سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الحشيش نكبة حقيقية ابتلي بها المغرب.. خصوصا في المدن التي تعتبر اليوم معاقل للمخدرات سلسلة «مذكرات مهرب تائب» حملت رسائل كثيرة يجب أن تصل ذبذباتها إلى الجميع
طوال الحلقات الماضية من سلسلة «مذكرات مهرب تائب»، لم تكن هناك فقط متعة التشويق التي تشبه تشويق السينما، ولم تكن هناك فقط متعة الاكتشاف، اكتشاف أشياء كثيرة وتفاصيل دقيقة لم يكن الكثيرون يعرفونها، ولم تكن هناك فقط تلك المعلومات غير المسبوقة عن مهربين وحجم الثروات المخبوءة، بل كانت هناك أشياء أخرى أكيد أدركها القراء، وأكيد أيضا أدركها المسؤولون عن هذا المجال الخطير، مجال تهريب الحشيش. الحشيش يُزرع بيننا على مساحة تقدر بعشرات الآلاف من الهكتارات، والأموال التي يدرها تقدر بحوالي 15 مليار أورو سنويا، والشبكات التي تتاجر به هي من مناطق كثيرة من العالم، لكن أين تذهب أموال الحشيش في الواقع المغربي؟ الإجابة لا تتطلب كثير فلسفة، كثير منها مودع في الأبناك والمصارف الأجنبية، وآخر في المصارف والأبناك المغربية، وجزء كبير منها تم تبييضه في مشاريع مشبوهة، خصوصا في مجال العقار، وجزء كبير أيضا مدفون في صناديق تحت الأرض أو مودع في الصناديق الحديدية أو في أماكن سرية. ولو أن هذه الأموال الضخمة عادت من هجرتها الإجبارية، أو خرجت من مخابئها السرية، فستغير الكثير من الأشياء في بلد مصاب بانفصام فظيع في الشخصية. الرسالة الثانية التي مرت في «مذكرات مهرب تائب» هي حالة عمى الألوان. فمساحة الحشيش في المغرب بكل هذه الشساعة، ومع ذلك فهي مزارع سرية، يعني لا يراها أحد، والسبب بسيط، فالمال الكثير يعمي العيون فلا تعود ترى شيئا. لكن العيون التي لا ترى مزارع الحشيش، هي نفسها التي تطارد اليوم الآلاف من المزارعين البسطاء، الذين يزرعون الحشيش ويبيعونه بأسعار بخسة لكبار المهربين، الذين يجنون منه مئات الملايير، بينما لا يجني مزارعوه غير القلق والفقر والعيش خارج القانون. وإذا كان هناك اليوم من بادرة يمكن للدولة أن تقوم بها، فهي أن تفتح ملفات هؤلاء المزارعين الصغار وتسائل نفسها: هل هؤلاء هم أباطرة الحشيش في المغرب؟ وهل من الطبيعي أن يطارد القانون هؤلاء المزارعين البؤساء ويترك كبار الأغنياء يحظون بالاحترام ويشاركون في الانتخابات ويصلون إلي المجالس المنتخبة والبرلمان ويسميهم الناس الأعيان؟ إنه سؤال جوهري، ولو أجبنا عنه فسنتخلص من الكثير من النفاق المتبع حاليا في موضوع الحشيش. الرسالة الثالثة التي مرت في هذه المذكرات تتمثل في تسبب الحشيش في مآسي اجتماعية خطيرة، فكثير من الشباب ماتوا غرقا أو قتلوا أو أصيبوا بعاهات مستديمة خلال محاولاتهم تهريب الحشيش، وكثير منهم دخلوا هذا الميدان من أجل الاغتناء فوجدوا أنفسهم مدمنين على مخدرات أخطر، مثل الهيروين والكوكايين، وصار أصحاب الحشيش يستغلونهم أبشع استغلال، حيث