د. محمد التهامي الحراق بعد كتاب «موسيقى المواجيد، مقاربات في فن السماع المغربي» الصادر عن منشورات الزمن 2010م، صدر للباحث والمبدع محمد التهامي الحراق كتاب جديد في جزأين ضمن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لعام 1432ه/2011م، وهو عمل علمي كان قد نال به الباحث شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة محمد الخامس بالرباط، عمل نفيس طالما انتظره الباحثون في التراث الصوفي والموسيقي الإسلامي بوجه عام، والمغربي بشكل خاص. ويتعلق الأمر بدراسة وتحقيق رسالة «فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار» لمؤلفها الشيخ محمد بن العربي الدلائي الرباطي (ت.1285ه/ 1869م). وتعد «فتح الأنوار» وثيقة صوفية أدبية إنشادية، نادرة في بابها، ومتميزة في صنفها، ذلك أنها تجمع بين التصوف والأدب والإنشاد، حيث تضع القواعد النظرية لفن السماع بما هو مجلى من مجالي الجمالية الروحية الإسلامية، وبما هو فن يتوسل بإنشاد نصوصِ المديح النبوي وكلامِ العارفين لبلوغ مقاصد خلقية وذوقية سامية. كما تبسط الرسالة «سلما» تعليميا لطالب تعلم هذا الفن في وجهه المغربي الأصيل وفق شرائطه الأدبية وضوابطه الطربية وخصائصه التداولية إن في مجالس المديح أو حِلَق الذكر. وتزداد قيمة هذه الوثيقة حين نستحضر أن محمد بن العربي الدلائي، إضافة إلى كونه منظرا موسيقيا وفنانا مبدعا، هو رجل صالح وشيخ مرب ورث سر التربية والتزكية عن العارف الكبير الشيخ محمد الحراق الحسني (ت.1261ه/1845م) مؤسس الطريقة الحراقية الدرقاوية، مما يجعل من رسالة «فتح الأنوار» دليلا واضحا على الممارسة الموسيقية الصوفية كما جسدها فن السماع بالمغرب خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، سواء في الفضاء الإنشادي بالمساجد والبيوتات الخاصة أو في المزارات والزوايا الشاذلية بالمغرب. وتسمو قيمة هذا الكتاب وتزدان حين نقف عند الجهد العلمي المتميز، والاشتغال الرصين والمتقن على نص الرسالة، دراسة وتحقيقا، من لدن باحث تحقق بما اشترطه المؤلف في تلقي «فتح الأنوار» من «قابلية واصطحاب»، فجمَعَ، إلى زاد الدارس، خبرةَ الفن وتجربةََ السلوك، ذلك أن محمد التهامي الحراق خبر منذ نعومة أظفاره مجالس المديح وحلق الذكر، وتلقى أصول هذا الفن بدار الضمانة بوزان، ثم من خلال صحبته بالرباط لسليل المدرسة السماعية الدلائية الحراقية شيخ المادحين والمسمعين بالمغرب المرحوم الفنان عبد اللطيف بنمنصور(ت.1431ه/2010م)، حتى أصبح ذا حضور فني وعلمي متميز في مختلف ملتقيات السماع والموسيقى الصوفية بالمغرب، سواء من خلال أعماله الفنية ضمن «جمعية الصفا لمدح المصطفى» بوزان، أومن خلال إشرافه الثقافي والفني على «مؤسسة الذاكرين للأبحاث الصوفية وموسيقى السماع» بالرباط؛ فضلا عن مشاركاته العلمية والإعلامية المتميزة في هذا الحقل الإبداعي الصوفي الأصيل . يقع هذا العمل العلمي في جزأين، يضم الجزء الأول قسم الدراسة، ويمتد في 520 صفحة. وقيمة هذه الدراسة لا تكمن فقط في التعريف بشخصية المؤلف من حيث حياته وتصوفه وآثاره، وبرسالة «فتح الأنوار» من حيث سياقها ومضامينها ومصادرها وخصائصها، بل تكمن تلك الأهمية أيضا في المجهود الذي بذله الدارس في تأصيل فن السماع المغربي انطلاقا من معطيات «فتح الأنوار»، سواء على المستوى الأدبي أو الطربي أو الفقهي أو الصوفي أو التداولي، مما جعل هذا العمل أول منجَز أكاديمي متخصص ينظر بعمق وشمولية في فن السماع المغربي. ساعد الدارسَ على ذلك، بالإضافة إلى الانغراس في التربة الصوفية والطربية لفن السماع والتشبع بمكوناته ووظائفه، حس منهجي وفلسفي وجمالي يشج بين الوصف والتحليل، ويفيد من الثقافة الأصيلة والمعارف الحديثة، الأمر الذي أعطى لهذه المقاربة توقيعها الخاص والمتميز، تبدى أساسا في ما برهنت عليه الدراسة من وعي عميق بالرهانات الفلسفية والجمالية المطروحة على الموسيقى الصوفية، وعلى التصوف بوجه عام في المشهد الثقافي المحلي والعالمي في لحظتنا المعاصرة. فيما تم تخصيص الجزء الثاني من هذا العمل لتحقيق متن الرسالة، ويمتد هذا الجزء في 268 صفحة. على أن أهمية هذا التحقيق تبرز منذ أول وهلة حين نأخذ علما أن عدد صفحات الرسالة في المخطوطات المعتمدة لا يتعدى 24 صفحة، مما يشي بالمجهود المبذول في التخريج والتعليق والشرح وترجمة الأعلام والفهرسة..إلخ. ويتأكد هذا الأمر حين ندرك أن هذا التحقيق لم يكن مقتصرا على المستوى النصي بإثبات النصوص الغزيرة المحال في الرسالة على رؤوس مطالعها والبحث عن أصحابها وترجمتهم، وإنما تعداها إلى التحقيق الفني بحيث عمل المحقق على التعرف على ألحان وإيقاعات المستعملات الفنية التي يحيل المؤلف عليها، وعمل على تحصيلها في صدره وتخريجها بالإحالة على المظان الفنية الغميسة التي تحتفظ على أثر منها. هذه فقط معالم مقتضبة تدل على أهمية هذا العمل واستثنائيته، لأن صاحبه جمع فيه بين العلم والعمل؛ بين التنظير والممارسة، بين المعرفة والتجربة، وهي علامات نادرة وعزيزة ما كان بدونها ممكنا إخراج رسالة «فتح الأنوار» بهذه الصورة العلمية البهية.