تحلى الأبوان الروحيان لتدخل قوات الناتو العسكري في ليبيا للمساعدة في الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي بكل أنواع الحذر عند زيارتهما المشتركة لكل من طرابلس وبنغازي يوم أمس الأول (يقصد الخميس)، فلم يتحدثا عن تحقيق الانتصار وإكمال المهمة، مثلما فعل الرئيس الأمريكي عندما دخلت قواته بغداد وأعلن بالغرور كله أن «المهمة أنجزت». لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا، ونيكولاي ساركوزي، رئيس فرنسا، أول زعيمين غربيين يزوران العاصمة الليبية طرابلس، بعد انهيار نظام العقيد القذافي، فهذان الرجلان بذلا جهودا كبيرة، سواء في الأممالمتحدة أو في المحافل الأوربية وبعض العربية، من أجل فرض مناطق الحظر الجوي التي حالت دون وقوع مجزرة ضد أهالي مدينة بنغازي، التي كانت دبابات الرئيس المخلوع تزحف نحوها لسحق الانتفاضة الشعبية التي اندلعت فيها. نريد أن نفسر الاحتفالات الخجولة من قبل الضيفين ومضيفيهما التي جرت على أرض المطار أو أثناء الاستقبالات الرسمية وبعض الشعبية، ولكن نجد لزاما علينا القول إنه بعد انتهاء مهام القصف من السماء لحلف الناتو، (أكثر من عشرين ألف طلعة جوية) فإن المهام الأرضية، سواء بالنسبة إلى الحلفاء الغربيين أو أهل النظام الجديد في ليبيا ورموزه، قد لا تكون سهلة على الإطلاق. فالعقيد القذافي ما زال يشكل كابوسا يقض مضاجع هؤلاء، سواء بتهديداته أو أشرطته الصوتية التي بات يبثها بين الحين والآخر لمطالبة أنصاره، أو من تبقى منهم، بالصمود والقتال حتى الموت، مذكرا بأشرطة ورسائل زعيم تنظيم «القاعدة» الشيخ أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري، مع الفارق طبعا. لا شك أن سقوط العاصمة الليبية طرابلس في أيدي قوات المعارضة بالسهولة التي شاهدناها، كان نقطة تحول رئيسية في الأزمة، ولكن الحرب لم تنته، وفشل قوات الثوار في استعادة بلدتي بني وليد وسرت، رغم المحاولات المتكررة لاقتحامهما وحصارهما لأكثر من عشرين يوما، يؤكد أن الأسابيع والشهور، وربما الأعوام المقبلة، قد تكون صعبة بالنسبة إلى الليبيين. فمن الواضح أن دور حلف الناتو بات محدودا في الحرب، فلم يبق لطائراته ما يمكن قصفه من أهداف، فلا قاعدة باب العزيزية، ولا منازل للعقيد وأولاده، لم تعد أهدافا، اللهم إذا قرر ساركوزي وكاميرون إرسال قوات مشاة بأعداد كبيرة لترجيح كفة الثوار والتسريع بالحسم، وهذا أمر مستبعد حتى هذه اللحظة. الرئيس الفرنسي ساركوزي حرص على نفي صفة الطموحات الاقتصادية الكامنة خلف حماسه الشديد للتدخل في ليبيا عسكريا، وأكد في مؤتمره الصحافي أن تدخل حلف الناتو كان من منطلقات إنسانية بحتة وليست له أي علاقة بالكعكة النفطية الليبية الضخمة، ولا عقود الإعمار والتنقيب عن النفط، ولكن السيد مصطفى عبد الجليل كان الأكثر صراحة وصدقا منه عندما قال إن الدول التي ساعدت ليبيا للتخلص من النظام السابق ستعطى الأولوية في ما يتعلق بالصفقات التجارية والنفطية. ساركوزي وكاميرون أرادا أن يعطيا انطباعا بأنهما في مهمة خيرية، ولكن الكثيرين، ونحن منهم، لم ننخدع بالكلام المعسول والمنمق، فهما يمثلان الاستعمار الغربي الجديد في أوضح صوره