يقال، وفي القول أخذ ورد، إن فرنسا بلد الثقافة والجمال والخمور والجبنة، لكن المؤكد أنها «واعرة» في مجال فنون الطبخ. وتأتي شهرتها في هذا الميدان من تنوع ورهافة الجمالية في أساليب ومنهجيات الطهو لليابس والطازج. ويكفي إلقاء نظرة سريعة على الكم الوافر من الكتب المخصصة لفنون الطبخ الصادرة سنويا أو المسابقات الوطنية أو البرامج التلفزيونية المخصصة لهذه الفنون، لتكوين فكرة عن تراث جعلت منه فرنسا، في ربوع العالم، ميثولوجيا راسخة ما لبثت منظمة اليونسكو أن أدرجتها كتراث عالمي للإنسانية. وتحظى فرنسا بتقليد عريق هو تنظيم دليل «ميشلان» للترتيب السنوي لأفضل المطاعم الفرنسية، هذا الدليل الذي يقوم مقام إنجيل للمطاعم ولهواة الطبخ في فرنسا. وقد لعب التلفزيون منذ دخوله بيوت الفرنسيين، دورا هاما في الرفع من مستوى تعاملهم مع نوعية الأطباق وأساليب استهلاكها. ويعود أول برنامج خصص لفن الطبخ، تحت عنوان «فن وسحر الطبخ» من تنشيط رايمون أوليفييه، إلى عام 1953. ومنذ ذاك التاريخ، تنوعت البرامج وتغيرت معها خارطة المتفرجين. ومن بين البرامج التي يتابعها يوميا أزيد من مليوني متفرج ذاك الذي تعرضه قناة M6 ابتداء من الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر تحت عنوان «عشاء أقرب إلى الإنجاز»، والعنوان مستوحى من فيلم شهير لهيتشكوك، «جريمة أقرب إلى الإنجاز». ويقوم البرنامج على مبدأ بسيط يتمثل في أن يستضيف مرشحٌ أو شخصية سياسية أو فنية، لوجبة عشاء، أربعة مرشحين من عشاق الطبخ؛ وتتكلف هذه الشخصية بتحضير وجبة العشاء، شخصيا، أمام المرشحين والكاميرات طبعا، من المقبلات إلى «الديسير». وقد فتح البرنامج شهية قنوات فرنسية أخرى، ما لبثت أن أطلقت بدورها برامج منافسة، لجلب الجمهور وأخذ حصتها من كعكة سوق الإعلانات. هكذا أطلقت قناة TF1 برنامج «ماستيرشيف» الذي أصبح ينافس برنامج القناة السادسة. وخلال الأسبوع الماضي، خبط برنامج «عشاء أقرب إلى الإنجاز» خبطة قوية باستضافته لفريدريك ميتران، وزير الثقافة، الذي قبل الدعوة ووافق على قواعد اللعبة. هكذا، وفي إطار اليوم الوطني لفنون الطبخ في فرنسا، استقبل ميتران المتبارين الأربعة الذين أخبروا، في آخر لحظة، بأنهم سيحلون ضيوفا على الوزير، لا في بيته بل في صالونات الوزارة. في الظهيرة، تناول ميتران «الكفة» وذهب لتسوق مستلزمات وجبة العشاء. ولما حضر المدعوون، ثلاث نساء ورجل، أعربوا عن فرحة مشوبة بالدهشة. وقبل أن يصحبهم إلى المطبخ لتهييء العشاء، قام ميتران بدور الدليل، حيث طاف بالمدعوين على الوزارة وقدم إليهم من سطح الوزارة، المطل على حديقة القصر الملكي، تفاسير وشروحات عن المكان وعن المطاعم التي كانت تحف بأسواره وبعض أعلام الأدب مثل الروائية كوليت التي كانت تسكن قبالة الوزارة. بعدها، انتقل الجميع إلى المطبخ، ليتحلق الهواة الأربعة من حول الوزير الطباخ الذي خلع معطفه وشرع في إعداد وجبة العشاء التي تشكلت من مقبلات بحساء «الجلبانة»، ثم طاجين مغربي باللحم و«الجلبانة»، وأخيرا موسية من القشدة. المهم في الوجبة هو الطاجين الذي يذكِّره الوزير تارة ويؤنِّثه تارة أخرى La tagine، فيما الطاجين مذكر في اللغتين العربية والفرنسية.. يقال Le Tagine. المهم أن علاقة ميتران بالمغرب علاقة شغف، وقد أعرب عن ذلك في عدة مناسبات، فقد تربى إلى جانب والدته في مدينة الجديدة، كما ساهم في سنة المغرب بفرنسا، وأنتج فيلما وثائقيا عن الراحل محمد الخامس، ووقع مع الكاتب عبد الله طايع كتابا عن المغرب بين سنوات 1900-1960. أن يشمر وزير للثقافة عن ساعده ويقشر البصل ويغسل اللحم ويقطع القزبر ويعد التوابل لتهييء طاجين مغربي لهواةٍ التقى بهم لأول مرة، هو حدث بدلالة سياسية وإنسانية مميزة، تدفعنا إلى التساؤل عن مدى استعداد وزراء حكومتنا الموقرة إلى لبس «الطابلية» وإعداد وجباتهم المفضلة أمام مدعوين بأذواق ومشارب سياسية مختلفة. لكن قبل ذلك، لنبدأ من البداية ونطرح السؤال التالي: «واش تايعرفو الوزراء، موالين المرسيدس، يطيبو؟»، خصوصا وأن المغرب معروف عالميا بجودة طبخه؟ أنا مستعد على المراهنة بما لا أملكه على أن الكثير من وزراء حكومتنا الموقرة، علاوة على جهلهم بثمن «الكوميرة»، لا يعرفون كيف يقشرون «البصْلة» و«خيزو»، وعلى أن أغلبهم لم يدخل يوما إلى المطبخ لإعداد «شلاظة» أو البيض طايب! ولو حصل لبعضهم الوقوف أمام «الكانون»، فإما أن يحرق الكاميلة وإما أن «يدير خايلوطة»! لم الوقوف أمام «الكانون» في الوقت الذي يتوفرون فيه على خادمتين أو ثلاث تعطيهن مدام الأوامر وهي تمرر أمام المرآة أحمر الشفاه؟ في الحكومة القادمة، القديمة-الجديدة، يتعين على رئيس الحكومة اختيار وزراء يتوفر في سيرتهم الذاتية -إلى جانب المؤهلات الضرورية مثل: مستوى ثقافي رفيع والنزول إلى الميدان لمعاينة مشاكل الناس والكفاءة المهنية في إعداد وتسيير الملفات والطاقات البشرية- صفة جديدة هي إتقان فنون الطبخ، مع العلم بأن ثقافة الطبخ هي امتداد للثقافة السياسية والعكس بالعكس. وإلا بقينا في نفس الخايلوطة!