ليست العلاقات التركية الإيرانية في أحسن حال، كما قد يتوهم أو يظن من ينظر إليها من خارجها، ليس فقط لأن هناك نموذجين مختلفين من الدولة والحكومة في البلدين، وليس أيضا بسبب تباين نمطي التنمية فيهما، وتباين ارتباطاتهما الدولية والإقليمية وأهدافهما، وطابع القوى الحاكمة في كل منهما، وقدراتهما وتاريخهما، بل كذلك لأنهما تخوضان حرب تنافس خفية حول كل شيء: من النفوذ الإقليمي إلى العلاقات الدولية إلى القوة العسكرية إلى رؤوس الجسور التي لهما في دول الجوار عموما، وسورية منها خصوصا... إلخ. يختلف الأسلوب التركي اختلافا كبيرا عن الأسلوب الإيراني: فالأول يعتمد القوة الناعمة في أكثر صورها رهافة، ويسعى إلى تجسيدها في نمط من الحكم يريد له أن يكون نموذجيا كي يكون مؤثرا وفاعلا، وفي تقدم اقتصادي يكاد يكون عاصفا يعزز رفاهية الشعب التركي بسرعة، ويفرد أجنحته فوق البلدان المجاورة بوفرة ويقين، ويستند إلى ديناميكية وحيوية شعب أفلت من إسار قرون من الحكم السلطوي، يبني اليوم تجربة تاريخية فائقة الغنى والتأثير، أثارت إعجاب القريب والبعيد: من أبناء وبنات منطقتنا وغيرها. بينما يستند الثاني إلى نظام سلطوي حديدي، وسيلته إلى السيطرة ليست الأنموذج الأرقى بل القوة المهددة، لذلك تراه يتطلع إلى الآخرين بغضب، إما كي يخوفهم أو يخترقهم أو يلقنهم دروسا في الصواب والخطأ، بينما يتمسك باستماتة بإبقائهم ضعفاء، ليسهل احتواؤهم ووضع يده على قضاياهم وإحراجهم بالمزايدة عليهم فيها، وزجهم في صراعاته التي لا تنتهي مع كل من هم قربه أو بعيدين عنه، فالتقدم الذاتي يعني كبح تقدم الآخرين وتوريطهم في معارك كسر عظم، وليس ما يعنيه التقدم التركي: تنمية الذات عبر تنمية الآخرين ومساعدتهم على أن تكون لديهم قوة شرائية تجعل تركيا وتجعلهم أكثر غنى وثروة. التقى هذان المنهجان في سورية، التي كانت تبحث عند مطالع القرن عن بديل للسوفيات تستند إليه في علاقاتها مع أمريكا خصوصا والغرب عموما. في البداية، حدث اللقاء مع إيران، حليف النظام منذ ثمانينيات القرن الماضي وخلال الحرب العراقية/الإيرانية، الذي أراد منه حمايتها ضد الجار العراقي الأقوى، المحكوم برجل سلطوي الوعي إلى درجة الإفراط، تخشى قوته وتطلعاته الشخصية وفظاظته، فلا بد من ضبطه شرقا وغربا وتكبيل يديه بلا رحمة. بما أن إيران لعبت هذا الدور، فقد كانت لها الأولوية في العلاقة بسورية، وكان لها سبق دائم في عاصمتها، التي اعتمدتها طهران موقعا متقدما لوجودها وسلمت لها بدور وازن في مناطق نفوذها عامة، ولبنان وفلسطين خاصة. لكن هذا لم يكن مريحا تماما لدمشق التي لطالما بنت سياساتها على جني المغانم وتحاشي ما عداها، وسعت إلى التحرر من أعباء سياساتها التي لا يد لها في رسمها، لكنها قد تتحمل بعض نتائجها الوخيمة، بعد اندفاع طهران النووي وقيامها بخطط هيمنة في الخليج عامة والعراق خاصة. وقد وجدت دمشق في تركيا حليفا مختلفا يمكن لسياساته أن تتكامل مع كثير من مواقفها وأن تمنحها حصانة جدية في وجه أي خطر، بما أنها على علاقة مميزة بإسرائيل والغرب، وقادرة على فتح أبوابهما أمام النظام الذي يخاف أن يتفقا عليه ويجد نفسه مكرها على تحاشي معركة عسكرية مباشرة مع الأولى، وفقدان أوراق ضغطه حيال الثاني، وفي مقدمها تركيا خلال فترات الهدوء وإيران في حقب الأزمات والتوتر. هكذا، بعد عقود من النجاح في إقامة توازن بين السياستين الأمريكية والسوفياتية، مع رجحان واضح لصالح الأولى على الصعيد الاستراتيجي وفي ساعات الخطر، اعتقد النظام أنه أقام توازنا إقليميا بين تركيا وإيران يرجح كفة الأولى اقتصاديا، والثانية عسكريا واستراتيجيا، الأمر الذي جعل وظيفة طهران مزدوجة: إقليمية ودولية، بينما ظل طابع الوظيفة التركية إقليميا، مع دور دولي محدود أملاه حرص النظام السوري على إبقاء مشكلاته مع الغرب تحت السيطرة، وإن ظلت