هزيمة الجزائر على أرض أحرار ليبيا على ثلاثة أوجه: هزيمة أولى تمثلت في كونها راهنت على المستبد ولم تراهن على شعبه، مع أن ثورتي تونس ومصر أعطتا الدليل على أن الرابح في كل ثورة شعبية هو الشعب وحده، وهي بهذا ناقضت المادتين 26 و27 من دستورها ل2002، والذي تعلن فيه أنها «متضامنة مع جميع الشعوب التي تكافح من أجل التحرر السياسي والاقتصادي والحق في تقرير المصير، وضد كل تمييز عنصري»، ولا نموذج يعلو على نظام العقيد في الاستبداد الاقتصادي والسياسي والتمييز العنصري. وهزيمة ثانية تمثلت في كونها أزالت بيدها قناع «مغرب الشعوب» الذي تبرر به مساندتها لأطروحة البوليساريو، وهذا أعاد إلى الأذهان حجم التآمر الذي تورطت فيه قبل عامين عندما «رقت» لحال مغربية واحدة رفضت مغربيتها، لأسباب هي نفسها لا تعلمها، في حين لم تلق بالا إلى ملايين الليبيين الذين بذلوا أرواحهم للتعبير عن رفضهم لنظام كتم أنفاسهم لأربعة عقود، فالجزائر بهذا ناقضت المادة الثامنة من دستورها والتي ترفض «استغلال الإنسان للإنسان». وهزيمة ثالثة أمام أعين العالم تمثلت في كونها ساندت الظالم وهي التي تعتبر نفسها وريثة الثورة الجزائرية، وهي بهذا قد ناقضت المادة التاسعة من دستورها الذي يحرم السلوكات المنافية لثورة نوفمبر، لذلك فتذبذب مواقفها من المجلس الانتقالي الليبي هو الدليل الأوضح على «حالة الشرود» التي وجد فيها النظام الجزائري نفسه. ففي البداية، بدا النظام الجزائري جازما في رفضه الاعتراف بالمجلس الانتقالي الليبي، وبرر ذلك بتأكده من تورط تنظيم «القاعدة»، وبعد ذلك قدم مبررا آخر هو «الاستياء من التدخل الأجنبي»، وهو مبرر سرعان ما انتبه سكان قصر المرادية إلى تهافته لكونه يعطي الاسم المناسب لحالة تدخله هو أيضا في الشأن الداخلي المغربي، فأصدروا موقفا آخر يشرط الاعتراف بالمجلس باعتراف «الاتحاد الإفريقي»؛ وعندما اعترف به هذا الأخير، صنع شرطا آخر هو تشكيل حكومة، ليعود النظام الجزائري نفسه بعد ذلك إلى الاعتراف بالمجلس الانتقالي على الرغم من أن الحكومة الليبية لم تتشكل بعد. وفي هذا التخبط دلالة واضحة على الهزيمة المدوية للنظام الجزائري على الأراضي الليبية.. تخبط قال عنه وزير الخارجية الفرنسي إنه أقل ما يمكن أن يقال.. ثم إن هذه الهزيمة تعتبر هزيمة أيضا من حيث مشروعية النظام الجزائري نفسه، فليس هناك شيء أسوأ من أن يناقض نظام ما دستوره، كما بينا في السابق، أما سرعة سفر وزير الخارجية المغربي إلى بنغازي غداة سقوط طرابلس فهي حركة ذكية موجهة إلى مرسل إليه واحد، وهو «باي» قصر المرادية، فقد انتهت الجولة.. و«عُقبا لْوَحْدَة اخْرَى». لقد كانت الثورة الليبية ثورة شعب ضد مستبد، أقدم مستبد على وجه الأرض، ولكنها كانت أيضا جولة يد حديدية بين حدسين إن شئنا: حدس مغربي التقط حقيقة ما يجري في الثورات العربية، منذ الوهلة الأولى، فتفاعل معها في الداخل والخارج، وحدس جزائري لم يفهم بعد حجم الزلزال الجاري، فأخطأ الفهم والحكم، واختار أن يكون