دون الدخول في التحليل النصي للدستور الحالي، أشير في البداية إلى أن الوثيقة الدستورية، بصفة عامة، ليست غاية وإنما هي وسيلة وحلقة داخل سلسلة كبيرة ومتراصة من الإصلاحات المجتمعية الجذرية التي تشكل النواة الصلبة لبناء دولة المؤسسات والاستمتاع بربيع طالما انتظرناه، ينسينا سنوات القهر والإهانة والاغتراب في وطن اغتصب من طرف شرذمة من الانتهازيين والفاسدين. الانطباع الأول عند قراءة الدستور هو أنه يعكس موازين القوى السياسية الحالية المتمثلة في نخبة سياسية أصبحت خارج معادلة الحراك السياسي لحركة 20 فبراير، فقد شعرت بأن لا مستقبل لها سوى الانخراط في برنامج النظام، وقد تجلى ذلك من خلال المقترحات التي تقدمت بها هاته الأحزاب والتي حاولت بها وخز منظومة متراصة وصلبة للدولة مع ممارسة نوع من الابتزاز السياسي للحصول على ضمانات وتطمينات انتخابوية في المستقبل. إنه، بالفعل، زمن الردة بكل تجلياته في وقت تتطلع فيه الشعوب العربية إلى غد مشرق للانعتاق من الاستبداد والسلطوية. وهنا، لا بد للدولة أن تتذكر أن الرجالات الذين أنقذوها في زمن السكتة القلبية كانوا من الصف الديمقراطي، أمثال الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي والمرحوم إدريس بن زكري، وليس البلطجية وسماسرة الامتيازات. إن الدستور الحالي لا يرقى إلى تطلعات الشعب المغربي وإلى انتظارات ربيع الثورة العربية التي نعتبرها ظرفية غير عادية، فهي لا تحدث إلا بعد مرور سنوات عديدة، لذلك كان من المنتظر أن يكون الدستور الحالي دستورا غير عادي، بجميع المقاييس، للقطع مع جميع الممارسات البائدة ومأسسة الدولة الحديثة المبنية على الاستثمار في المواطن كقاطرة أساسية للتنمية وللفصل بين السلطات. قد يقول قائل إن الدستور الحالي هو دستور الحقوق والواجبات من خلال التنصيص على العديد من الحقوق الكونية لحقوق الإنسان؛ وهذا صحيح جزئيا؛ لكن في غياب الضمانات القانونية والإرادة السياسية للدولة لصيانة ونفاذ هذه الحقوق، ستبقى الأخيرة حبرا على ورق. وقد كانت لنا تجربة في هذا المجال من خلال توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي كانت أكبر ورش تفتحه الدولة في الوطن العربي للمصالحة الوطنية؛ لكن مع الأسف، بعد تسويقه خارجيا والاستثمار فيه حقوقيا من خلال تبييض تاريخ أسود للدولة في مجال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بتكلفة زهيدة جدا، تم إدخال التوصيات إلى غرفة الإنعاش ولم يتم تفعيلها. من جهة أخرى، على مستوى الضمانات الدولية لهذه الحقوق، تطرق الدستور إلى مبدأ سمو المعاهدات الدولية على القوانين الوطنية، لكن هذه الضمانات تم تقييدها وإفراغها من حمولتها الكونية. فإذا كان المنتظم الدولي في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان سنة 1993 في فيينا قد حسم مسألة الكونية والخصوصية لفائدة كونية مبادئ حقوق الإنسان، فإن الدستور الحالي أرجعنا إلى هذا النقاش من خلال التنصيص على ضرورة احترام المواثيق الدولية للخصوصية والهوية الوطنية، سواء كانت دينية أو لغوية أو ثقافية... إن التحدي الكبير للدولة الآن هو إعادة الثقة إلى المواطنين في جميع البرامج التي تطرحها، لم يعد هناك مجال للكذب واستغلال صدقية المجتمع. لقد أصبح من الضروري إعادة تأهيل الحقل السياسي وتجديد النخب وفتح ورش محاسبة رموز الفساد السياسي والاقتصادي وتكريس ثقافة عدم الإفلات من العقاب في البنيان المؤسساتي للدولة، لربط جسور الثقة والالتزام مع ربيع الثورة العربية. ولن يتحقق ذلك دون البناء الحقيقي للدولة، وهذا يتطلب إرادة سياسية واضحة من خلال مشروع مجتمعي ثوري على جميع الثوابت التقليدية التي كانت تعرقل مسار التطور.