لم تخل صحيفة مصرية هذه المرة من تذكر جمال عبد الناصر، وجرى استدعاء هائل بالحنين إلى صور عبد الناصر وإلى ضريحه بمنشية البكري في ذكرى رحيله، وتدفق الآلاف تلقائيا لتحيته، ولم تغب السلطة القائمة بقيادة المشير حسين طنطاوي عن المشهد الجليل. طوال عقود خلت، كان يوم 28 شتنبر ذكرى رحيل عبد الناصر يمر في هدوء، ودون أن تذكره صحيفة ولا إذاعة ولا شاشة تلفزيون، وكان مبارك يكتفي بزيارة ضريح عبد الناصر في غير موعد الرحيل، كان يزور قبر السادات أولا في 6 أكتوبر من كل عام، ثم يعرج مع مرافقيه إلى ضريح عبد الناصر، وفي ظل إجراءات أمنية مشددة تحجز حضور الناس، وكان المشير طنطاوي يرافق مبارك في الزيارة الرسمية الباهتة، وقد اختفى مبارك المخلوع هذه المرة، وذهب طنطاوي إلى ضريح عبد الناصر في موعد الرحيل بالضبط. الجديد بالطبع ليس حكمة المشير طنطاوي البروتوكولية، لكنها ظروف الثورة المصرية الأخيرة، وهي ثورة شعبية كاملة الأوصاف، واستدعت كل ما هو شعبي وأصيل وحقيقي في تاريخ مصر، وكانت صور عبد الناصر في ميدان التحرير، وتدافعت أجيال من الشباب حجزوا عنها اسم عبد الناصر وسيرته وصورته، وشوقها وتسابقها إلى حمل صور عبد الناصر، كان التطور لافتا ويعكس رغبة هائلة في التماس رمز معبر عن شعارات الثورة الجديدة، والتي طالبت بالحرية والكرامة والعدالة. وثمة وجوه عديدة لحالة استدعاء عبد الناصر، وهي سارية ومتصاعدة بقوة في وجدان وضمائر المصريين الآن. أول الوجوه أن الثورة تذكر بالثورة، وقد استدعت الثورة المصرية الأخيرة أحلام ثورة سبقت. صحيح أن ثمة فارقا، فقد كانت ثورة عبد الناصر من فعل حركة الضباط الأحرار، بينما الثورة الأخيرة من فعل الناس الأحرار، لكن العروة الوثقي بدت ظاهرة رغم اختلاف الصورة، فقد ثار الشعب المصري ضد مبارك، والأخير كان أحط من أن يوصف بالديكتاتور، وارتكب جرائم خيانة عظمى في كل اتجاه، وكان حكمه المديد البليد زمنا لتصفية كل ما ينتسب إلى ثورة عبد الناصر، فقد وضع نفسه في خدمة إسرائيل التي عاداها عبد الناصر، وحطم نظام الضمانات الاجتماعية وتشغيل الخريجين، وأزال القلاع الصناعية الكبرى، وأنهى الطابع الإنتاجي للاقتصاد المصري، وتحول إلى اقتصاد النهب العام، وجعل مصر بلدا على رصيف التسول واستجداء المعونات، ودفع المصريين إلى الهجرة هربا من الجحيم. وكما كانت الثورة الأخيرة نوعا من رد غربة المصريين والإفاقة من الغيبوبة الطويلة، فإنها ساعدت على تنشيط الذاكرة الوطنية، واستدعاء معارك عبد الناصر من أجل الكرامة والاستقلال والتصنيع وعدالة التوزيع، وبناء مصر ناهضة عزيزة مقتدرة، والدخول في سباق العصر من جديد، وبيقظة الناس هذه المرة والتفافها حول حلم النهضة الذي مات عبد الناصر دونه. وجه آخر يبدو ظاهرا في طبيعة الثورة المصرية الأخيرة، فهي دراما هائلة، ولكنها بلا قيادة مطابقة، وهو ما جعل المسار يبدو متعرجا ومحاطا بريب وشكوك ومثيرا لأجواء من الإحباط والغضب، فلم تستطع الثورة الأخيرة بطبائع الأمور أن تحكم بنفسها، وتقدم المجلس العسكري كوكيل عن الأصيل الذي هو الثورة السائلة للشعب المصري، والمحصلة أن الثورة تعيش في الخطر، تعاني إعاقات المجلس العسكري، وهو ليس