نور الدين صدوق يمكن القول إن التجربة الروائية للعراقي لؤي حمزة عباس من بين التجارب القوية المؤشرة، من جهة، على امتداد أدبيّ فاعل منتج، ومن ثانية، على تنويع يحيل عليه المنجز الروائي، تأسيسا من التراكم المتحقق (الفريسة -2004، كتاب المراحيض -2007 صداقة النمر -2011 ومدينة الصور -2011).. علما أن الروائيَّ يوازي، سرديا، بين كتابة الرواية والقصة، للانخراط في البحث والدراسة الجامعية الأكاديمية. على أن تلقي التجربة الأخيرة «مدينة الصور» يجعلنا نقف على اختيارين تَحدَّد في ضوئهما التفكير في إنتاج المعنى الروائي، ويرتبطان بالمادة المشتغَل عليها، كما صيغة الكتابة.. فالمادة تتأسس على الصورة الفوتوغرافية المُجسِّدة لفضاء محدد بدقة (البصرة) ومن خلال مكان (المعقل).. وأما الصيغة فتتمثل في التخييل الذاتي، الدال على علاقة الذات بالفضاء.. فالذات تقرأ تفاصيل زمن وتؤرخ له بالارتهان إلى الصورة، إلى ما يعد حقيقة في فترة وليس في غيرها.. أقول ما قد يوهم بالحقيقة، ما دامت الصورة تذكارا خياليا عن مرحلة.. إنها التذكار الاستعادي.. حيث يُستدْعَى الماضي ليتشكل في الحاضر سردا... لقد كانت الصورة نواة التشكيل، بما هو رسم.. أما في «مدينة الصور» فهي السرد ذاته. إنها التأريخ للمنفلت والتثبيت الفعلي له.. وكما يقول الفرنسيون: «ما يبقى من الصورة هو الضحك»... إن اعتماد الاختيارين دليل على كفاءة وقناعة الإضافة إلى الكتابة الروائية العربية، وبالتالي الامتداد بالنص الروائي العراقي، في سياق التجديد المرتبط بالمادة والصيغة.. يتأسس توالد المعنى في «مدينة الصور» باعتماد جملة ثابتة دوّنت قصدا بخط مضغوط وتنوع في كيفية صوغها وتوسيعها: «الصور تكذب».. «لأن الصور تكذب».. « الصور تكذب.. والمجلات تكذب.. والأجساد تكذب»... يقصد من الجملة -النواة ترسيم بلاغة السرد الروائي، بتوظيف التكرار القصديّ، الدال على الإيقاعات الروائية ومستويات التحول اللغوية.. فما يحدث على البياض من انتقالات يتجسد في الواقع على السواء. من تم، فالفعل «تكذب» يترجم الواقعَ ويرسمه في غير زمنه. وهنا يحضر فعل التخييل والحلم. فالصورة تثبت واقعا: صورة شخصية، حدثا أو حالة. وبفعل التثبيت، ليس ثمة مجال للتبديل والتغيير. ومن ناحية أخرى، فالتثبيت حصْرٌ لزمن النص الروائي، أقول لزمن المعنى، المتمثل، أساسا، في الستينيات والسبعينيات، ف»مدينة الصور» هي تأريخ الذات لتحولات الفضاء وتغيراته. ومن تم، تولدت الجملة -البداية أو المفتاح: «شيء ما يتغير.. شيء لا يكاد يرى».. (ص. 9) والملاحظ أن الجملة -المفتاح تختصر وتختزل اللاحق، مما يدل عليه المعنى الروائي.. إن المفردات الروائية السالفة: الذات، الفضاء، الصورة، الحلم والواقع تستدعي تمثل ثنائية الفقدان -الحنين.. فالزمن المستعاد عبر مستويين، مستوى الصورة ومستوى ما لا علاقة له بها، حال الحديث عن السياسي، متمثلا في عبد الكريم قاسم وصدام حسين، إلى العلاقات الرابطة بين يوسف، سعود، كريمة وصفاء، والتي (قد) تحيل على الواحد، بمثابة زمن تحقق فقدانه.. وبتدوين مادته وتفاصيلها التي تخدم الرواية، يتولد الحنين إلى المنفلت، لتغدو الكتابة الروائية تأريخية وليس «تاريخية»، من منطلق كونها تُوثّق لحقبة، لمرحلة من تاريخ العراق وتاريخ الذات، على السواء.. فالذاتيُّ يذوب في الاجتماعيّ، السياسي ويمزج الحلمي بالواقعي، لرسم صورة متفردة: -»إنه يرى خاله في كل مرة يحلم فيها.. كأن العالم لم يعد فيه غير خاله يراه يمشي ومن حوله الكلاب».. (ص .21) «كانت صور عبد الحليم شغلنا الشاغل قبل أن تحل علينا صور يوسف حنش مثل لعنة آسرة» (ص. 24) «كانت الصور تعيش في رأسي حية.. نضرة.. لها رائحة وطعم». (ص. 27) تجمع رواية «مدينة الصور» بين ربط الذات بالفضاء من منطلق أنْ لا قيمة للمكان إلا بالمتفاعلين فيه أو الذين قاموا بذلك.. من تم تشكّلت بنية روائية لا يمكن حصرها في التأريخ للذات أو المدينة، وهذا التوجه لا يجعل النص «سيرة مدينة» أو ذاتا، وإنما ينخرط في توسيع مفهوم «التخييل الذاتي»، حيث يتأسس بناء النص على تفاصيل وجزئيات ذاتية تستغل ويستفاد منها في الكتابة الروائية، وإن كان إنتاج المعنى الروائي في السياق العام ينبني، بدءا، على حدث مضى وأحداث أو وقائع ذاتية تطلق شرارة التخييل.. والواقع أن الكتابة الأدبية الإبداعية عن فضاء «البصرة» تتطلب المقارنة بين ما كتبه محمود خضير في «بصرياثا» وما دونه الروائي لؤي حمزة عباس في «مدينة الصور». يبقى لنص «مدينة الصور» فرادته وخصوصيته، إذا ما ألمحنا إلى طبيعة الاختيار -المراهنة على الصور الفوتوغرافية. كما لتجسيد علاقة الذات بالفضاء، في صيغة تخييل ذاتي وروائي.