إذا صحّ الخبر، الذي أورده أصحاب الشأن أنفسهم، ومفاده أن السفير الأمريكي في دمشق، روبرت فورد، طلب الاجتماع بأعضاء المكتب التنفيذي ل«هيئة التنسيق الوطني»، السورية، وأن الموعد لم يُضرب في مكان سري بل في «مكتب الهيئة في الحجاز»، كما أشار الخبر، فإن هذا التطور هو الأهم، ربما، بعد المؤتمر العام للهيئة الذي انعقد في إحدى ضواحي دمشق، أواسط شتنبر (المنقضي). تلك، في جانب أول، جرعة علانية لافتة، لجهة الانفتاح على الولاياتالمتحدة (والأمر يبدو تطورا مذهلا إذا ما تذكر المرء مقدار حساسية بعض اليساريين أو بالأحرى «اليسراويين»، من أعضاء المجلس المركزي والمكتب التنفيذي، تجاه اللقاءات أو الحوارات مع القوى الغربية). وهي، من جانب ثانٍ، نقلة مفاجئة تسير على النقيض من روحية البيان الختامي الذي صدر عن المؤتمر، خاصة لاءاته الثلاث (لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الأجنبي)، إلا إذا اعتبرت الهيئة أن الحوار مع سفراء من عيار فورد يمثل القوة الكونية الأعظم ورأس الحلف الأطلسي، لا تندرج في فلسفة استدراج التدخل الخارجي. وفي مقالة سابقة («القدس العربي»، 15/9/2011) توقفت عند الموقع الراهن ل«إعلان دمشق» في حركة المعارضة السورية الكلاسيكية، والداخلية عموما، مستخلصا أن الإعلان يمكن بالفعل أن يتحول إلى «بيضة قبّان» في ترجيح أي تجمع أو ائتلاف يوحد هذه المعارضة، شرط أن يفلح في استعادة دور المظلة، التي بلا ثقوب بالطبع. كما أرجأت الحديث عن «هيئة التنسيق الوطنية»، التي كان مؤتمرها يوشك على الاجتماع، حتى تتضح خياراتها السياسية، سواء في أدبياتها ومشاريع برامجها أو من خلال تركيبة مجلسها المركزي ومكتبها التنفيذي. ورغم أن عددا كبيرا من هؤلاء كانوا، ويظلون، في عداد شخصيات المعارضة الكلاسيكية الأبرز، وتضحياتهم لا تحتاج إلى استذكار أو تشديد، خاصة خلال عقد توريث بشار الأسد، فإن فضيلة وجود هؤلاء، في المؤتمر وفي القيادة، لا تطمس حقيقة وجود آخرين كانوا، ويظلون، نماذج معاكسة من حيث مغازلة النظام أو مهادنته أو حتى موالاته. أيضا، لا نعدم في صفوفهم مَنْ كانوا، حتى عهد قريب، أصدقاء النظام، لأسباب ليست خافية وليست انتهازية صرفة فحسب؛ وأصدقاء لبعض «خصوم» النظام، من أمثال رفعت الأسد أو عبد الحليم خدام، في آن معا، ودون أن يتسبب هذا التأرجح في إزعاج لأي من الفريقين، النظام و»الخصوم»! وقد يقول قائل إن هذه أيضا حال بعض معارضي الخارج الذين تعاونوا مع رفعت الأسد ومع خدام، على هذا النحو أو ذاك، في هذه الحقبة أو تلك، وها هم اليوم يصولون ويجولون باسم المعارضة. وهذا صحيح بالطبع، والأمثلة عليه ليست البتة قليلة، لولا أن غالبية هؤلاء يقيمون اليوم في لندن أو باريس أو واشنطن، وليس في حال ميسرة من الحل والترحال بين دمشق والخارج، دونما مساءلة أمنية، وربما بكثير من «تطنيش» السلطة الأقرب إلى التسهيل. وتلك، في الظن، معادلة حساسة ومركبة وليست ذات وجه واحد، لأنها ببساطة تتجاوز الطعن في السلوك الشخصي إلى الطعن في المسلك السياسي والأخلاقي لزيد أو عمرو، خاصة إذا تولى موقعا قياديا مباشرا، عبر الانتخاب؛ أو أنس في نفسه هذا الموقع فتولاه، طواعية، وصار يقود عبر فضائية تارة أو مقالة في صحيفة طورا أو مؤتمر ينعقد هنا وهناك، وما أكثر هذه! يزيد الطين بلة، رغم أن الطين مستنقِع متراخ أصلا، أن هؤلاء بالذات هم الأكثر تمسحا بأكذوبة «تمثيل التنسيقيات»، حيث يتضخم الزعم بأن شباب الانتفاضة ليسوا مشاركين ومتفقين في الرأي وراضين فحسب، بل هم في هرم القيادة أيضا! وعلى نحو أقرب إلى الخرافة التشويقية، يروي البعض كيف تمكن هؤلاء الشباب من حضور المؤتمر في غفلة من الأمن (المنتشر بكثافة، مع ذلك، حسب بيانات أصحاب الشأن!)