بلا حل، تركز على تهدئة أمريكا والإبقاء على حد مقبول من العلاقة بها. وقد عبر هذا الدور التركي عن نفسه في العمل (وقطر) لفك عزلة دمشق الدولية عام 2008، من خلال ما عرف بالمصالحة بين الأسد والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي التي أعقبتها علاقات عادية قامت بين سورية ومعظم الدول الغربية. واليوم، والمعركة على سورية دائرة بكل احتدامها، بدأ يظهر توتر في علاقات أنقرةوطهران تجسد في تصريحات مبطنة أتت على لسان مسؤولين ثانويين في البلدين، وخاصة منهما إيران، حيث حذر بعض نوابها من خطورة الدور التركي على النفوذ الإيراني في العالم العربي، واعتبروا إسطنبول منافسا يعمل على تحجيم الدور والوجود الإيراني في العالم العربي، ويمارس سياسة مزدوجة من المتوسط إلى الخليج، ظاهرها طلب التوازن والتوافق والحرص عليهما، وباطنها السعي إلى تقويض المواقع التي بنتها إيران بدأب وتكلفة مرتفعة خلال السنوات العشرين الماضية على كافة الأصعدة والمستويات، حتى ليمكن الحديث الآن عن تحالف خليجي/تركي ضد إيران، يفعل فعله في الحدث السوري الذي يشهد ضغوطا مزدوجة على النظام هناك، يزيد من خطورتها احتمال تحولها في أي وقت إلى تعاون من طبيعة غير سياسية مع الغرب والخليج، يضع السلطة السورية بين فكي كماشة يملك طرفاها قدرات متنوعة لا قبل لإيران بمواجهتها، علما بأنها قررت عدم التخلي عن حليفها القديم، وبذل جهود جدية لمساعدته على تجاوز محنة داخلية متصاعدة، يعالجها بارتباك وبصورة مجزأة ولحاقية وقليلة الجدوى والفاعلية، تزيد من حاجته إليها، بعد أن كشرت أنقرة عن أنيابها وأخذت تضع نفسها في موضع من يلقي عليه الدروس ويسعى إلى تطويعه ويحاول اختراقه والاستيلاء على جزء من قراره يكفي لتغيير خياراته المباشرة والاستراتيجية، مع ما يحمله ذلك كله من خطر على طهران التي تخشى أن تخرج من الصراع وقد خسرت موقعا تعني خسارته إضعاف موقفها وإخراجها من ساحل المتوسط الشرقي وإحراج حزب الله، بل ومحاصراتها في مجالها الوطني الخاص، بعد أن ساءت علاقاتها بدول الخليج، وركد نفوذها في العراق، وجمدت حركتها حيال إسرائيل في لبنان، وانتصرت ثورة مصر التي تكاد تنتزع حركة حماس منها وتقيد وجودها في العالم العربي بعودتها المباشرة والوشيكة إليه. تجد إيران نفسها في وضع عسير، لأن خسارتها المحتملة في سورية تساوي تقريبا خروجها من الوطن العربي وتراجع نفوذها على العراق، حيث تتعايش مع شريك غير مريح لها هو أمريكا: عدوها الرئيسي، العامل على تحجيمها وفي النهاية على تغيير نظامها. ثمة هنا مفارقة تستحق الملاحظة، ففي حين يتناقص دور تركيا الاقتصادي بسبب الأزمة، تتزايد احتمالات تحول هذا الدور إلى العسكرة، بينما يفرض الموقع الجغرافي والضعف العسكري على إيران لعب دور متناقص، على الصعيد العسكري بالذات، ربما كانت حدوده التي ظهرت على حقيقتها خلال الأسابيع الماضية هي التي دعتها إلى مطالبة الرئيس الأسد بإجراء «إصلاحات جدية وعميقة»، على حد قول وزير خارجيتها السيد علي صالحي المقرب جدا من الرئيس نجاد. ويمكن القول على الجملة: إن دور إيران يبدو وكأنه إلى تناقص بينما يتعاظم دور تركيا، في حين تفضح الوقائع الجغرافية والاستراتيجية الأوهام التي سادت وجعلت من القوة العسكرية معيار كل شيء، فإذا بها تتهاوى أمام تحول تاريخي كبير يجتاح الوطن العربي، تملك تركيا من الحصانة ضده أكثر بكثير مما تملكه إيران التي بنت مواقفها على أنه سيكون للعسكري الكلمة الفصل في تاريخ المنطقة الحديث، وها هو العامل المجتمعي يثبت العكس، كما تقول تركيا العدالة والمساواة. ليست صراعات تركيا وإيران منفصلة عن الصراع الدولي الكبير ضد الأخيرة. وبما أن هذا الصراع لم يحسم بعد، فإنه من المبكر التنبؤ بنتائجه النهائية، وإن كان من المؤكد أن نتائجه المباشرة ليست لصالح بلاد فارس ونموذجها الآفل.