رغم تهديد الولاياتالمتحدةالأمريكية بوقف التمويل عن منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو»، أصبحت فلسطين عضوا في هذه المنظمة الأممية في خطوة نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة. هذا الاعتراف، الذي لاقى ترحيبا عربيا وعدم ارتياح غربي، اعتبر تحديا كبيرا للإرادة الأمريكية وأولى ثمرات الربيع العربي. أخيرا صدر القرار التاريخي بقبول عضوية فلسطين كاملة كدولة في منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم، «اليونسكو»، رغم التهديدات الأمريكية وكون ذلك يعني استغناء هذه المنظمة الأممية عن جزء مهم من تمويلها. فازت فلسطين خلال الاقتراع الذي جرى في اجتماع المنظمة بالعاصمة الفرنسية باريس ب107 أصوات مقابل امتناع 50 صوتا عن الاقتراع الذي حضره 173 مشاركا. وصوتت الولاياتالمتحدة وكندا وألمانيا ضد منح الفلسطينيين العضوية الكاملة في حين صوتت البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا وفرنسا لصالحها. وامتنعت بريطانيا عن التصويت. تساهم الولاياتالمتحدة بحوالي 80 مليون دولار سنويا في ميزانية «اليونسكو»، وهي تمثل حوالي 22 في المائة من إجمالي ميزانيتها. وقد أوضحت الخارجية الأمريكية أنها كانت تعتزم تسديد 60 مليون دولار كجزء من التزاماتها في شهر نونبر الجاري، ولكنها لن تقوم بذلك الآن. وليست هذه هي المرة الأولى التي تعاقب فيها أمريكا منظمة اليونسكو، حيث توقفت عن دعمها قرابة العشرين سنة من 1984 حتى 2003 بحجة عدم توافق أهداف «اليونسكو» مع منطلقات السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أنها عادت مرة أخرى لدعمها في 2003 في فترة ولاية جورج دبليو بوش الأولى. ماذا يعني الانضمام لليونيسكو؟ اليونسكو هي أول منظمات الأممالمتحدة التي سعى الفلسطينيون للانضمام إليها كعضو كامل منذ أن تقدم الرئيس الفلسطيني محمود عباس بطلب للعضوية الكاملة في الأممالمتحدة يوم 23 شتنبر المنصرم وتقول الولاياتالمتحدة: إنها ستستخدم حق النقض «الفيتو» ضد العضوية الكاملة في الأممالمتحدةللفلسطينيين وتقود هي وإسرائيل معارضة الطلب الفلسطيني للعضوية الكاملة في اليونسكو والهيئات الأخرى التابعة للأمم المتحدة. ومن بين مهام اليونسكو تحديد مواقع التراث العالمي والارتقاء بالتعليم في جميع أنحاء العالم وإدارة نظام للإنذار المبكر من أمواج المد العاتية «تسونامي» في المحيط الهادي. ويسمح منح العضوية الكاملة لفلسطين في «يونسكو»، للفلسطينيين بترشيح الكثير من المواقع الأثرية للتراث العالمي الإنساني التي تعزز قطاع السياحة. ورشحت السلطة الفلسطينية بالفعل رسميا في فبراير الماضي مدينة بيت لحم في الضفة الغربية ومكان ميلاد المسيح لإدراجهما على لائحة التراث العالمي، كما قدمت طلبا لإدراج كنيسة المهد و«مسار الحجاج» إلى اللائحة نفسها، وتطمح السلطة الفلسطينية أيضا إلى إدراج نحو عشرين موقعا آخر على القائمة من بينها مدينة الخليل التي تضم الحرم الإبراهيمي الشريف وهو مكان متنازع عليه بين المسلمين واليهود، وكذلك أريحا وهي من أقدم المدن في التاريخ الإنساني. ومن المواقع الأخرى الدينية والثقافية والطبيعية التي يسعى الفلسطينيون لإدراجها في اللائحة، وحددتها دائرة الآثار الفلسطينية، جبل جرزيم المقدس لدى الطائفة السامرية وخربة قمران على ضفاف البحر الميت حيث اكتشفت مخطوطات والبحر الميت، وبلدة نابلس القديمة شمال الضفة الغربية. بعد اعتراف اليونسكو لا شيء يمنع من اكتساب فلسطين العضوية في بقية المنظمات الدولية المتخصصة الشبيهة باليونسكو وهي: برنامج الأغذية العالمي، برنامج الأممالمتحدة