مجلسا لقيادة الثورة، وتعاني إعاقات حكومة ليست من جنس الثورة، بل ربما بدت في أحوال كثيرة كأنها حكومة الثورة المضادة، ثم إن الثورة تعاني من إعاقات خريطة سياسية مشوهة وموروثة عن زمن مبارك وتسيطر عليها أجنحة اليمين الإسلامي والليبرالي، وهؤلاء يريدون اقتسام الكعكة، قبل أن تصل الثورة إلى غاياتها، وتكريس نظام ديمقراطي في الشكل ومتصل في المضمون بجوهر سياسات مبارك التدميرية، أي أنهم يريدون تغييرا في المبنى دون المعنى، تغيير أسماء الحاكمين مع بقاء الاختيارات ذاتها، وهو ما يفاقم أزمة مصر ويستدعي ثورات جديدة من زاد غضبها الطافر، ويستدعي صورة عبد الناصر وإنجازاته ومعاركه المتلاحقة وانحيازه العميق إلى الأغلبية الشعبية العظمى. وقد بدت القصة ناطقة مع زيارة الزعيم التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة للقاهرة، تصور التيار الإسلامي المصري السائد الآن على السطح، وبفوائض غفلة نادرة، أن زيارة أردوغان في صالحه، واحتشدت جماعة الإخوان للقاء أردوغان، علقت الأعلام والزينات وكلفت شبابها بالذهاب للقاء الرجل في المطار والاحتشاد في قاعة الأوبرا حيث تقرر أن يلقي أردوغان خطابه، وكانت شعارات الشباب الإخواني لافتة، وعلى نحو ما لقنهم قادتهم المغيبون عن حقائق العصر، كانت الشعارات تتحدث عن الخلافة الإسلامية، وعن أردوغان كأنه الخليفة التركي العثماني أو كأنه قائد تيار إسلامي في تركيا يماثل التيار الإسلامي في مصر؛ وحين تحدث أردوغان بتلقائيته وأعلن أنه يفضل النظام السياسي العلماني، كانت الصدمة الكبرى، وانقلب قادة الإخوان على أردوغان وضاقوا به، وهم الذين تصوروه زادا لهم. ودعوا إلى احتذاء تجربته في نهضة تركيا، دون أن يعلموا عنها شيئا، بينما بدت تعليقات الدنيا كلها على زيارة أردوغان مختلفة، وشاع وصف أردوغان بكونه عبد الناصر التركي، رغم أن عبد الناصر لم يكن علمانيا، لكن أفكار النهضة والتصنيع والكرامة والاستقلال ظلت مرتبطة دائما باسم عبد الناصر، وكلما برز في المنطقة زعيم، ولو لم يكن عربيا ولا مصريا، كان الاستدعاء التلقائي لاسم عبد الناصر يجري غالبا، وإلى درجة دفعت السيد حسن نصر الله إلى استدعاء اسم عبد الناصر وطريقه في خطاب الترحيب الشهير بزيارة أحمدي نجاد لبيروت. نعم، مصر الآن، ورغم مآزق ومعاناة الثورة الجديدة في طرازها، تخرج من الغيبوبة وتستعيد الشعور بالألم، وإضرابات فئاتها الاجتماعية في كل مكان، وسوف يتصل القلق الاجتماعي وتزيد سلطة الشارع باطراد؛ وحتى لو أجري ألف انتخاب، فالوجع المصري متعدد الوجوه، والتغيير في المبنى السياسي لن يكفي، ومعارك من أنواع مختلفة ترد على الساحة: معارك الاستقلال الوطني، ومعارك التصنيع والاختراق التكنولوجي وعدالة التوزيع، ومعارك استرداد إنتاجية الاقتصاد، وكرامة العيش لأوسع الفئات والطبقات، وقد بدا مثيرا أن تستقبل مصر أول ذكرى لعبد الناصر بعد الثورة بصورة مختلفة، فقد قرر القضاء الإداري إعادة تأميم ثلاثة مصانع كبرى، بنيت المصانع في عهد عبد الناصر، وبيعت في عهد مبارك، وكان استردادها للشعب بحكم قضائي، وبدا التطور مفزعا لتيارات اليمين، لكنه استثار الحماس الشعبي من جديد لاسم وعصر عبد الناصر.