الفساد يطرح مشاكل ومخاطر كبيرة على استقرار المجتمعات وأمنها، مما يقوض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر، كما يؤدي الفساد إلى خلخلة القيم الأخلاقية وإلى الإحباط وانتشار اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع وبروز التعصب والتطرف في الآراء وانتشار الجريمة كرد فعل على انهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص. ويمكن حصر بعض أسباب هذه الظاهرة في: - انتشار الفقر والجهل ونقص المعرفة بالحقوق الفردية وسيادة القيم التقليدية والروابط القائمة على النسب والعائلة؛ - عدم الالتزام بمبدأ الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، في النظام السياسي وطغيان السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، وهو ما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة، كما أن ضعف الجهاز القضائي وغياب استقلاليته ونزاهته يعتبر سببا مشجعا على الفساد؛ - عدم احترام المؤسسات وسيادة القانون، وهذا ينتج عنه الاستخفاف واحتقار القرارات الإدارية والقضائية، حيث يصبح الأفراد يتحكمون في السير العادي للمؤسسات ويوجهون السياسات العمومية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، مع التحكم في جميع دواليبها، وهنا مرتع الفساد وتجذره؛ - غياب حرية الإعلام وعدم السماح لها، وللمواطنين، بالوصول إلى المعلومات والسجلات العامة، مما يحول دون ممارستها لدورها الرقابي على أعمال الوزارات والمؤسسات، وهذا ما يشجع على نهب المال العام واستباحته. إن المطالبة بمساءلة رموز الفساد واسترداد الأموال المنهوبة تجد مشروعيتها في المرحلة التاريخية التي يمر بها الوطن العربي، مطالبا باستنشاق نسيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ورافضا كل أشكال الاستبداد، ومناديا بإسقاط الفساد ومحاكمة خفافيش الظلام التي كدست ثرواتٍ نصفها في بنوك أجنبية على حساب الطبقات الفقيرة والمهمشة، كما أن الرسالة التي توجهها الدولة إلى المجتمع من خلال محاربة الفساد هي إعطاء الشرعية للمؤسسات، وإعادة الثقة في خطابات وبرامج الدولة والإحساس بالانتماء إلى الوطن وليس إلى محمية يسيطر عليها مصاصو الدماء، وترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب في البنيان المؤسساتي للدولة كضمانة أساسية لعدم تكرار نهب المال العام، هذا فضلا عن تحمل الدولة لالتزاماتها واحترام تعهداتها الدولية من خلال تفعيل بنود الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي تنص في المادة 30 الفقرة 3 على ما يلي: «تسعى كل دولة طرف إلى ضمان ممارسة أي صلاحيات قانونية تقديرية يتيحها قانونها الداخلي في ما يتعلق بملاحقة الأشخاص لارتكابهم أفعالا مجرمة وفقا لهذه الاتفاقية من أجل تحقيق الفعالية القصوى لتدابير إنفاذ القانون مع إيلاء الاعتبار الواجب لضرورة الردع عن ارتكابها». وقد أوصت العديد من المنظمات ببعض التدابير التي من شأنها الحد من هذه الظاهرة، نلخصها في ما يلي: - اعتماد قضاء متخصص في مجال مكافحة الفساد يستجيب لمتطلبات التخليق الشامل والمتغيرات المتعلقة بتنوع جرائم الفساد المالي المرتبط بتطور الأنشطة التجارية والاقتصادية؛ - نشر تقارير التفتيش والتدقيق التي تقوم بها الهيئات المتخصصة وإطلاع الرأي العام ووسائل الإعلام على كل النتائج المرتبطة بها؛ - اعتماد منظور متطور للحصانة وللامتيازات القضائية بأخذ مبدأ الرفع الفوري للحصانة والامتياز القضائي عندما يتعلق الأمر بجرائم الفساد؛ - استصدار تشريع ونصوص تطبيقية لمنع تضارب المصالح من خلال إسناد المسؤوليات، لأن هذا الخلط يترتب عنه خلق شبكات متراصة من المصالح والامتيازات تكبر بشكل أخطبوطي يجعل التحكم فيها أو محاولة إلجام طموحاتها أمرا صعبا. إن محاصرة الفساد لن تتحقق إلا في إطار الحكم الصالح الذي يعني «نسقا من المؤسسات المجتمعية المعبرة عن الناس تعبيرا سليما، وتربط بينهما شبكة متينة من علاقات الضبط والمساءلة بواسطة المؤسسات». ويمكن أن نلخص خصائص هذا الحكم الصالح في: - استناد شرعية السلطة التي تمارس الحكم إلى سلطة الشعب؛ - وجود المواطنين في قلب عملية صنع القرار؛ - وجود برامج مركزها المجتمع وتقوم على الإصغاء للمواطنين. إن الفساد لا يمثل ظاهرة منعزلة عن الإطار المجتمعي الذي ينمو فيه بل هو أحد أعراض المشكلات القائمة، وبالتالي لن يكتب النجاح لأي استراتيجية لا تأخذ بعين الاعتبار الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة وساعدت على نموها وتفشيها ولا تضع الآليات التي تساعد على مكافحتها في كل مرافق ومناحي الحياة المختلفة. إن المعركة ضد الفساد معركة طويلة الأمد، مما يتطلب تعهدات بتغيير السلوك على جميع الأصعدة، وهذا لن يتحقق دون وجود إرادة سياسية كاملة من قبل الجميع لدعم جهود هيئات النزاهة والمراقبة في إطار مكافحة الفساد المالي والإداري وضمان الدولة لاستقلاليتها المادية والبشرية وترسيم وترسيخ دولة المؤسسات في الثقافة اليومية للمواطنين.. إنها الفرصة المناسبة، في ظل ربيع الثورة العربية، لتطهير المجتمع من أخطبوط الفساد لأنه لم يعد له مكان للعيش بيننا أو مشاهدته يتحدى مطالبنا ومشاعرنا؛ فالوطن العربي لم يعد قرية آمنة للطغاة والمفسدين، ولنا في الحراك السياسي الجاري وتداعياته أبلغ الدروس والعبر، وأول هذه الدروس هي تحكم الإرادة الشعبية في صياغة الإرادة السياسية ومراقبتها ومساءلتها من خلال هدم كل جسور الفساد والخوف التي بنيت على معاناة الشعوب العربية المقهورة، وثانيها تقديم رموز الفساد للمحاكمة تلبية لمطلب الشارع الذي يطمح إلى غد ومستقبل مشرق لا وجود فيه للفساد والمفسدين.