للبيئة، منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية، برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، منظمة الصحة العالمية، المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، المحكمة الإدارية للأمم المتحدة، الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى، منظمة الأممالمتحدة للطفولة «اليونيسيف»، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية، لغربي آسيا «أسكوا»؛ ففي هذه المنظمات لا يوجد فيتو أمريكي أو غيره. وحسب الخبراء فإن اليونسكو لا تستطيع إلزام إسرائيل أو واشنطن بشيء، لأن هدفها هو العمل على تعزيز التعاون والسلم العالمي من خلال التربية والعلوم والثقافة، وبالتالي قدرتها على العمل مرتبطة بتعاون مختلف الأطراف على تحقيق أهدافها وتوصياتها، ولأن واشنطن وتل أبيب متخوفتان من تداعيات اعتراف اليونسكو بفلسطين فقد تنسحبان من هذه المنظمة. وسبق لواشنطن أن انسحبت من اليونسكو سنة 1985 ولم ترجع لها إلا في 2003، وسبق لبريطانيا أيضا أن انسحبت من اليونسكو. أمريكا تهدد أكدت الولاياتالمتحدة استعدادها قطع التمويل عن أي منظمة دولية أخرى، في حال سلكت طريق «اليونيسكو»، وقبلت عضوية فلسطين. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية، فيكتوريا نولاند، في مؤتمر صحافي: «موقفنا حول هذا الأمر لم يتغير.. نعتقد أنها كانت الخطوة الخطأ في التوقيت الخطأ، ولقد أوضحنا وجهة النظر هذه». وأضافت: «نحن نعارض مواصلة هذه الجهود في منظمات دولية أخرى، ونحن مستعدون لاتخاذ الموقف نفسه إذا حصل في أماكن أخرى». وشرحت نولاند أن قرار قطع المساهمة الأمريكية في تمويل منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم «يونيسكو»، والتي تبلغ 60 مليون دولار، اتخذ «لأن لدينا تشريعا ينص على ذلك.. والقوانين الأمريكية صريحة في ما يتعلق بمحاولة دولة الحصول على عضوية بهذه الطريقة.. وكنا واضحين تماما قبل حدوثه». وأشارت إلى أنه: «في الوقت ذاته نعتقد أن الدعم الأمني الذي توفره الولاياتالمتحدة للسلطة الفلسطينية يدعم السلام، ويزيد قوة السلطات المحلية لتوفير الأمن لشعبها، وهذا أمر مهم للغاية». إسرائيل تنتقم بالاستيطان الرد الإسرائيلي الانتقامي على الاعتراف بفلسطين كعضو في اليونيسكو جاء من خلال قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تسريع وتيرة بناء المستوطنات في القدسالشرقية والضفة الغربية المحتلتين والتجميد المؤقت لتحويل أموال السلطة الفلسطينية. وسارعت الرئاسة الفلسطينية إلى التنديد بالرد الإسرائيلي، وقال المتحدث باسمها نبيل أبو ردينة إن «تسريع البناء الاستيطاني تسريع في تدمير عملية السلام وتجميد الأموال سرقة لأموال الشعب الفلسطيني». وقال مسؤول إسرائيلي حكومي كبير ل«فرانس برس»: «سنقوم ببناء ألفي مسكن، بينها 1650 مسكنا في القدس والبقية في مستوطنتي معاليه ادوميم وعفرات (جنوب بيت لحم في الضفة الغربية)». وأضاف المسؤول: «تم أيضا اتخاذ قرار بتجميد مؤقت لعمليات تحويل الأموال المخصصة للسلطة الفلسطينية حتى اتخاذ قرار نهائي». وتشكل هذه الأموال 30% من موازنة السلطة الفلسطينية وتتيح دفع رواتب 140 ألف موظف فلسطيني. وتابع المسؤول الإسرائيلي أنه لا يمكن مطالبة الإسرائيليين بأن يمارسوا ضبط النفس في حين يغلق الفلسطينيون بشكل منهجي باب مفاوضات السلام. وقال المصدر ذاته: «لقد رفض محمود عباس مجددا الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وإجراء مفاوضات مباشرة عبر مواصلة جهوده لضمان الاعتراف به بشكل أحادي في الأممالمتحدة». من جهة أخرى، شدد