وأشكاله، فبلداهما مثل كل الدول الغربية الأخرى في حالة إفلاس، والمخرج الوحيد من هذا الوضع هو أموال العرب وعوائدهم النفطية، وقد تكون ليبيا الحلقة الأولى في مسلسل طويل من التدخلات العسكرية أو قوى الهيمنة الناعمة. نخشى أن يكون دخول الناتو إلى ليبيا عبر مناطق الحظر الجوي أصعب كثيرا من خروجه من بوابة الحرص على السيادة والاستقلال الوطني التي بدأ البعض يطالب بها بصوت خافت هذه الأيام، فطالما أن المهمة إنسانية بحتة ولحماية الليبيين وأرواحهم من القتل، فقد انتهى نظام القذافي، ولم يعد يملك الطائرات التي يمكن أن تهدد بنغازي أو طرابلس، فلماذا لا يوقف عملياته وتدخلاته ويترك ليبيا لأهلها؟ فموازين القوى على الأرض تميل لصالح الثوار بالكامل، وفلول النظام المخلوع باتت في حال دفاع، بعد أن جرى خلع معظم أسنانها ومخالبها المتآكلة أساسا. سادة حلف الناتو يبالغون في قدرة القذافي وأنصاره، ويستخدمونه كفزاعة لإرهاب الشعب الليبي وإبقائه تحت سيطرتهم، ولابتزازه للحصول على صفقات تجارية ونفطية خارج نطاق المنافسة والشفافية المشروعتين، الأمر الذي قد يؤدي إلى مخاطر أكبر، تتمثل في تدخلات قوى أخرى ترى أن من حقها أن تحصل على أنصبة متساوية في الكعكة الليبية. القذافي ارتكب خطيئة في نظر الغرب عندما أعطى معظم الصفقات للصين والهند وروسيا وتركيا، وها هم خلفاؤه على وشك تكرار الخطيئة نفسها بإعطاء الأولوية لهؤلاء في عقود الإعمار والنفط، لأنهم على وشك استبدال طاغية محلي بطغاة أجانب، بقناع إنساني زائف. جرت العادة على أن تكون المرحلة التي تعقب سقوط أنظمة ديكتاتورية تحت مطارق الثورات الشعبية متسمة بالفوضى والأعمال الانتقامية، والتنافس الشرس بين الأجنحة المتصارعة على الحكم والمناصب، ويبدو أن مرحلة الصراع هذه بدأت مبكرا في الحالة الليبية. ومن يراقب القصف الثقيل المتبادل بين رموز الجناحين الرئيسيين في صفوف الثوار الليبيين، الإسلاميين والليبراليين العلمانيين، يصل إلى نتيجة مفادها أن الأيام وربما الأشهر والسنوات المقبلة قد لا تكون وردية على الإطلاق. من المؤكد أنه ستكون هناك حكومة في ليبيا الجديدة في الأيام المقبلة، ولكن من المؤكد أيضا أنها لن تكون بالقوة والصلابة والتمثيل التي يتمناها الكثيرون في ليبيا، وربما هذا ما يريده ساركوزي وكاميرون وبرنارد هنري ليفي الذي رافقهما في هذه الزيارة التاريخية، وحرص على أن يظهر في كل الصور، ربما لإغاظتنا، حتى يستمر انتداب حلف الناتو لليبيا لأطول فترة ممكنة. من حقنا، نحن الذين اكتوينا بنار الاستعمار بأشكاله كافة، الحديث منها والقديم، أن ننظر بعين الشك والريبة إلى ما يحدث في ليبيا، فالدمار الذي خلفه التدخل العسكري الأجنبي في أفغانستان والعراق، وقبلهما عبر التحريض على الثورة على الإمبراطورية العثمانية الديكتاتورية «المتخلفة» للتحرر كعرب من استعمارها، لنحصد اتفاقات سايكس بيكو ودولة إسرائيل، تجعلنا نتحسس كثيرا من أي تدخل مماثل تحت الشعارات نفسها مع بعض التطوير الحداثي، تحت مسميات حقوق الإنسان وباقي المنظومة التي نعرفها وتعرفونها جيدا. إنها حرب سويس أخرى يستبدل فيها النفط بالماء والهدف الأساسي هو اقتسام الغنائم التجارية.