سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عندما دعا الجنرال حمو الكولونيل أمقران إلى قصف وحدة اعبابو العسكرية بالطائرات جمعني لقاء بأحد الضباط الشبان الأربعة الذين أنقذوا الحسن الثاني في انقلاب الصخيرات
ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. بعد سبع وثلاثين سنة من الاستجواب الإذاعي الذي أجريته مع الضباط الأربعة، في مقر القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية، التقيت في أواخر عام 2008 بمحض الصدفة مع الضابط كنوش ما حوش خلال جنازة أحد رفاقي في الإذاعة المغربية، فقد تقدم بنفسه نحوي للسلام علي ونطق باسمه مضيفا إليه: «أنا الذي أجريت معي المقابلة الإذاعية حول إنقاذ حياة الملك الحسن الثاني عام 1971» سمعت هذا التعريف المفاجئ باندهاش قوي، لأنني لم أكن أتوقع أن ألتقي بضابط مدرسة أهرمومو بعد هذه الحقبة الطويلة، وإن كانت ذاكرتي قد احتفظت بهذا الإسم. لقد وجدت أمامي ضابطا شابا يفيض حيوية، مغايرا في ملامحه وهندامه لذلك الشاب اليافع المندفع، الذي لاقيته ذات يوم من شهر يوليوز 1971 بمقر القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية مرتديا بذلة الميدان، حليق الرأس وهو يروي أمام ميكروفون الإذاعة المغربية بصوت جهوري منفعل ومتقطع قصة إنقاذ الملك الحسن الثاني في قصر الصخيرات، مما جعل الوضع ينقلب رأسا على عقب، ويمكن الملك الراحل من استرجاع التحكم والسيطرة على الموقف. كان اللقاء قصيرا جدا، وكان بودي لو طال الحديث، أن أسأله عن رفاقه الثلاثة الآخرين، الذين أجريت معهم المقابلة الإذاعية، وبصفة عامة، عن مصير رفاقه في مدرسة أهرمومو الذين قيل إنهم سرحوا من الخدمة العسكرية بعد العفو الملكي الذي صدر بحقهم. لقد كانت هذه التساؤلات تشغل بالي منذ أن شرعت في كتابة هذه الذكريات حول سيطرة الانقلابيين على دار الإذاعة المغربية، لكنها تساؤلات ظلت بدون جواب. إعدام الضباط العشرة بعد ثلاثة أيام من فشل محاولة الانقلاب، أي يوم الثلاثاء 13 يوليوز 1971، تم إعدام عشرة ضباط سامين ممن اعتبروا على رأس المحاولة الانقلابية، وكان الملك في أول تصريح له قد ذكر أن عدد المتآمرين لا يتجاوز العشرة. لقد تمت عملية الإعدام في نهاية الصباح رميا بالرصاص في ميدان الرماية، الذي تستخدمه القوات المسلحة الملكية للتدريب بالقرب من الهرهورة غير بعيد عن تمارة على شاطئ المحيط الأطلسي، وبحضور الملك الحسن الثاني، الذي كان يتابع العملية بمعزل فوق هضبة تطل على ساحة الإعدام. لقد كتب لي في ذلك اليوم أن أكون شاهدا على مجريات هذه الواقعة في عين المكان كمبعوث للإذاعة المغربية لتغطية الحدث. انتقلت من دار الإذاعة على عجل إلى مقر وزارة الإعلام، حيث التقيت هناك بزميلين آخرين (مسؤولين) الأول من التلفزة والثاني من وكالة المغرب العربي للأنباء، بالإضافة إلى الطاقم التقني التلفزيوني ومصور تابع لمصلحة التصوير بوزارة الإعلام. وغادرت المجموعة مقر الوزارة بسرعة رفقة الكاتب العام للالتحاق بميدان الرماية. وإذ أشدد على عبارة «بسرعة» لأن تنفيذ الإعدام في حق الضباط العشرة السامين تأخر في انتظار وصول الأجهزة الإعلامية الرسمية، التي لم يتم إشعارها إلا في آخر لحظة. لماذا جاءت دعوة أجهزة الإعلام الرسمية متأخرة؟ هل كان ذلك من قبيل النسيان أم أن المسؤولين كان لا يودون في البداية حضور الإعلام ولكنهم غيروا رأيهم في آخر لحظة، مما جعلهم يطلبون من وزارة الإعلام أن تستعجل عملية نقل الصحافيين (الإعلام العمومي). الجواب على هذه التساؤلات متعذر. وصلنا إلى المنطقة كان علينا أن نترك السيارة في الطريق وننزل إلى الميدان مشيا على الأقدام (لأن الميدان واقع على حافة الشاطئ ولا وجود لأي طريق يؤدي إليه). ونحن نسير بخطى عادية، إذ بنا نفاجأ بالملك الحسن الثاني مرتديا الجلباب واقفا عن يسارنا فوق هضبة، يلاحظ علينا تأخرنا ويدعونا إلى الإسراع، ولهذا انطلقنا نطوي المسافة الباقية جريا، رغم ما كان يكتنف ذلك من خطورة، بالنظر إلى وعورة الطريق النازل إلى ميدان الرماية. وجدنا في الميدان حشدا من الجنود والضباط على اختلاف رتبهم العسكرية وفي مقدمتهم الجنرال أوفقير والجنرال إدريس بن عمر العلمي. واسترعى انتباهنا أيضا وجود شاحنات عسكرية وقد غطيت جميعها حتى لا يظهر من يوجد على متنها. وعلى بضعة أمتار، نصبت عشرة أعمدة خشبية ووقفت قبالتها فرقة الإعدام. بعد لحظات قليلة، رفعت الأغطية عن الشاحنات وظهر الضباط السامون جالسين مكبلي الأيدي، أغلبيتهم كانت لي معرفة سابقة بهم، بالنظر إلى مهنتي الصحافية ولقاءاتي بهم خلال المناسبات العسكرية التي كنت أحضرها ممثلا للإذاعة المغربية، فلما رأوني وأنا واقف إلى جانب الشاحنات انطلقت ألسنتهم تتحدث إلي وتخاطبني بالاسم وتعلن براءتهم مما نسب إليهم، وكانت وجوههم شاحبة وأعينهم شاردة في موقع كان شبح الموت يخيم عليه، الضابط الوحيد الذي ظهر وكأنه غير عابئ بما يحدث حوله هو الكولونيل الشلواطي، الذي لم يتفوه بأي كلمة وهو ينزل من الشاحنة مع بقية رفقائه، وقد قيل وكتب بأنه كن يشغل في هذه العملية الانقلابية منصب رئيس مجلس الثورة. هؤلاء الضباط العشرة هم: الجنرال حمو أمحزون الجنرال حبيبي محمد الكولونيل الشلواطي الجنرال بوكرين الخياري الجنرال مصطفى أمهارش الكولونيل الفنيري الكولونيل بوبري الكولونيل بالبصير الكولونيل عمي الكومندان المانوزي إبراهيم الجنرال حمو يصيح: عاش الملك، عاش الملك سيق الضباط العشرة إلى ساحة الإعدام وربطت أيديهم من الخلف بالأعمدة المنصوبة وهم يرتدون ملابسهم العسكرية وعليها شارات رتبهم، وهي الشارات التي ستنزع منهم الواحد بعد الآخر. في هذه الأثناء، كان الجنرال أفقير والجنرال إدريس بن عمر (وكانت كل المظاهر والدلائل تشير إلى أنهما المشرفان المباشران على العملية) يتذاكران على انفراد، وإذا بالجو يتوتر بينهما، عندما سمعت الجنرال إدريس يقول: il faut qu' on soi réglo avec eux، بمعنى، حسب فهمي للجو المحيط بالحديث «يجب أن تكون تصرفاتنا معهم وفق القواعد المتعارف عليها، فكان أن رد الجنرال أوفقير بانفعال وبصوت عال وشرارة الغضب تتطاير من عينيه وكأن ملاحظة الجنرال إدريس لم تعجبه: eux est ce qu' ils ont été réglo avec nous» بمعنى: هل كانت تصرفاتهم معنا كما يجب؟ وفجأة ابتعد أوفقير عن الجنرال إدريس وتوجه فريق التنفيذ العسكري وصاح فيهم (بالفرنسية) «انتبهوا انتبهوا ... نار... نار» وبدأ الرصاص يخرق الأجساد وهي تتهاوى ملطخة بالدماء الواحد بعد الآخر نحو الأرض. هكذا جرت العملية في جو مضطرب رهيب وأثارت نوعا من الخوف لدينا لقربنا من الموقع، بالنظر إلى الطابع الفجائي الذي ميز صدور الأمر بإطلاق النار، وبالنظر أيضا إلى قوة الرماية وصوت الرصاص المرعب ومنظر الدماء تتطاير من الأجساد. في هذا الجو ارتفع صوت واحد فقط يردد: «عاش الملك، عاش الملك، لكن قوة النار سرعان ما أسكتت هذا الصوت، صوت الجنرال حمو أمحزون، وخيم السكون لحظة قصيرة على ساحة الإعدام، قبل أن تهب مجموعة من الجنود قيل بأنهم يمثلون الوحدات البرية والجوية والبحرية التابعة للقوات المسلحة الملكية (وكانوا شهودا على العملية) وأسرعوا نحو الضباط الذين نفذ فيهم حكم الإعدام وصاروا يبسقون على جثثهم، كعلامة احتقار نحوهم كما قيل لنا. هنا انتهت مهمتي الصحافية، فتركت الميدان مع رفاقي الإعلاميين دون حضور الترتيبات التي أعقبت الإعدام، وخاصة عملية الدفن، حتى ألحق على النشرة الزوالية. في هذا الصدد، يقول محمد الرايس (أحد معتقلي تازمامارت) في مذكراته: «تم دفن المعدومين والجنرال مدبوح وامحمد اعبابو في قبر جماعي على أطراف ميدان الرماية»، وبطبيعة الحال لم نشاهد عندما كنا هناك جثتي الجنرال مدبوح والكولونيل اعبابو، وكان الأول قد قتل في قصر الصخيرات يوم عاشر يوليوز، بينما قتل الثاني في مقر القيادة العامة في اليوم نفسه. عدت إلى الإذاعة ومعي صورة صوتية للروبورتاج الذي أنجزته في عين المكان، وأذيع على أمواج الإذاعة الوطنية في النشرة الزوالية، وكانت صيحة الجنرال حمو:»عاش الملك» ولعلعة الرصاص عنصرين هامين في هذه الوثيقة الإذاعية. صرخة الجنرال حمو من أعلى قامته الفارهة أثارت كثيرا من التساؤلات والتأويلات حول مشاركة هذا الضابط السامي من عدمها في مؤامرة الصخيرات. يقول محمد الرايس (وهو أيضا أحد المشاركين في أحداث الصخيرات) في مذكراته: «هناك خلاف في تفسير هذا الموقف بين من رأى فيه طمعا في العفو أو المحافظة على امتياز، لكنني شخصيا أرى أن الجنرال حمو كان على صواب عندما صاح عاش الملك، حتى وهو واقف في طابور الإعدام، وأنا أومن بأنه لم يكن ضد الملك حتى ولو حكمت المحكمة بذلك»، ويعني محمد الرايس بذلك «المحكمة العسكرية» التي ترأسها الجنرال أوفقير مساء يوم المحاولة الانقلابية، كما ذكر الملك الحسن الثاني بنفسه في إحدى ندواته الصحافية. ويقدم أحمد المرزوقي من جهته (وهو أيضا أحد معتقلي تازمامارت) شهادة مماثلة بالنسبة إلى الجنرال حمو، وذلك في كتابه «تازمامارت زنزانة رقم 10» حيث يقول: لو طلبت مني شهادتي المتواضعة لأكدت أن هذا الجنرال المرموق وأيضا الجنرالان أمهاوش وبوكرين (لم أكن أعرف الجنرال حبيبي) لم يكونوا انقلابيين، لقد كانوا