صوت المغاربة يوم الجمعة فاتح يوليوز بقبول مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء بصفة كاسحة تجسدت في نسبة المشاركة في الاستحقاق الاستفتائي التي فاقت 70 بالمائة، و نسبة المصوتين ب»نعم» التي فاقت 98 بالمائة. يجب القول بداية أن التعديل الدستوري الحالي نضج على نار هادئة منذ 1996 ، سنة التصويت على الدستور السابق الذي شكل مدخلا أساسيا لبناء التناوب التوافقي بين الملك الراحل الحسن الثاني و قوى المعارضة السابقة المتمثلة في أحزاب الكتلة الديموقراطية. بين هوامش دستور 96 و طموحات الدمقرطة، جاء مشروع الدستور الجديد استجابة و تتويجا لنضالات القوى الوطنية و الديمقراطية و كجواب كذلك عن الحراك الشبابي الذي رفع نفس مطالب الدمقرطة و الإصلاح منذ فبراير الماضي. التصويت ب«نعم» كان إذن من أجل تعزيز جبهة الأمل المؤمنة بهذا البلد و مستقبله. جبهة مؤمنة حقيقة بقدرتنا الجماعية على خلق التراكم تلو التراكم الذي يزكي المغرب استثناء حقيقيا في الشريط الممتد من الماء إلى الماء المسمى وطنا عربيا. لقد أبان المغرب و المغاربة طوال الأشهر الماضية، أنهم قادرون في أدق المراحل التاريخية وطنيا و إقليميا، على ابتداع أفضل الحلول و أحسن التوافقات المجتمعية التي تنتج الاختيارات الوطنية الكفيلة بتملك المواطنين لمواطنتهم. التصويت بالإيجاب على مشروع الدستور يستوجب التوقف قليلا عند ما رافق مناقشة الوثيقة المعروضة على الاستفتاء من ملاحظات تهم بنية الدولة، و توزيع الاختصاصات و توازنها. في هذا الإطار، يجب التأكيد على أن النص الدستوري بكونه يعطي توجهات عامة و ليست تفصيلية لتنظيم الدولة و توزيع السلط ، يبقى في جميع الأحوال و حتى في الدول الديمقراطية العريقة، نصا مطاطيا. مما يعني بصيغة أخرى، أن المجالات و الفرص التي يمنحها الدستور تتمدد و تتقلص حسب الظروف و طبيعة و عزيمة الرجال و النساء الموكولة إليهم مهمة تطبيقه. بل أكثر من ذلك، يمكن للممارسة المتقدمة للنص الدستوري أن تكرس أعرافا و تقاليد ديمقراطية تفرض نفسها فيما بعد من أجل الدسترة، و لنا في «المنهجية الديمقراطية» عبرة كبيرة. فغداة الانتخابات التشريعية طالب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بإعمال ما سمي آنذاك ب»المنهجية الديمقراطية»، و التي تعني حسب بلاغ المكتب السياسي الصادر حينئذ، تعيين الوزير الأول من الحزب الحاصل على المرتبة الأولى في الانتخابات،و هو مطلب وجد طريقه نحو الدسترة. العيب ليس في النص مهما كانت عيوبه أو نواقصه، لأن النص في كل الأحوال يظل جامدا، و هو في آخر المطاف تجسيد لتفاعل موازين القوى في لحظة من لحظات الزمن السياسي. أما الممارسة، فهي بطبيعتها متغيرة و متحولة و بالتالي غير جامدة. المحدد الأساسي إذن لمدى حسن تطبيق النص ، هو رغبة شركاء البناء الديمقراطي و مدى التزامهم الحقيقي بهذا البناء. و هنا مكمن الاختلاف العميق و سوء الفهم الكبير مع بعض الفاعلين السياسيين، كالنهج الديموقراطي و العدل و الاحسان. هؤلاء ليست لهم الرغبة في رؤية الأشياء كما هي، بنظرة واقعية بعيدا عن الأحلام الطوباوية المنبعثة من دخان الثورة البلشفية أو الإمارة الإسلامية . لديهم فقط الإصرار ثم الإصرار، و الرغبة الأكيدة في البقاء خارج المؤسسات و سياق الأحداث و التاريخ. و بقدر ما يشكل الدستور الجديد مدخلا أساسيا لبناء الملكية البرلمانية، بقدر ما يجب أن يشكل كذلك مدخلا لإعادة الاعتبار للعمل السياسي في أنبل تجلياته كصراع و تنافس للبرامج و التوجهات السياسية. فالسياسة تبقى تجارة أمل، و الأمل بضاعة قابلة للإتلاف في حال ضياع مصداقية التاجر.الأمل قيمة روحية و نفسية، تغرف من الحلم بغد أفضل، و بالتالي وجب تحصين الأمل ضدا على رغبة تجار الظلامية و العدم. تجار يفضلون العمل بالقطاع غير المهيكل و خارج الأسواق،لأنهم يروجون لبضاعة فاسدة و غير صالحة للاستهلاك في المجتمعات السوية. لذلك تنتعش تجارتهم حين تختلط الأوراق و تغلق الأسواق في غفلة من تجار الأمل. البناء الديمقراطي لا يمكن أن يستقيم كذلك دون انخراط فعلي و قوي للمواطن في هذا المسار الطويل و الشاق. في هذا الإطار، و إن كان من حكمة يمكن الخروج بها من الحراك المجتمعي الذي عاشه المغرب منذ فبراير الماضي، فهي أن سرعة الإصلاح السياسي و البناء الديمقراطي تتزايد كلما تزايد التفاف المواطنين حول مطالب القوى السياسية الجادة ، و تتقلص كلما استقال المواطنون من الفعل السياسي و ارتكنوا للانتظارية ، و هو الوضع الذي عشناه خلال السنوات الأخيرة. الجالس في عربة الوطن (المواطن) لا يوجه الخيول (النخبة)، بل تخلى عن دوره في توجيهها و استقال و ترك المجال مفتوحا لسماسرة السياسة و الانتخابات. في الأخير يكتفي بدور المتفرج و يصف الكل بالمتهالك، المتهالك حقا ليست الخيول، بل الوعي الجماعي هو الذي تهالك و أصبح يزكي الفاسدين. ختاما، وجب القول إن الدستور كأسمى قانون، لا يعدو أن يكون في الواقع سوى جواز سفر للتأسيس لممارسة سياسية سليمة تستلزم الانخراط التام للجميع، و لكن و بالخصوص، الإيمان العميق بالديمقراطية كقيمة إنسانية رفيعة. ( * ) أستاذ بجامعة الحسن الثاني، المحمدية