لم يعودوا يشتغلون مقابل المال، بل فقط مقابل توفير جرعات يومية لهم. هناك أيضا جانب اجتماعي آخر، وهو أن الحشيش تسبب في شروخ كبيرة بين أفراد القرية الواحدة، أو الأسرة الواحدة، حيث إن المهربين الذين اغتنوا صاروا ينظرون إلى باقي أفراد عائلاتهم بازدراء واحتقار، وذهبت الروابط الأسرية والعائلية أدراج الرياح، خصوصا أن أغلب المهربين لهم جذور بدوية، وأغلب عمليات التهريب تنطلق من البوادي والقرى. الحشيش أيضا نكبة حقيقية ابتلي بها المغرب، خصوصا في المدن التي تعتبر اليوم معاقل للمخدرات أو أنها من المعابر الأساسية للتهريب. فمدينة طنجة مثلا، التي كانت ضحية المخدرات بسبب موقعها الجغرافي وقربها من أوروبا ومن مزارع الحشيش، تحولت إلى معقل لعمليات تبييض الأموال والفساد الإداري والعقاري، وفضاءاتها الجميلة والساحرة تم افتراسها وأصبحت منبتا لآلاف العمارات التي بنيت بأموال مشبوهة، والمسؤولون والمنتخبون غرقوا في لجة الفساد وصاروا يعطون رخص البناء باليمين والشمال، لأنهم لم يستطيعوا مقاومة إغراء المال، والأسعار ارتفعت بشكل مهول وصار المنطق السائد هو أن المال الحرام أفضل طريق نحو الغنى والمجد. لقد أفسد الحشيش كل شيء. الرسالة الأخرى التي تضمنتها سلسلة «مذكرات مهرب تائب» هي أنه لولا الفاسد في قطاع عريض من المجالات وبين مسؤولين من مختلف الإدارات لما وجد الحشيش كل هذه الطريق معبدة أمامه لكي يصول ويجول. والغريب أن الناس تعودوا على الإشارة بالبنان إلى المهربين الأغنياء، وكثيرون يصفونهم بأنهم أباطرة الحشيش، لكن قليلون يشيرون إلى الموظفين والأمنيين والمسؤولين الفاسدين، الذين اغتنوا أكثر من اللازم، وكثيرون منهم فاق غناهم غنى المهربين، لكن لا أحد يسميهم أباطرة الفساد، على وزن أباطرة الحشيش. هناك رسالة مهمة تضمنتها هذه المذكرات، وهي وصول أشخاص من قاع المجتمع، والذين لم يكونوا يملكون ثمن ركوب حافلة، إلى الدرجات العلا من الغنى الفاحش، وصاروا يلعبون بالملايير، وتحولت حقارتهم الطبقية إلى مجد اجتماعي، وهكذا أصبحوا نماذج يقتدى بها بالنسبة إلى الأجيال الصاعدة التي ترى أن الطريق السوي لا يوصل أبدا إلى الغنى، وأن الدراسة والكد والجهد مجرد خرافة. ماذا بوسعنا أن نفعل أمام تلميذ يمر يوميا أمام مقهى يملكها المهرب فلان، وعمارة يملكها تاجر مخدرات آخر، ومطعم فاخر يملكه مسؤول فاسد مرتبط بالمخدرات؟ هل سنقول له إن الدراسة تقود إلى ما هو أفضل من كل هذا؟ ظاهرة الحشيش خلقت أيضا جيشا من المومسات الجدد، فتيات في عمر الزهور لفظن الدراسة، أو لفظتهن، وخرجن يبحث في المواخير والنوادي الليلية عن زبائن يدفعون بلا حساب، زبائن يحصلون على مئات الملايين في العملية الواحدة والليلة الواحدة، وليست لديهم أية مشكلة في دفع كل ما تطلبه فتيات مورقات. وفي كثير من الأحيان، وفي نواد ليلية شهيرة، يتنافس بائعو المخدرات مع بائعي البخور