بعد إعلان البيان التأسيسي للمجلس الوطني السوري المعارض، تدخل الحالة السورية مرحلة جديدة أشد صعوبة وخطورة، عنوانها الرئيسي العمل الدؤوب من أجل تفكيك نظام الاستبداد وفتح الآفاق أمام نظام بديل قوامه الدولة المدنية الديمقراطية. ولكن على المجلس أن يبدأ فورا في وضع آليات للتعامل مع الواقع السوري بما يضمن حماية أرواح المدنيين أولا، ومن ثم العمل على استمرارية التظاهرات السلمية ومنع محاولات النظام عسكرة الثورة الشعبية. ومما يسهّل مهمة المجلس أنه حظي باعتراف متظاهري الميدان في الداخل السوري، حيث شهدت الأيام التي تلت الإعلان عن المجلس مظاهرات مرحبة به، ومطالبة بأن يقوم بدوره لحمايتهم، كما جرت مظاهرات الجمعة الماضية تحت شعار «المجلس الوطني يمثلنا». وهكذا، ستكون من أولى مهام المجلس الوطني، كما حددها عضو الأمانة العامة لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، علي العبد الله، نصرة الثورة السورية وإنجاحها وإسقاط النظام، كما سيعمل على ضمان استمرار التظاهرات والحفاظ على سلميتها، فضلا عن مساعدة المتظاهرين وتقديم العون إلى أهالي الشهداء والجرحى والمعتقلين في السجون السورية؛ مما يعني أن المهمة الملقاة على عاتق أطياف المعارضة السورية ستكون أكبر بكثير مما قد يعتقده البعض، ومما يفرض على المجلس أن يبذل أقصى جهده من أجل انضمام باقي أطياف المعارضة إليه كي يوفر له أرضية تمثيلية أكبر مما هو عليه الآن، إذ يبدو أن إمكانية إيجاد صيغة توافقية أمر يمكن أن يتم، خاصة إذا التفت الإخوة في هيئة التنسيق إلى مطالب المتظاهرين في الشارع وما يعانونه من قبل أجهزة أمن السلطة وشبيحتها. ومما يساعد على الوصول إلى هذه الصيغة التوافقية أن البيان التأسيسي للمجلس الوطني جاء فيه: «يشكل المجلس العنوان الرئيس للثورة السورية ويمثلها في الداخل والخارج ويوفر الدعم اللازم بتحقيق تطلعات شعبنا بإسقاط النظام القائم بكل أركانه بمن فيهم رأس النظام، وإقامة دولة مدنية من دون تمييز على أساس القومية أو الجنس أو المعتقد الديني أو السياسي... وهو مجلس منفتح على جميع السوريين الملتزمين بمبادئ الثورة السلمية وأهدافها». إن الجميع مدعو إلى العمل تحت العنوان الذي يمثله المجلس، خاصة وأن أصحاب الثورة السورية الحقيقيين من رجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ، الذين هم وقود الثورة، هم الآن جزءٌ أساسي من المجلس، كما يحوز باقي أعضائه على ثقتهم، وقد سارعوا إلى منحه الشرعية وعمّدوا قرارهم هذا بتظاهرات بطولية لم تخلُ من إراقة الدماء الزكية. وإذا كان الجميع داخل المجلس الوطني السوري متفقا على ضرورة عدم التدخل العسكري، فإنّ ذلك لا يعني عدم الاستعانة بالأطراف العربية والدولية من أجل حماية المدنيين وتوفير المظلة للمتظاهرين من أجل أن يواصلوا تظاهراتهم لإسقاط النظام. ولا شك أنّ تفعيل القانون الدولي الإنساني، المتجاوز سيادة الدول، يمكن أن يشكل مدخلا للنفاذ -ولو إنسانيا- إلى الحالة السورية. إن موقف المجلس من التعامل مع الخارج كان واضحا، حين ربط العمل مع الحكومات ب«مبدأ الاحترام المتبادل وصون المصالح الوطنية العليا، ورفض أي تدخل خارجي يمس السيادة الوطنية»، وهو ميّز بين التدخل والحماية. وفي هذا السياق، من أهم الواجبات الملقاة على عاتق المجلس أن يبدأ الاتصال الفعّال بالدول المختلفة، لنقل ضغط الحراك الشعبي السوري إلى أروقة المجتمع الدولي، والضغط باتجاه تأمين الحماية الدولية للمدنيين، ودفع المجتمع الدولي إلى الوقوف أمام التزاماته التي يفرضها مبدأ «التضامن الإنساني»، والذي هو روح ميثاق الأممالمتحدة، وسورية