؛ وكيف رفضوا المشاركة عبر ال«سكايب» وأصرّوا على التواجد باللحم والشحم؛ فضلا عن الطرائق الجيمسبوندية التي ضمنت إعادتهم إلى بيوتهم، عبر الأزقة والحواري، من دون أن تفطن الحواجز الأمنية إلى وجودهم في «السيارات الأربعين» التي أقلت مندوبي المؤتمر بعد انتهاء أعماله! وإذا جاز للمرء أن يحيي شجاعة المعارضة الكلاسيكية في عقد مؤتمرات داخل البلد، وهذا هو الإجراء الثوري الأم والأهم بالطبع، حتى إذا انطوى على مجازفة منح السلطة فرصة الزعم بأن في البلد حرية تعبير واجتماع؛ فإن مضار التفاصيل السابقة لا تقتصر على تلطيخ صورة هذه المبادرات، ولا تشكل محض شوائب أو مثالب، بل هي تنقلب إلى جزء مكمل ولا يتجزأ من الروحية السياسية والتنظيمية للمبادرة؛ وبذلك فإن من الجائز للمرء أن يضع تلك التفاصيل، أو بعضها الأشد فظاظة (مثل وجود مندوبين من أصحاب البندول المتأرجح أبدا بين النظام والمعارضة)، في قلب الأسباب أو المناخات أو الحقائق التي كانت وراء هذه الإشكالية أو تلك في البيان السياسي الختامي. ليس منطقيا، بالمعنى الصوري الأبسط، أن يكون امرؤ معتدلا مع النظام، وأن يقبل بإسقاطه في آن؛ وليس منتظرا منه، بالتالي، أن يضع الجلاد والضحية في مصاف واحدة من حيث نبذ العنف إلا إذا كان يؤمن بضرورة التوصل إلى عناق بين القاتل والقتيل، قبيل برهة الذبح! وهكذا يجوز للمرء أن يبلغ الخلاصة المنطقية التالية: أليس عجز المؤتمر عن استخدام تعبير «إسقاط النظام»، مرده أن غالبية في صفوف المندوبين ليست موافقة على، وربما غير راغبة في، إسقاط النظام، لاعتبارات شتى تبدأ من مسلك البندول المتأرجح وتمر بهواجس البعض المتقاطعة مع خواف هنا أو رهاب هناك من احتمالات المستقبل، ولا تنتهي عند اتفاق بعضهم مع نقطة أو أكثر في سردية النظام عن الانتفاضة؟ وإذا كان «الشعب يريد إسقاط النظام»، كما يقول الشعار الذي استقر في ضمير الانتفاضة منذ أشهر، فمن الذي لا يتفق مع الشعب في صفوف مندوبي مؤتمر حلبون، ولماذا؟ وإذا صح أنه معارض الآن للنظام الراهن أو كان في الماضي أيضا، أفلا يبدو على نقيض من المعارضة التي تمارسها غالبية ساحقة من شعب الانتفاضة؟ وهل، حقا، يستوي هذا المعارض مع شباب التظاهرات، ولاسيما أولئك الذين قيل إنهم حضروا المؤتمر في معارضة النظام ذاته؟ ثالثة الأثافي هي حكاية اللاءات الثلاث التي لم تكن مصادفة أنها لاقت الاستحسان الشديد من صحافة النظام والإدانة الشديدة من تنسيقيات الانتفاضة، حتى صارت عنوان مؤتمر حلبون الأبرز، بل صارت هوية أولى ل«هيئة التنسيق» ذاتها؛ ففي ال«لا» التي تخص سلمية الحراك الشعبي، تفهّم المؤتمر أن «استمرار الخيار العسكري الأمني للسلطة الحاكمة وتغول القوى الأمنية والجيش وعناصر الشبيحة في قمع المتظاهرين السلميين هو المسؤول الرئيسي عن بروز ردود أفعال انتقامية مسلحة»؛ ولكنّ النص سكت تماما عن تحديد هوية الجهة أو الجهات التي صدرت عنها ردود الأفعال الانتقامية المسلحة تلك: هل هي التظاهرات؟ هل استخدم متظاهر بندقية أو مسدسا أو قنبلة أو كوكتيل مولوتوف؟ وإذا كان الجواب بالنفي، وهو كذلك في حقيقة الأمر، فما الغرض من هذا التحذير الأشبه ب«ضربة وقائية»، إذا لم يكن تسليما ضمنيا بمكون أساسي في سردية السلطة عن الانتفاضة، أي وجود «مسلحين» و»مندسين» و»عصابات» في صفوف المتظاهرين؟ ثم ماذا يقول النص، في المقابل، عن جرائم الفرقة الرابعة وميليشيات آل الأسد وشبيحة النظام؟ تعبير خجول، وردي وأجوف وقادم من مجرة أخرى لا صلة لها بما ارتكب من فظائع في درعا وبانياس وحمص وحماة ودير الزور وريف دمشق، يحض على «المراجعة» ليس أكثر: «لا بد للجيش العربي السوري وللقوى الأمنية من مراجعة عميقة لممارساتها، حيث إنه لا انتصار لجيش على شعبه، ولا مستقبل لشعب لا يصونه جيشه»! وهذه مقدمة ل«لا» ثانية، تعتبر «استمرار النهج الأمني للسلطة تحفيزا خطيرا» لنزعات «التجييش الطائفي والمذهبي»؛ لكنها تحض العباد على «ضرورة التمسك بأسلوب النضال السلمي»، بل و«ابتكار» أشكال منه «تحافظ عليه وتمكنه من تحقيق أهدافه». ولسنا نعرف أي مندوب أريب أقنع المؤتمر بأن الانتفاضة تعتمد أسلوبا آخر غير النضال السلمي، أو أنها كفت في أي يوم عن ابتداع عشرات الأشكال فيه، ومن أجله؛ وما إذا كانت لافتة واحدة، في أية مظاهرة، قد طالبت بإسقاط الخيار السلمي ورفع السلاح في وجه النظام. ليس مفاجئا، هنا أيضا، أن يكون أصحاب المواقف البندولية هم الذين دافعوا على الفضائيات عن مشروعية هذه ال«لا»، إذ شاهدوا بأم العين (وأي عين!) شعارات عنف وتجييش وعسكرة! ال«لا» الثالثة تتمسك ب«الثوابت الوطنية»، (ولا ندري من الذي لا يفعل، علانية على الأقل)، لكي تربطها ب«رفض التدخل العسكري الأجنبي» من جهة أولى، و«رفض استخدام العنف في العمل السياسي» من جهة ثانية، وفي جملة واحدة! هذه خلطة عجيبة حقا، لأن «الثابت» في العمل الوطني لا يحتاج أصلا إلى تثبيت، إلا إذا شاء النص الإيحاء بأن ثابتا ما (هو، هنا، الاستقواء بالأجنبي) قد اختل في صفوف المتظاهرين وصار الظاهرة الشائعة وليس الحالة المنفردة المنحصرة. وإذ يسكت مؤتمر حلبون عن واجب حماية المدنيين إزاء «تغول» النظام والتعبير للبيان الختامي، فإن أشكال هذه الحماية المطلوبة تتعدد وتتباين من دون أن تتضمن دائما، وبالضرورة، استدعاء الجيوش الأجنبية والمطالبة بالتدخل العسكري. في وسع المنظمات غير الحكومية، ذات المصداقية والنزاهة، أن ترسل مراقبين دائمين يتولون الإبلاغ عن فظائع النظام، إلى أنصار منظماتهم وإلى الرأي العام العالمي؛ ويمكن للصحافة الدولية المستقلة أن تقوم بدور مماثل، بل أبعد أثرا ربما، وأكثر قدرة على تشكيل الضغط. أما اعتبار أي تفكير في حماية المدنيين بمثابة دعوة للتدخل الخارجي، فهو في الحد الأدنى استقالة من هذا الواجب الملح، بذرائع زائفة، كما أنها مخجلة أيضا. وفي كل حال، ينبغي على اللقاء مع السفير الأمريكي في دمشق أن يبدد هذا «الثابت» الذي تتمسك به «هيئة التنسيق»، أو أن يجرده من ثبات المعنى في أقل تقدير! ولعل الخلاصة، الواقعية، التي بلغها مؤتمر «هيئة التنسيق» الداخلي هي، بالفعل، تلك التي يقول بها بعض كبار مهندسيه: هناك معارضة تريد إسقاط النظام، وأخرى تريد تغييره من داخله. وأما الدرس، المرير، فهو أن النظام ساقط لتوه، وانهياره الختامي مسألة وقت، والطامحون إلى مصالحته مع الشعب والمستقبل والحياة هم، في أفضل توصيف رحيم، يراهنون على باطل وقبض ريح!