمعناه أن هناك من الوسطاء والمساعدين من يتحمل المسؤولية ولا يمكن أن يسمح لهم بتسلم ثمن بضاعة قدموها ناقصة. أعيان الانتخابات يخدمون الدولة، لأنهم يعوضون جزءاً من وظائفها في الرعاية الاجتماعية، ولأنهم ينافسون الدور الخيري الذي تباشره التنظيمات الإسلامية، رغم أنهم يعتمدون أحياناً على مصادر غير مشروعة لتمويل أنشطتهم الخدماتية، ولم يعد الأمر يتعلق اليوم بشراء للأصوات خلال الحملة الانتخابية بالضرورة، لأن الأموال يمكن أن تسلم للناخبين تحت أكثر من ستار أو ذريعة، خارج الزمن الانتخابي، مما يضفي بعض الصعوبة على المتابعات القضائية، ولهذا يعلن عبد الله رفوش الملقب بولد العروسية والفائز في مراكش «تحديه لخصومه بضبطه في حالة تلبس بشراء الأصوات والضغط على الناخبين» المساء ع 627-23 شتنبر 2008 ص1. إن الأجهزة الإدارية للدولة في زمن ما هي التي صنعت «أعيان الانتخابات»، وها هم اليوم قد أتقنوا اللعبة على الأرض وأعفوا الدولة من تزوير المحاضر لصالحهم، ومع ذلك فهم لم يستقلوا عن منطقها، لأنهم عموماً يقبلون في النهاية أن تمارس بهم السياسة لا أن يمارسوها، مقابل الظفر بحظوة وامتيازات الانتداب الانتخابي. ولقد أثبتت الانتخابات الجزئية الأخيرة أن حزب الأصالة والمعاصرة أمامه طريقان لا ثالث لهما للتعامل مع الظاهرة الانتخابية: - إما التسليم بأن الناخبين هم ربع الناخبين، وفي هذه الحالة يتعين استقطاب الأعيان تحت لافتة الحزب الجديد، أو فك ارتباطهم بشبكاتهم وأعوانهم واستمالة تلك الشبكات بتقديم «مقابل» أكبر مما يقدمه الأعيان السابقون، والعملية تنطوي لا محالة على قدر من «التعسف» وغير مضمونة النتائج دائما بسبب عمق الارتباط مع الشخص الذي قد يصبح في نظر البعض رمزاً لا بديل عنه. وهذا هو الطريق التقليدي! - إما التعويل على جر الثلاثة أرباع الباقية من الناخبين إلى حلبة التعبير الانتخابي. وهذا الطريق يتطلب أن يحمل حزب الهمة جاذبية خاصة تجعله في نظر الجمهور العريض من الناخبين يمثل جديدًا ويتحلى بمصداقية مفتقدة لدى الآخرين ويعد بمستقبل مغربي زاهر. هؤلاء الناخبون لا يصوتون لمجرد أن المرشح يؤمن لهم الاستفادة من شبكة خدمات شخصية منظمة.. فهم ينتظرون الجواب عن أسئلة سياسية مؤرقة، ولا يظهر من خلال الانتخابات التي جرت هذه الأيام أن حزب الأصالة والمعاصرة قد قدم لهم أجوبة مقنعة.