يعتبر ضبط قطاع الاتصال السمعي -البصري مجالا حديث العهد، وترجع فكرة ضبط وسائل الإعلام السمعية -البصرية، في الأصل، إلى الدول الأنجلو سكسونية، وخصوصا الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن أولى نماذج سلطات الضبط في هذا القطاع نجد اللجنة الفدرالية للاتصال Commission ((FCC في الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي أنشئت في ثلاثينيات القرن الماضي، في حين تعتبر بريطانيا البلد الثاني الذي حذا حذو الولاياتالمتحدةالأمريكية في هذا المجال، بينما لم يظهر مفهوم ضبط الاتصال السمعي -البصري في أوربا إلا مع التحولات الراديكالية التي عرفها المشهد السمعي -البصري الأوربي، وبالخصوص في سنوات الثمانينيات. كما أن هذا المفهوم لم يبرز في مجال قانون الاتصال السمعي -البصري إلا في السنوات القليلة الماضية، بعد أن كان يُستعمل شيئا فشيئا بشكل عامّ في إطار القانون الإداري، ليتم ربطه بمفهومين آخرين هما السلطات الإدارية المستقلة، من جهة، والسمعي -البصري، من جهة أخرى. لقد انتشرت هيآت الضبط في قطاع الاتصال السمعي -البصري في الدول الديمقراطية في أواخر القرن ال20، حيث أصبح من غير الممكن أن تقوم الدولة بالتدبير المباشر للإعلام السمعي -البصري وبواسطة الوسائل التقليدية التي تُسيَّر بها الإدارات والجماعات المحلية. فإذا كان لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية دورها، فإن الحقل الإعلامي، والسمعي -البصري على وجه الخصوص، كسلطة رابعة، لا يتوفر على هيأة متخصصة. فالعبء الثقيل تُشكّله وسائل الإعلام على الحكومات، حيث إنه يصعب عليها -رغم توفر الإرادة الحسنة- أن تُدبّر هذا القطاع بشكل متجرد وحيادي، لذلك تم الاهتداء إلى منح عملية ضبط وسائل الاتصال السمعي -البصري لهيأة إدارية مستقلة. وبقدر غياب وصفة سحرية لوجود هيأة جيدة وصالحة لضبط وتنظيم قطاع الاتصال السمعي -البصري، فإن المشاكل التي تعترض مؤسسات ضبط هذا القطاع في بلدان الشمال ليست نفسَها التي تواجه هذه الهيآت في بلدان الجنوب -والعكس صحيح- لاختلاف التجارب والسياقات التي ظهرت فيها. ورغم ذلك، فإن المبادئ والقواعد الكبرى والأساسية تبقى مشترَكة بين كافة التجارب، حتى إن انشغالاتها تبقى واحدة، رغم وجودها في سياقات جد مختلفة (حماية حرية الاتصال، ضمان التعددية والتنوع، حماية القاصرين...). ولكي تصبح مؤسسة ما هيأة للضبط والتنظيم، لا يكفيها معرفة النصوص التي يجب تطبيقها والمجال الإعلامي، ولكنْ يجب عليها معرفة واستيعاب متى وكيف يجب التموقع من أجل التصرف والتدخل. إن مفهوم الضبط، عموما، هو الذي يُميّز مهمة السلطات الإدارية المستقلة، ووظيفتها ليس التسيير ولكن الضبط، فلا يتم إحداثها من أجل التكفل بأنشطة أو تقديم خدمات للعموم، وإنما لتأطير وتنمية قطاع في الحياة الاجتماعية، من خلال بذل الجهد لضمان عدد من التوازنات. وبالاطّلاع على الأدبيات التي كُتِبت في الموضوع، يُلاحَظ أن مصطلح الضبط لا ينتمي في القاموس المعتاد لدى القانونين، لكنه أصبح اليوم يُستعمَل أكثر فأكثر لدى المتخصصين في القانون العامّ، خصوصا عندما يدرسون فعل/ عمل السلطات الإدارية المستقلة. وتجدر الإشارة هنا إلى تأثير المعجم القانوني الأنجلو سكسوني في بروز مفهوم الضبط. «الضبط يهدف إلى الحفاظ على التوازن وضمان الاشتغال الجيد لنظام معقد» يرى بعض المتخصصين في الاتّصال أن تدخل السلطات العمومية يكون مقصودا من أجل توجيه، وعند الاقتضاء، قيادة تصرفات وسلوك الفاعلين في نظام الاتصال