القادمين من بلدان الخليج، وتنافسهم يشبه تنافس فيلة، حيث يكون العشب هو الضحية، وحين تتنافس الذئاب على لحوم طرية، فالنتيجة يعرفها الجميع. وأكثر من هذا، فإن الفساد المتعلق بمجال الحشيش خلق نكبة حقيقية في أوساط قطاعات عريضة، مثل قطاع الأمن أو الجمارك، حيث إن الموظفين النزهاء يجدون أنفسهم يوميا أمام قطار الذهب الذي يمر أمام عيونهم، وصار البعض يحصل على شقة وسيارة في شهر، بينما موظفون آخرون لا يحصلون عليها طيلة العمر كله... والشيطان شاطر.. شاطر جدا. وربما بسبب شطارة الشيطان تفتقت ذهنية المسؤولين الإسبان عن فكرة مذهلة، وهي أن الموظف النزيه يمكنه أيضا أن يغتني إذا وشى بعملية لتهريب المخدرات، بحيث يمكنه أن يحصل على مكافأة مجزية تمثل نسبة مائوية من سعر الحشيش المصادر. الرسالة الأخرى في هذه المذكرات، هي أن تهريب الحشيش يخلق جيشا من المحتالين واللصوص، ومن الأشخاص المستعدين لارتكاب أي شيء من أجل المال، السرقة والنصب والاحتيال والخداع، والمال هو كل شيء، فالمقدمات الفاسدة تؤدي حتما إلى نهايات فاسدة. هناك إشارة على قدر كبير من الأهمية تضمنتها هذه المذكرات، وهي أن الحشيش ليس حشيش الشمال وحده، بل حشيش المغرب كله، وإذا كان مهربو الشمال يهربون بضع مئات من الكيلوغرامات، أو بضعة أطنان، في مغامرات مثيرة وصعبة عبر البحر، فإن آخرين، من مختلف مناطق المغرب، من وجدة حتى الكويرة، يهربون مئات الأطنان في شاحنات عملاقة تمر عبر الموانئ، وأحيانا تحمل الشاحنة الواحدة ثلاثين طنا، وإذا كان سعر الكيلوغرام الواحد من الحشيش في هولندا مثلا يصل إلى 3 ملايين سنتيم، فلتضربوا الأرقام في بعضها لكي تجدوا المفاجأة في انتظاركم. الرسالة الأخرى في سلسلة «مذكرات مهرب تائب» هي كون المغرب تحول إلى طريق رئيسي لمخدر الكوكايين القادم من أمريكا اللاتينية. لقد اختارت شبكات الكوكايين طريق المغرب لأن فيه توجد طريق قوية وفعالة يعبر منها الحشيش، والطريق الذي تعبره منتجات حقول كتامة هو نفسه الذي تعبره منتجات حقول كولومبيا. واليوم، صارت شحنات الحشيش التي تغادر المغرب تختلط بكثير من شحنات الكوكايين، وهناك حكمة شائعة في مجال التهريب تقول إن المكان الذي تعبر منه إبرهة بطريقة غير شرعية يمكن أن يعبره جمل... والمعنى واضح جدا. الوجه الآخر لخطورة هذا المعطى هو أن الكوكايين الذي يعبر المغرب لا يمكن أن يكون دون تبعات اجتماعية وأخلاقية خطيرة، لأن جزءا مهما من الكوكايين العابر يبقى في المغرب ويتم ترويجه في الأسواق المحلية، والنتيجة اليوم ظاهرة في كل مكان، في هذا الجيش العرمرم من المدمنين، بحيث أن ظاهرة الإدمان لم تعد اليوم معزولة في المجتمع، وفي كل بيت مغربي تقريبا مدمن مخدرات، فإن لم يكن بالحشيش فبالأقراص المهلوسة، وإن لم يكن بالكوكايين فبالهيروين. إنها كارثة حقيقية. الحشيش، بملاييره و«فتوحاته» في كل المجالات، نكبة بكل المقاييس.