رهائن في الصخيرات كالآخرين يحرسهم الضباط التلاميذ المسلحون عن قرب، ثم نقلوا بالقوة إلى الرباط ودائما برفقة الضباط التلاميذ المسلحين، وفي مقر رئاسة الأركان لم يظهروا في أي وقت من الأوقات أي علامة ابتهاج ويختم أحمد المرزوقي في شهادته بالقول:«أقول بإخلاص دون الادعاء بمعرفة كوامن هذه القضية إنني لم أستطع تقبل إعدامهم على عجل». تحدث محمد الرايس مطولا وبتفصيل عن وضعية الجنرال حمو وثلاثة جنرالات آخرين سواء في الصخيرات أو في القيادة العامة وتصرفات عبابو إزاءهم فقال «أخرج امحمد اعبابو من الصف (في الصخيرات) الجنرالات حمو أمحزون وأمهاوش مصطفى ومحمد حبيبي وبوكرين الخياري، وبعد أن أطلعهم على الأمر وعرض عليهم اتباعه ومساندته في الانقلاب، مد يده، لكن الجنرال حمو رفض مصافحته وأشاح بوجهه عن اعبابو وخاطبه قائلا: كلا يا اعبابو ما تقوله لا معنى له بل هذا خطير للغاية، أنا غير متفق معك، وصراحة هذا لعب «الدراري»، والضباط الآخرون لزموا الصمت ولم يعبروا عن رفضهم قولا حتى لا يلقوا حتفهم، ثم أركبهم سيارة جيب وشدد عليهم الحراسة حتى لا ينزل أحد منها، وكرر مساومتهم للمرة الثانية، لكنهم ظلوا على موقفهم الرافض، إذ ذاك أنزلوا من لاندروفير وركبوا شاحنة صغيرة. وأثناء الهجوم على مقر القيادة العامة كان الجنرالات الأربعة ما زالوا رهن الاعتقال تحت الحراسة المشددة في الشاحنة. ويذكر الرايس ما وقع بعد احتلال القيادة العامة: «طلب اعبابو من الجنرال حمو الالتحاق بالقنيطرة لاستلام زمام الأمور ووضع وحداتها تحت قيادة مجلس الثورة، طلب الجنرال حمو من الليوتنان فروي سيارته وتوجه إلى القنيطرة، وبمجرد وصوله أطلع الكولونيل أمقران امحمد قائد القاعدة الجوية على الوضعية وطلب منه قصف الرباط قائلا: «إن اعبابو رجل مجنون، فقد قتل الناس في الصخيرات وهو يحتل الآن القيادة العامة والداخلية وينوي الاستيلاء على الإذاعة والتلفزة ولابد من قصف وحداته لوقف تقدمه وحتى لا يقوم بارتكاب جرائم أخرى، لا يمكن أن ندع اعبابو يقتل الناس لقد أصبح مجنونا وخطيرا». وبطبيعة الحال، لم يستجب أمقران لطلب الجنرال حمو، لأن تحريك الطائرات الحربية من القاعدة لن يتم إلا بأمر من قائد الحرس الملكي، وهذا القائد الذي هو الجنرال مدبوح قد لقي حتفه في الصخيرات وكان هذا هو جواب أمقران للجنرال حمو. لقد أكد الطيار صالح حشاد في حديثه لقناة «الجزيرة» ضمن سلسلة برنامج «شاهد على العصر» زيارة الجنرال حمو ولقاءه بأمقران عند مدخل قاعدة القنيطرة ودعوته له إلى قصف الرباط، معتمدا في ذلك على ما قاله له أمقران نفسه عندما عاد من لقاء الجنرال حمو، ويتضح من أقوال الطيار حشاد أن الجنرال حمو عاد أدراجه، بدون أن يستلم الأمور في القاعدة كما طلب منه متزعم الانقلاب. وعلى كل حال، فالأحكام نفذت «وكان الأطلس المتوسط في حداد يوم أعدم سبعة من أبنائه بسبب جنون اعبابو» كما جاء على لسان محمد الرايس. وبعد سنة واحدة سيقفز اسم الكولونيل أمقران إلى الواجهة بصفته أحد أهم المشاركين في المؤامرة المدبرة ضد الطائرة الملكية.