في كتابه «جرأة الأمل»، يشارك المرشح للرئاسة الأمريكية عن الحزب الديمقراطي باراك أوباما القارئ أفكاره عن كيفية معالجة الانقسامات الداخلية الأمريكية، حيث يطالب بنوع مختلف من السياسة ويعرض لعدم الاستقرار الاقتصادي المتزايد في الأسر الأمريكية والصراعات العرقية والدينية داخل المؤسسات السياسية والمخاطر الخارجية التي تهدد الولاياتالمتحدة من العنف إلى الأوبئة. لهذا اعتبر أوباما ما جاء في كتابه أفكارا للمطالبة بالحلم الأمريكي. على الرغم من أن الفساد كان موجودا في كل مستويات الحكومة -فحتى أصغر تفاعل مع شرطي أو موظف بيروقراطي ينتج عنها رشوة، كما أن كل السلع والمنتجات التي تدخل وتخرج من البلاد من النفط إلى القمح مرورا بالسيارات كانت تمر بالضرورة عبر الشركات التي يسيطر عليها الرئيس وأسرته وأعضاء من المجلس العسكري الحاكم- فإن ما يكفي من الثروة النفطية والمساعدات الخارجية كان يعاد استثمارها في المدارس والطرقات وغيرها من مرافق البنية التحتية. وقد شهدت بفضل ذلك مستويات المعيشة لدى عموم الإندونيسيين ارتفاعا كبيرا، ما بين 1967 و1997، حيث انتقل دخل الفرد من 50 إلى 4600 دولار سنويا. أما بالنسبة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد أصبحت إندونيسيا نموذجا للاستقرار وموردا للمواد الخام ومستوردا للسلع والمنتجات الغربية وحليفا قويا وحصنا ضد الشيوعية. لقد بقيت في إندونيسيا مدة كافية لأرى نطاق اتساع هذا التوجه. عندما أنهى زوج أمي خدمته العسكرية، بدأ يعمل في شركة نفط أمريكية. انتقلنا للعيش في منزل أكبر وأصبحت لنا سيارة وسائق خاص، وثلاجة وجهاز تلفزيون. لكن في سنة 1971، بعثتني أمي للعيش عند جدتي وجدي في هاواي، لأنها كانت تهتم بدراستي وتعليمي، وربما أيضا كانت تتوقع المسافة المتزايدة بينها وبين زوج أمي. سنة بعد ذلك، التحقت بي هي وأختي في هاواي. لكن علاقة أمي بإندونيسيا لم تنته ولم تخب. فخلال العشرين سنة التي بعدها، ظلت والدتي تسافر ذهابا وإيابا إليها. لقد عملت والدتي لستة أو اثني عشر شهرا كخبيرة في قضايا تنمية المرأة، وكمصممة لبرامج لمساعدة المرأة القروية لكي تبدأ بأعمالها التجارية الخاصة بها أو تقديم منتجاتها في الأسواق. لكنني عندما عدت ثلاث مرات أو أربع إلى إندونيسيا خلال سنوات المراهقة في زيارات قصيرة، حولت حياتي واهتمامي تدريجيا إلى مكان آخر. ما أعرفه عن تاريخ إندونيسيا حينئذ علمته بالأساس عن طريق الكتب والجرائد والقصص التي حكتها لي أمي. لخمس وعشرين سنة، وبصورة متقطعة، استمر نمو اقتصاد إندونيسيا، وأصبحت جاكرتا حاضرة تعيش فيها تسعة ملايين نسمة تقريبا، مع ناطحات السحاب والأحياء الفقيرة والدخان وحركة المرور. النساء والرجال تركوا الأرياف للانضمام إلى صفوف العمال في منشآت التصنيع التي بناها الاستثمار الأجنبي والتي تصنع الأحذية الرياضية لشركة «نايك» والقمصان لشركة «غاب». بالي أصبحت الخيار المناسب لنجوم الروك وممتطيي أمواج البحر بفنادقها الخمس نجوم والارتباط بالأنترنت ومطاعم الدجاج «كنتاكي تشيكن فرايد» الأمريكية. في أواخر التسعينات، أصبحت إندونيسيا تعتبر من «النمور الآسيوية» وإحدى قصص نجاح العولمة. حتى الجوانب المظلمة من الحياة الإندونيسية المتمثلة في السياسة وسجل حقوق الإنسان ظهرت عليها بعض علامات التحسن. عندما يتعلق الأمر بالوحشية، فإن نظام سوهارتو ما بعد 1967 لم يصل إلى مستوى العراق في عهد صدام حسين بأسلوبه الهادئ، فالرئيس الإندونيسي لم يكن يجذب الانتباه مثل ما كان يفعل الأقوياء مثل بينوشيه وشاه إيران. لقد حكم سوهارتو بالقمع والقسوة وكانت الاعتقالات والتعذيب للمعارضين أمرا شائعا، ولم يكن هناك وجود لصحافة حرة، أما الانتخابات فكانت مجرد إجراء شكلي. وعندما تظهر حركات انفصالية على أساس عرقي في منطقة ما فإن الجيش لا يقوم باستهداف المقاتلين فقط بل المدنيين أيضا للقصاص منهم عن طريق القتل والاغتصاب وإضرام النار في القرى. وطوال فترة السبعينات والثمانينات كل هذا كان يجري بعلم -إن لم نقل الموافقة التامة- حكومات الولاياتالمتحدةالأمريكية. لكن مع نهاية الحرب الباردة، بدأت مواقف واشنطن تتغير. وبدأت وزارة الخارجية الأمريكية في الضغط على إندونيسيا للحد من انتهاكات حقوق الإنسان. وفي سنة 1992، بدأ الإصلاحيون الإندونيسيون يخرجون إلى الشوارع ويتحدثون علنا عن الفساد في المناصب العليا والتجاوزات العسكرية وضرورة إجراء انتخابات حرة ونزيهة. بعد ذلك، في سنة 1997، حدثت أزمة في سوق العملات والأوراق المالية في جميع أنحاء آسيا طغت على اقتصاد إندونيسيا الذي يتآكل منذ عقود بسبب الفساد. وانخفضت قيمة الروبية بنسبة 85 في المائة خلال أشهر. وقد عرفت ميزانيات الشركات الإندونيسية التي اقترضت بالدولار انهيارا. ولإنقاذ 43 مليار دولار، أصر الغرب الذي يهيمن على صندوق النقد الدولي على سلسلة من التدابير التقشفية تتمثل أساسا في قطع الإعانات الحكومية، ورفع أسعار الفائدة إلى حوالي الضعف.