هي عضو مؤسس فيها، وللشعب السوري حق على المجتمع الدولي لحمايته من الجرائم التي تُرتكب أمام بصر العالم. كما يواجه المجلس الوطني السوري تحدي تشجيع ثوار الميدان على التمسك بسلمية الثورة، طالما أنهم يطمحون إلى تثمير تضحياتهم. وهناك الكثير مما يمكن عمله في الإطار السلمي ولم يجرّب بعد، ومن ذلك مثلا الدعوة إلى العصيان المدني، ومن شأن أعضاء المجلس في الداخل أن يزوّدوا الحراك الشعبي بأفكار وابتكارات جديدة، وبذلك يثبت المجلس نجاحه في إدارة فعاليات الثورة واستثمار شرعيته المستمدة من الداخل ورفدها بنشاطه الخارجي، مما يشجع معظم الدول على التعاون معه، تمهيدا للاعتراف به وإكسابه شرعية دولية. وفي حال حصوله على اعتراف دولي واسع، سيكون المجلس أكثر قدرة على مخاطبة جامعة الدول العربية وهيئة الأممالمتحدة والعالم، وسيكون أقدر على المطالبة بحماية المدنيين، عبر تفعيل المواد القانونية في القانون الدولي الإنساني. المهم هنا أن البيان التأسيسي للمجلس الوطني أشار، في معرض حديثه عن التدخل، إلى أنه يعمل مع كل الهيئات والحكومات، وهو وضع الحكومات العربية في مقدمة الدول التي ينوي العمل معها، مما يتطلب تحركا عربيا عاجلا وموحدا، لاحتضان المجلس، وفتح العواصم العربية للتحركات السياسية للمعارضة السورية، واستقبال رئيس المجلس الوطني وممثليه، وإعطائه صفة في الجامعة العربية، تمهيدا للاعتراف الرسمي به كممثل للشعب السوري. وأخيرا، حسب تعبير الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، من وجهة نظر تاريخية يُفترض أن تستجيب الجمهورية السورية الثالثة لحاجات الاستقرار السياسي والتحكم في الذات، وقد افتقرت إليهما الجمهورية الأولى، وإن توفر ما افتقرت إليه الجمهورية الثانية، المملكة الأسدية في الواقع، من حريات عامة وحكم القانون والمساواة بين المواطنين والسيادة الشعبية. وفي الوقت نفسه يفترض أن تجري عملية إعادة هيكلة الهوية الوطنية بصورة تمنح السورية الهيمنة على العروبة وعلى الإسلامية، السورية هي قاعدة المواطنة والحريات والحقوق العامة، فيما يمكن للعروبة أن تكون سندا ثقافيا واستراتيجيا، وللإسلام أن يكون أرضية ثقافية وقيمية. إن أهم ما في المجلس الوطني السوري أنه صار أمرا واقعا وعنوانا رئيسيا للمعارضة السورية، وهو إنجاز مهم، إذ صار هناك جسم مركزي معارض، لا يختصر جميع المعارضات السورية، لكنه اكتسب من شباب الثورة مصداقية إضافية لا شك فيها، تعزز من شعبيته في الداخل وتؤهله للدور الحيوي والملح، وهو ترجمة بيانه التأسيسي بما قد يوفر مخرجا من الحرب الأهلية التي تلوح في الأفق السوري. كما تكمن أهمية المجلس في أن الحراك الشعبي الذي انطلق منذ 15 مارس الماضي أصبح يمتلك مظلة سياسية يمكنها أن تمثله في المحافل الدولية المختلفة. ومما لا شك فيه أن الإعلان عن المجلس ليس نهاية الطريق، بل بداية مشوار طويل صعب وشاق، فالمواجهة مع سلطة الاستبداد هي أصعب المواجهات وأخطرها على الإطلاق. ويبقى من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان المجلس سينجح فعلا في التعبير بصوت موحد عن مطالب الشعب السوري. الكل سوف ينتظر أداء المجلس وتحالفاته ومدى رضى قوى الداخل عنه، وإلى أي مدى سوف يدير شؤونه الداخلية وفق آليات ديمقراطية وتمثيل مكونات الشعب السوري بأسره، إنه الاختبار الأصعب الذي يجب اجتيازه بنجاح قبل أن يحصل الاعتراف العربي والدولي المنتظر. والمهم أن يقدم المجلس رؤية متكاملة لما سيفعله من أجل إسقاط النظام أولا، ثم بناء سورية جديدة مؤمنة بحقوق الإنسان وضامنة للتعددية السورية وفق آليات ديمقراطية.