السمعي -البصري بطريقة يشاركون بها في الاشتغال الجيد للنظام، ولذلك فإن مفهوم الضبط لا يعتبر إلا اللباس والحُلّة الجديدة لمفهوم قانوني تقليدي، فرغم أن مفهوم الضبط له تاريخ طويل، فإن ولوجه إلى مجال الاتصال السمعي -البصري يعتبر حديثا، حيث إنه لم يظهر في مجال قانون الاتصال السمعي -البصري إلا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. إن انتشار مفهوم الضبط لم يقتصر على الدراسات والأبحاث المتعلقة بالسلطات الإدارية المستقلة بل وُظِّف، أيضا، في الأبحاث والكتابات المتعلقة بالاتصال السمعي -البصري، وهنا، أيضا، يبرز تأثير التجربة الأنجلو ساكسونية. وقد ساهم تطور قطاع الاتصال السمعي -البصري، في فرنسا بشكل أساسيّ، في انتشار وشعبية هذا المفهوم، كما تجدر الإشارة هنا إلى أن لهذا المفهوم في التجربة الفرنسية أصول فقهية وليس تشريعية. وفي هذا الإطار، يقدم الفقه التعريف التالي للضبط: إنه «الحفاظ على التوازن وضمان الاشتغال الجيد لنسق/ نظام معقّد». كما أن دراسة اختصاصات هيآت الضبط تسمح بتحديد دلالة هذا المفهوم وباستنتاج ثلاثة مكونات لعملية الضبط فهناك: -السلطة التنظيمية، من خلال وضعها مجموعةً من القواعد العامة ذات الصفة الإلزامية ولها الطابع الحقيقي للقواعد، -سلطة إصدار القرارات الفردية، وهي قرارات تقود هذه الهيآت إلى الاهتمام بالوضعيات الخاصة وبالتوازنات الملموسة للقطاع الذي تتكفل به، -سلطة المراقبة، التي يمكن أن تتفرع إلى ضمان المعلومة الملائمة وامتلاك سلطات التحقيق وتوفُّرها على سلطة الإجبار وإصدار الأوامر. ومن خلال دراسة أدوات عمل المجلس الأعلى للسمعي -البصري الفرنسي، يتم تحديد ثلاثة عناصر تُشكّل، مجتمعة، وظيفة هيأة الضبط: السلطة التنظيمية، وسلطة إصدار القرارات الفردية، وسلطة المراقبة والجزاء. وغالبا، ما يوظف مفهوم ضبط الاتصال السمعي -البصري دون تعريفه، كما لو أن دلالته تتّضح انطلاقا منه دون الحاجة إلى تعريفه، وقليلون هم من حاولوا التأصيل، نظريا، للمفهوم، حيث ذهبوا إلى أن الضبط هو الذي: «تحدد فيه الدولة بعض المبادئ الأساسية ولكنها بسيطة، وتترك من أجل تطبيقها الهامشَ الكبير لهيأة مستقلة تضمن الديمومة والاستمرارية». ومن أجل ضبط قطاع الاتصال السمعي -البصري، يتم اللجوء إلى السلطات الإدارية المستقلة. وقد تعاقبت ثلاث مؤسسات، على التوالي، في التجربة الفرنسية. ويترجم هذا التعاقب، بلا شك، صعوبة الانتقال من مجال كانت تحتكره الدولة إلى مرحلة أصبح فيها تحت إشراف هيأة مستقلة، فمن المسؤولية المباشرة للدولة إلى سلطة مستقلة للضبط والتنظيم. وهذه الصعوبات مرتبطة بخصوصية هذا المجال، الذي يعتبر مجالا رمزيا وحساسا، ويُبيّن اللجوء إلى تغيير اسم هذه المؤسسات المحدثة لهذا الغرض في فرنسا، بوضوح، تلك الصعوبة التي يعرفها ضبط وتنظيم هذا القطاع، فمن السلطة العليا للاتصال -السمعي البصري (Haca) مرورا باللجنة الوطنية للاتصال والحريات (CNCL) وصولا إلى المجلس الأعلى للسمعي البصري (CSA). ويوضح استمرار وبقاء السلطة الحالية المُكلَّفة بضبط وتنظيم قطاع الاتصال السمعي -البصري بعد بعض التأجيل والتأخير والمماطلة، أن القطاع ربح، أيضاً، بعض الاستقرار المؤسساتي، كرمز لنضج أكبر في مقاربة الأسئلة والإشكالات التي تخترقه. وقد وصف المجلس الدستوري الفرنسي، في بعض قراراته، المجلسَ الأعلى للاتصال السمعي -البصري بأنه «سلطة إدارية مستقلة» حامية لحرية الاتصال السمعي –البصري، مما يدل على أهمية هذه المؤسسة. أستاذ باحث - هشام مدعشا