المسؤول الإسرائيلي على أن المساكن التي ستشيّد في القدسالشرقية وداخل مستوطنات، «نصت كل خطط السلام التي قدمها المجتمع الدولي سابقا على أن تبقى في أي حال تحت السيادة الإسرائيلية». من جانبها، أدانت فرنسا القرار الذي اتخذته السلطات الإسرائيلية بالتسريع في بناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة في القدسالشرقية. وأكد برنار فاليرو، المتحدث باسم الخارجية الفرنسية، على أن بلاده ترفض الاستيطان في الضفة الغربية كما في القدسالشرقية، مذكرا بأن الاستيطان يعد أمرا غير شرعي وفقا للقانون الدولي، كما أن من شأنه أن يهدد الحل القائم على إقامة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. بدوره، أعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه العميق بشأن قرار إسرائيل الإسراع بالنشاط الاستيطاني. وقالت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، كاثرين اشتون، في بيان: إني قلقة للغاية بسبب القرارات الإسرائيلية الأخيرة، وأضافت أن البناء الاستيطاني مناف للقانون الدولي. اليونسكو ضعيفة قالت إيرينا بوكوفا، رئيسة منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة، «اليونسكو» إن سحب التمويل الأمريكي للمنظمة الدولية سوف «يضعف» المنظمة و«يدمرها». وقالت بوكوفا، بلغارية الجنسية، في بيان إن «تعليق المستحقات على الولاياتالمتحدة وغيرها من المساهمات المالية وفقا للقانون الأمريكي سيضعف فعالية اليونسكو ويدمر قدرتها على بناء المجتمعات الحرة المفتوحة». وأضافت أن عمل المنظمة «قلب المصالح» الأمريكية، مشيرة إلى توفيرها تدريب للصحفيين في العراق وتونس ومصر وكذلك برنامج محو أمية رجال الشرطة في أفغانستان. وقالت بوكوفا إن سحب التمويل سوف «يؤثر فورا على قدرتنا على تنفيذ البرامج في مجالات حيوية مثل تحقيق التعليم العالمي ودعم الديمقراطيات الجديدة ومحاربة التطرف»، مضيفة: «أدعو الإدارة الأمريكية والكونغرس والشعب الأمريكي إلى إيجاد طريقة تضمن استمرار الدعم الأمريكي لليونسكو في هذه الأوقات المضطربة». ومن جهتها، أكدت ألمانيا، التي صوتت ضد قرار انضمام فلسطين، استمرار سداد مساهمتها في ميزانية اليونسكو. وقالت كورنيلا بيبر وزيرة الدولة في وزارة الخارجية الألمانية: «لا نعتقد أن هناك مبررا لمعاقبة اليونسكو بمثل هذه الإجراءات». ودعت فرنسا الدول المعنية إلى عدم تعليق مشاركتها المالية في اليونيسكو، كما أعلنت الولاياتالمتحدة ردا على قبول عضوية فلسطين في هذه المنظمة، كما أعلنت وزارة الخارجية. وقال برنار فاليرو المتحدث باسم الوزارة: «ندعو الدول الأعضاء المعنية إلى أن لا تعلق مشاركتها المالية»، مشيرا إلى «الدور الكبير لليونيسكو في جميع أنحاء العالم على صعيد الثقافة والتربية وتشجيع العلوم والمعرفة». السلطة الرابعة الغربية مع فلسطين صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية قالت إن الولاياتالمتحدة تجد نفسها منصاعة للقوانين الأمريكية التي تنص على وقف المساعدات عن أي مؤسسة تابعة للأمم المتحدة إذا تأكد أن هذه المنظمة تقدم أي دعم للدولة الفلسطينية، وتلك قوانين أقل ما يقال عنها أنها جائرة لأنه من غير المفهوم أن تتخذ الولاياتالمتحدة قرارات لا تتسم بالعدل وتنسبها إلى قوانين تلتزم بها لا يدري أحد كيف أجازتها السلطات القانونية في الولاياتالمتحدة، وفي ضوء هذا التطور ستوقف الولاياتالمتحدة نحو ستين مليون دولار من الدعم كانت تقدمها للمنظمة الدولية. وفي الوقت ذاته، تصف صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية موقف اليونسكو بأنه خطوة جريئة «وليس ذلك