نص الدستور المغربي الجديد على دسترة الهيأة العليا للاتصال السمعي -البصري كهيأة تقريرية -استشارية تنضاف إلى المؤسسات الدستورية القائمة والمستحدَثة، إلا أن أسئلة كثيرة تُطرَح حول مدى جدوى وفاعلية الرقيّ بهذه الهيأة إلى المستوى الدستوري. يكتسي التنصيص في الدستور على هيآت الحكامة التي ينضوي وفقها تأسيس الهيأة العليا للاتصال السمعي -البصري، أهمية بالغة حسب ما أكدت التجارب الديمقراطية الغربية خاصة، إذ يمنحها هذا التنصيص، إلى جانب وظيفة التقنين والسهر على احترام المتعهدين التزاماتهم مع الدولة والمُشاهد ومنح التراخيص و«التشريع النسبي»، قيمة مضافة، إذ يمنحها المرتبة ذاتَها مع المؤسسات الدستورية الأخرى، وتسمو تبعا لذلك وثيقة القرارات التي تصدرها، ولهذا قيمة حقيقة يمكن أن تُستغَلّ في تطوير المجال السمعي -البصري. وتخول دسترة الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري أن تتعايش الهيأة بشكل متساو أمام الدستور مع السلطات الكلاسيكية -التشريعية، التنفيذية والقضائية- ما يعزز استقلاليتها واستقلالية قراراتها. وأهم مكسب لدسترة الهيأة العليا للاتصال السمعي -البصري أن تضمن الأخيرة الاستمرار والتباث بصرف النظر عن المزاجية السياسية التي يمكن أن تحكم قرار الثبات أو إلغائها في حالة وجود هذا العنصر الدستوري، معنى ذلك أن إلغاء هذه المؤسسة، إذا ما توفرت شروطه، لا يمكن أن يتم إلا عبر تعديل دستوري يمر عبر محطات دستورية، بما فيها الاستفتاء، ما يعني بقاء الهيأة، على الأقل، في العقود القادمة. معطى آخر لا يقل أهمية يرتبط بدسترة الهيأة العليا للاتصال السمعي -البصري، ويتجسد في أن روح وجود الهيأة يحكمه، الآن، تنصيص الدستور بشكل صريح كهيأة دستورية مستقلة، في حين أن انطلاقها مر عبر تأويل الفصل ال19 من الدستور الماضي، الذي ينُصّ على أن «للملك صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيآت»، والملاحظ أن الهيأة، رغبة في ضمان استقلاليتها، استُثنيت من المسار التشريعي الذي بالإمكان أن يُدخل الهيأة لعبة السياسة والتحالفات الحزبية، ما يفقدها أي استقلالية. فوجود «الهاكا» كان تأويلا للدستور القديم وتطويرها تم بناء على تنصيص صريح في الدستور الجديد. وإذا كان التنصيص على دسترة الهيأة العليا للاتصال السمعي -البصري يمنحها الصفة الدستورية الواضحة ويرقى بها إلى مصاف المؤسسات والسلطات الدستورية ويرقى كذلك بقراراتها، فإن هناك معطى أساسيا يدخل في العملية يرتبط بالسياق السياسي والإعلامي الذي يجب أن يواكب هذه الإصلاحات، على اعتبار أن التنصيص على دسترة هيأة ما لا يمكن أن يمنحها القيمة الفعلية والفاعلية إذا لم تسايرها إصلاحات أخرى. ولا يمكن لدسترة «الهاكا» وتنزيلها إلى أرض الواقع أن يخلق أثرا يتجاوز المعطى الدستوري النظري ما لم تحدث إصلاحات سياسية عميقة. تفسير ذلك أنه لا يمكن للتنصيص على هيأة للحكامة أن ينجح ما لم تتوفر إرادة سياسية صريحة تنقل الأحلام المثالية في الإصلاح إلى الواقع. إن إنجاح مشروع دسترة «الهاكا» يمر عبر تقوية وتفعيل دورها التقريري في بعض القضايا، لاسيما ما يتعلق بالزجر والعقاب ومنح التراخيص، ليصل إلى التقرير الفعلي والمؤثر في القضايا الكبرى التي تتعلق بتطوير وبإصلاح واقع الإعلام العمومي، أما أن نمنحها صفة «المشرع»، لاسيما ما يتعلق بالقرارات المرتبطة ب«كوطا» ولوج الأحزاب إلى وسائل الإعلام العامة والخاصة دون أن نمنحها سلطة التقرير في الإستراتجية الكبرى للسمعي -البصري، فهذا يجعل وظيفتَها «موسمية» ومجالَ تقريريها ضيّقا، لنجد أنفسنا، في الأخير، أمام هيأة دستورية تمارس دورا استشاريا في القضايا الكبرى، التي ترتبط بمجالنا السمعي -البصري.