ضد إرادة شعبه المجاهد وضد منطق الزمن الجديد، عبر تبني تبريرات القذافي ذاتها، وخاصة تبرير تورط تنظيم «القاعدة» في دعم الثوار، فإذا كانت الجزائر هي التي وفرت الشرط الموضوعي لتشكيل النواة الأولى لهذا التنظيم، عقب انقلاب بداية التسعينيات، بدليل أن مؤسسي النسخة المغاربية للتنظيم كلهم جزائريون، ثم إن مجمل عمليات التنظيم الآن تنحصر في الجزائر بشكل يومي، فإن القول ب«الخوف من تنظيم القاعدة» لتبرير الانحياز إلى القذافي يصبح غير مبرر إطلاقا، وهنا تصبح التقارير، التي تكلمت عن وجود صفقة مالية ضخمة استفاد منها العسكر لاستقبال عائلة القذافي، تقارير لها نسبة ما من المعقولية في نظام يبيع فيه العسكر كل شيء، نظام يعيش بحبوحة مالية على مستوى الأرقام وضنك على مستوى الواقع الفعلي للمواطن الجزائري. الجولة بين المغرب والجزائر على الأرض الليبية كانت مفاهيمية أيضا، الجزائر اختارت «شماعة القاعدة» مع أن عدوى «القاعدة» هي مصدرها، فالنظام الليبي الجديد هو من عليه أن يخاف من «قاعدة» الجزائر وليس العكس، أما المغرب فقد لعبها بشكل جيد هذه المرة، فهو اختار الأرضية المفاهيمية للنظام الجزائري، لكون دستور هذا الأخير يعلن صراحة عن دعمه لما يسميه «مغرب الشعوب»، لذلك اختار المغرب الأقصى مغرب الشعوب، واختار العسكر «مغرب المستبدين»، ربما هو «وفاء» العسكر للعسكر أو هو «حنين» بوتفليقة إلى شعارات «المد الثوري» باللغة البالية للاشتراكية، ولاسيما أن المطاح به كان لا يزال يجعل من الاشتراكية إيقونة مزيفة لتجميل نظامه.. إنها هدية من السماء أن خان الحدس والبصيرة حكام الجزائر ككل مرة، هدية تحتاج إلى الذكاء الديبلوماسي اللازم لاستثمارها، وخصوصا منها ورقة لا زالت لم تستثمر إطلاقا حتى اليوم، ونقصد ورقة مشاركة عناصر من البوليساريو في الحرب إلى جانب العقيد، وهو أمر نعرف جيدا أنه لا يمكن أن يتم بشكل فردي معزول، فإذا كان مسؤولو البوليساريو عاجزين عن رد التحية إن وجهت إليهم دون أخذ إذن من قصر المرادية، فكيف يبادرون إلى توقيع خطوة كهذه وينطلقون من أرض دولة ذات سيادة، للقتال إلى جانب نظام آخر؟ لماذا لا يطالب المغرب المجلس الانتقالي بأسرى البوليساريو لديه؟ فهذه الورقة يمكن أن تضمن إلى حد كبير انتصارا لقضية وحدتنا الترابية التي قالت عنها الجزائر يوما إنها قضية «شعب يريد تقرير مصيره»، فكيف لمن يدعون تمثيل شعب أن يساندوا مستبدا في قتل شعب آخر!؟ لقد شاءت الأقدار أن يكون العقيد الليبي، المهدور دمه الآن، هو من أوقد نار الانفصال لدى حفنة من الطلبة الصحراويين في بداية نظامه، وسيكون هو أيضا من سيخمدها عند نهاية نظامه، وما الوثيقة السرية التي نشرها موقع «ويكيليكس» عن لقاء جمع السفير الأمريكي بممثل الجبهة في الجزائر، والتي جاء فيها عزم البوليساريو على القبول باختيار الحكم الذاتي كحل مؤقت، إلا دليل على أننا نسير على الطريق الصحيح وأن «هدية» القذافي إلينا ينبغي أن نحسن استثمارها بذكاء.. فلن يجود الدهر بقذافي آخر.