فقط لأنها تتحدى مواقف الولاياتالمتحدة في ما يخص تقديم الدعم لهذه المؤسسة الدولية، بل لأن القرار سيظل دائما يذكر العالم بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وسيدعم الطلب الذي تقدم به محمود عباس إلى المنظمة الدولية لقبول عضوية فلسطين، كما سيذكر الدول التي تقف في سبيل هذه العضوية أنها لا تستطيع أن تقف إلى الأبد ضد الإرادة الفلسطينية». وتقول صحيفة «فاينانشيال تايمز» إن القرار لا يقدم سابقة لأنه سبق لكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية أن قبلتا في عضوية المنظمة الدولية عندما كان طلباهما محل خلاف. وتحذر هذه الصحيفة البريطانية الولاياتالمتحدة من الاستمرار في الوقوف في وجه الرئيس الفلسطيني الذي لا يدعو إلى العنف بل يدعو بالطرق السلمية إلى إقامة دولته المستقلة. أرباح وخسائر دولة فلسطينية من أرباح خطوة التوجه للأمم المتحدة لطلب العضوية في مجلس الأمن أن فلسطين ستظهر مجددا على خريطة العالم، كما أن هذه الخطوة من شأنها أن تؤدي إلى تحريك المياه الراكدة التي وصلت إليها عملية السلام. تقديم الطلب هذا جاء أيضا في توقيت مناسب، حيث باتت إسرائيل تواجه انتقادات حول معاهدة السلام التي وقعتها مع مصر بعد رد فعل الجماهير المصرية الغاضبة إثر قتل إسرائيل لخمسة جنود مصريين في المنطقة الحدودية، وتصريح رئيس الوزراء المصري، عصام شرف، بأن معاهدة السلام مع مصر ليست مقدسة. إسرائيل أيضا في ورطة بسبب تركيا التي طردت السفير الإسرائيلي من أنقرة لرفضها الاعتذار لتركيا إثر قتلها تسعة أتراك مدنيين السنة الماضية أثناء توجههم إلى قطاع غزة المحاصر ضمن قافلة الحرية، وتهديد أنقرة بأن السفن الحربية التركية ستعمل على حماية «أساطيل الحرية» التي تتوجه إلى قطاع غزة، إلى جانب إيقافها العمل في الممر الذي يربط بين جنوب تركيا وشمال إسرائيل ويضم حزمة أنابيب للبنية التحتية تحمل النفط والغاز والكهرباء والمياه لإسرائيل. كما جاءت الخطوة الفلسطينية في الوقت الذي تؤيد فيه كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا الحرية والديمقراطية اللذين حملتهما ثورات «الربيع العربي»، وهو ما يعني أن وقوف واشنطن ضد حقوق الفلسطينيين يعني بشكل واضح أنها تنتهج سياسة ازدواجية المعايير بحيث أنها تدعم هذه المبادئ والحقوق فقط عندما تحقق مصالحها. ومن بين الأرباح أيضا، حسب المراقبين، كون الفلسطينيين عادوا من جديد ليكونوا هم من يتخذ زمام المبادرة بعد أن كانوا يكتفون بردود الفعل، وأثبت إصرار رئيس السلطة الفلسطينية بأنه يتمتع بثقة كبيرة بنفسه وبشعبه، لأنه حتى لو أعلن عن حل السلطة كأحد البدائل إذا ما فشلت الخطة، فإن إسرائيل وواشنطن ستكونان الخاسر الأكبر، لأن هذا الإلغاء سيؤدي إلى ضياع الأمن، الذي يشكل العصب الأساس في الوضع الراهن بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، إلى جانب ردود الفعل العنيفة المتوقعة التي ستسود الشارع الفلسطيني في حالة رفض الطلب الفلسطيني. أما في ميزان الخسائر، فيبقى أبرزها، إن لم يكن الخسارة الوحيدة هو الدعم المالي الأمريكي الذي سيتوقف وهو ما يعادل نحو 600 مليون دولار سنويا. وقد اعتبرت صحيفة «الأندبندنت» البريطانية أن التصويت على الطلب الفلسطيني في الأممالمتحدة سيحدث انقساما في الغرب بين الأمريكيين والأوروبيين وعدد من الدول الأخرى، وبالمثل بين العرب والأمريكيين، كما سيزيد الصدع داخل الاتحاد الأوروبي بين الأوروبيين الشرقيين والأوروبيين الغربيين، وبين ألمانياوفرنسا «حيث تؤيد الأولى إسرائيل لأسباب تاريخية وتبدي الأخرى ضجرها بسبب معاناة الفلسطينيين».