توقعت منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة «الفاو» أن تصبح أسعار الغذاء «أكثر تقلبا في السنوات المقبلة، ما يزيد خطر معاناة الفقراء من الجوع في البلدان التي تعتمد على الواردات»، ورغم تحسن الأسعار في الفترة الأخيرة، ترجح المنظمة أن «يسبب الارتباك الاقتصادي وانخفاض احتياطيات الحبوب والصلات الأوثق بين أسواق الطاقة والزراعة وازدياد أخطار أحوال الطقس، تقلبا أعنف في الأسعار مستقبلا».. تلك الخلاصة الأهم في ذلك التقرير، الذي يشير إلى مؤشرات تنذر بتزعزع الأمن الغذائي في العالم.. تقرير قد يجد له صدى في المغرب ويدفع إلى التساؤل حول احتمالات تحقيق الأمن الغذائي فيه، خاصة في ظل ارتفاع فاتورة الغذاء فيه بشكل غير مسبوق مما ينعكس سلبا على الميزان التجاري وميزان الأداءات، ويتسبب في سيادة نوع من عدم اليقين حول توفير الحاجيات من المواد الغذائية، خاصة بالنسبة للمواد الاستراتيجية التي خطط المغرب في الستينيات من القرن الماضي إلى تحقيق اكتفائه الذاتي منها، قبل أن يتجلى أنه لم يتمكن من بلوغ الأهداف التي حددها، بل إنه تراجع عن بعضها. من الاكتفاء الذاتي إلى الأمن الغذائي قلص المغرب أفق انتظاره على مستوى الاستجابة للطلب على الغذاء، حيث رفع شعار الاكتفاء الذاتي في الستينيات من القرن الماضي، دون يتمكن من ترجمة ذلك الهدف على أرض الواقع، قبل أن ينتقل مع موجة برامج التقويم الهيكلي إلى السعي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، مسترشدا بمنظور البنك الدولي الذي كان يعتبر أنه يربط ذلك الهدف بتوفر العملة الصعبة لدى الدول من أجل شراء المنتوجات من السوق العالمية، و بالتالي يفترض في الدول التخصص في إنتاج ما تتوفر فيها على ميزات تفاضلية، تخول لها الحصول على العملة الصعبة التي تتيح لها اقتناء الغذاء، غير أن هذا التعريف تم تجاوزه في القمة العالمية للغذاء التي رعتها منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة في سنة 1996، حيث تم التأكيد على أن الأمن الغذائي يتحقق عندما يمكن للأفراد الولوج، ماديا واقتصاديا، في أي وقت وبكمية كافية للغذاء، غير أن ذلك التعريف اشترط عند توفير تلك المنتوجات للأفراد أن تكون صحية و مغذية، مما يعني أن الأمن الغذائي يرمي إلى توفير حاجيات المستهلك بكميات كافية مع مراعاة القدرة الشرائية. هل تتجه السياسات العمومية في المغرب إلى تحقيق مضمون هذا التعريف، خاصة على مستوى بعض المنتوجات الفلاحية الاستراتيجية، التي تتمثل في اللحوم والحليب والحبوب والسكر والزيوت، علما أن مشتريات المغرب من المنتوجات الغذائية مافتئت ترتفع في السنوات الأخيرة وتضغط على مالية الدولة.
المنتوجات الغذائية تفاقم العجز التجاري يؤشر ارتفاع مشتريات المغرب من الخارج على نوع من التبعية الغذائية التي سوف تتفاقم كلفتها في السنوات القادمة إذا ما استمرت تقلبات الأسعار في السوق الدولية. فقد تجلت الأزمة الغذائية على الصعيد العالمي بارتفاع كبير لأسعار المنتوجات الغذائية، التي بلغت في الربع الأول من سنة 2008، أعلى مستوى لها منذ ثلاثين عاما، ورغم التراجع الذي عرفته في بعض الفترات خلال الأربع سنوات الأخيرة، إلا أن ذلك لا يمكن أن يخفي حسب الخبير المغربي محمد أيت القاضي، الأسباب الهيكلية لارتفاع الأسعار الفلاحية. تلك وضعية كانت لها آثارها على مشتريات المغرب، فقد وصلت واردات المغرب من القمح في نهاية شهر شتنبر الماضي، حسب المعطيات الأولية التي يوفرها مكتب الصرف إلى 7.07 مليارات درهم، بزيادة بنسبة 76.5 في المائة، مقارنة مع الفترة نفسها من السنة الماضية، وقفزت مشتريات السكر إلى 3.6 مليارات درهم، بزيادة بنسبة 61.4 في المائة، وبلغت واردات الذرة 3.59 مليارات درهم بارتفاع بنسبة 26 في المائة.. وهذا يؤكد التدهور الذي عرفه ميزان المنتوجات الفلاحية والغذائية، فقد ارتفعت حصة تلك المنتوجات في مجمل المشتريات من 