نظرة خاطفة على الفايسبوك كافية لاستنتاج أن ما يكتبه رواده على «جدران» صفحاتهم يلخص دون عناء يوميات معظم مدمني الأنترنيت وكيف يقضون أيامهم وكيف يفكرون ويعلقون ويتعاملون ويحيون. إطلالة سريعة، بريئة أو لئيمة، تجعل من يزور الموقع الاجتماعي، عابرا أو باحثا عن متعة ما أو شيء ما ضاع منه في دهاليز الحياة «الواقعية» اليومية الصعبة، والتي تتطلب الكثير من الصبر والثقة والطموح والأمل وحسن التدبير، تجعلك تفاجأ أحيانا بل وتصدم غالبا مما ينشره رواد الموقع من أخبار خاصة جدا لا تصلح للتعميم. أتساءل بفضول: لم يعرض الناس تفاصيل دقيقة وحميمية، وأحيانا ذات قداسة خاصة، لا تعني سوى صاحبها ومن غير اللائق نشرها كالغسيل الوسخ على موقع اجتماعي يزوره عموم الناس..؟ هل يشعر الناس بالوحدة والفراغ ولا جدوى الأخوة والصداقة حتى يفضلوا البوح بأسرارهم وفضح خصوصياتهم وتعميمها على الأصدقاء والغرباء؟ هل نمضي، فعلا، نحو حياة العزلة والتواصل فقط عبر الشبكة العنكبوتية التي كبلتنا خيوطها وجعلت الكثير من الأطفال والشباب وحتى الشيوخ يعيشون سجنا اختياريا أمام حواسيب تجعلهم بنقرة واحدة يتواصلون مع آلاف الأصدقاء الافتراضيين.. فيما الحقيقة أنهم لا يتوفرون ولو على صديق واحد حقيقي يتقاسمون معه تفاصيل الدنيا الواقعية.. إذا كانت الأسئلة نصف الأجوبة، فإن ما يحصل الآن من تغيرات في العلاقات بين الأسر والأصدقاء وزملاء العمل يتطلب دراسات نفسية واجتماعية تحليلية، علمية وطبية، كي ننقذ الكثيرين من إدمان الأنترنيت وكي نوعي العباد بما يقال وما لا يقال.. ما يفيد وما لا يفيد.. ما يؤخذ بالجد، وما لا يستهان به، وما لا يبالى به.. تعليقات «الفايسبوكيين» أنواع أو لنقل درجات، إذ إن اختلافها مرتبط بمستوى الشخص وثقافته واهتمامه وخياراته.. لكن الغريب أن العديد ممن يحسبون على فئة المثقفين، حاملي مشعل «الحداثة» وشعار التنوير والتغيير والقضاء على السطحية والشعبوية، هم الأكثر «تشهيرا» و«عرضا» لحياتهم ولحيثيات خاصة جدا لا تفيد الآخرين في شيء. وفي الواقع، هؤلاء الناس يعيشون فراغا قاتلا وتيها وضياعا يحاولون مداراته من خلال «اقتسام» تفاهاتهم وفرضها على زوار صفحاتهم أو أصدقائهم. وإذا كان لكل اختراع منافع ومساوئ، فإن كل امرئ يستعمل ما توصلت إليه عبقرية الآخرين حسب مستوى نضجه ودرجة وعيه وحسن أحواله؛ ففي الوقت الذي تستفيد فيه دول عظمى، مثلا، من مجانية خطوط الهاتف الأرضي لتسهيل التعاملات وكسب الوقت والطاقة، نستعمله نحن، متى توفر لنا، لممارسة الغيبة والتجسس ونوبات النميمة؛ وفي الوقت الذي يستعمل فيه الكثيرون عبر العالم الأنترنيت والفايسبوك للتواصل الإيجابي والعمل وتطوير المعارف والقدرات والدردشة المفيدة، نسخره نحن لنخبر العباد، صباح مساء، متى استيقظنا وكيف كانت قهوة الصباح وشاي الظهيرة، وأين كنا وإلى أين نمضي ومتى نستعد للنوم. ثرثرة بلا معنى وأحداث لا تعني سوى صاحبها، تدخل في إطار خصوصيات لا جدوى من نشرها، وقد فوجئت بنشر البعض لتفاصيل أشد خصوصية أترفع عن ذكرها، حاطة بالكرامة الشخصية ومهينة، تسيء إلى صاحبها ولا تفيده. الكرامة والأنفة واحترام الذات.. كل ذلك مرتبط بحرص المرء على حماية الجزء الحميمي من حياته، ووعيه بما يعرضه أمام الملأ وما يحتفظ به لنفسه من أسرار وأحداث ووقائع وأحلام وهواجس.. ذاك الجزء الخفي من حديقة قلبنا السرية الذي لا نشاركه سوى الأقرب والأغلى والأحب والأصدق بين كل الناس، حتى يكون لحياتنا معنى ولوجودنا قيمة وحتى يتحقق بداخلنا ذاك التوازن النفسي الذي نسعى إليه جميعا والذي لن تختصره مطلقا اعترافات ساذجة على صفحات الفايسبوك.. وغالبا ما يكون الصمت والسكون والترفع أبلغ وأعمق من ثرثرة بلا معنى.