9.8 في المائة في 2006 إلى حوالي 13 في المائة في 2008. وانتقلت حصة فاتورة الغذاء في العجز التجاري من 20.9 في المائة في 2006 إلى 24.5 في المائة في 2007 و25.8 في 2008. ضعف إنتاج المواد الاستراتيجية يعتبر سعيد خير الله، نائب الكاتب العام لنقابة القطاع الفلاحي التابعة للاتحاد المغربي للشغل والمهندس المتخصص في الاقتصاد الفلاحي، الذي يدافع عن مفهوم السيادة الغذائية أن السياسات الفلاحية لم ترم إلى بلوغ هدف الأمن الغذائي، حيث توجهت لخدمة الفلاحين الكبار والسوق الخارجية، تلك سياسات أفضت في نظره إلى تباين على مستوى الإنتاج بين المزارعين، وهذا ما يتجلى على مستوى الحبوب، حيث لا تتعدى الإنتاجية في أراضي البور 15 قنطارا في الهكتار وما يتعدى 80 قنطارا في الهكتار في الأراضي المسقية. نفس الشيء يلاحظه الاقتصادي، نجيب أقصبي، الذي يعتبر أنه على مدى أربعين سنة لم تتجاور زيادة الإنتاج في الهكتار من الحبوب أربعة قناطير بمعدل قنطار في كل عشر سنوات، بينما تصل تلك الزيادة في فرنسا إلى 10 قناطير في الهكتار على مدى عشر سنوات، هذا ما يفضي إلى حقيقة مفادها أن محصول الحبوب يتغير بشكل قوي حسب السنوات، ويظل رهينا بالتساقطات المطرية، حيث يتراوح معدل التغطية بين 30 و 60 في المائة. تغطية الطلب الداخلي ظلت في حدود 45 في المائة في أحسن الأحوال بالنسبة للسكر، وهو معدل يمكن أن يرتفع إذا تمت الاستجابة لمطالب المزارعين الذين يسعون إلى رفع أسعار الشمندر التي ظلت في السنوات الأخيرة دون تلك المعمول بها على الصعيد الدولي. لكن إذا كان المغرب يتمكن في بعض الأحيان من تأمين 45 في المائة من حاجياته من السكر عبر الإنتاج المحلي، فقد تخلى بسبب الثقة في السوق الدولية في السنوات الأخيرة، عن إنتاج عباد الشمس الذي تراجعت مساحته من 200 ألف هكتار إلى 20 ألف هكتار، حيث تظل تلبية الحاجيات من زيوت المائدة رهينة للسوق الخارجية التي توفر أكثر من 80 في المائة من الحاجيات، وإذا كان ما ينتجه المغرب من اللحوم الحمراء و الحليب ومشتقاته يستجيب للطلب الداخلي، فإن أقصبي يتساءل حول مدى توفر رؤية واضحة حول استجابة الإنتاج من تلك المادتين لتطور الاستهلاك في السنوات القادمة. في الحاجة إلى دراسة استراتيجية للاستهلاك يعتبر أحمد بنتهامي، مدير تنمية سلاسل الإنتاج في وزارة الفلاحة، أن المخطط الأخضر وضع من بين أهدافه ضمان إنتاج بكميات كبيرة من المواد الأساسية، خاصة السكر والحبوب والحليب والزيوت واللحوم، ويدلل على ذلك بالمخطط الذي يرمي إلى مضاعفة إنتاج الحليب في المغرب والمخططات الأخرى التي تهم سلاسل إنتاجية مثل الزيتون والحبوب، ثم إنه يؤكد أن تحقيق أهداف المخطط الأخضر على مستوى توفير الإنتاج من المواد الأساسية والتحويل في بعض المناطق لبعض الزراعات البديلة واكبه رفع ميزانية وزارة الفلاحة التي انتقلت من ملياري درهم إلى ثمانية ملايير درهم، مما يوفر لها وسائل تنفيذ سياستها، غير أن أقصبي يعتبر أن سعي المخطط إلى رفع الإنتاج في بعض السلاسل لم يواكبه القيام بدراسة استراتيجية تتوقع تطور الاستهلاك في المغرب، فهو يشير إلى أنه على مستوى الحبوب تتطلع السلطات العمومية إلى زيادة الإنتاج ب 20 في المائة، غير أنه يشير إلى أن ذلك الهدف لا تواكبه دراسة مدى استجابة تلك الزيادة لتطور حجم الساكنة في المغرب، في نفس الوقت يلح مصدر مطلع على ضرورة توجه المغرب نحو بناء الأمن الغذائي على مساهمة الفلاح الصغير، عبر توفير مداخيل مجزية تواكب تطور الأسعار في السوق الدولية، خاصة في ظل تعبير بعض الفلاحين الصغار عن استنكافهم عن المضي في إنتاج بعض المنتوجات الاستراتيجية، وهذا ما تجلى مؤخرا في مناطق إنتاج الشمندر وقصب السكر، حيث هدد الفلاحون بالإمساك عن الإنتاج في ظل ارتفاع التكاليف، مما اضطر الشركة المنتجة للسكر في المغرب إلى الوصول إلى اتفاق يرمي إلى زيادة الثمن الذي تبذله من أجل المادة الأولية.