تخليد الذكرى ال69 لعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى إلى أرض الوطن    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    تقرير إسباني يكشف مفاجأة بشأن اعتراف الصين بمغربية الصحراء    التوقيت والقنوات الناقلة لمواجهة الأسود والغابون    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    مأساة جديدة في إسبانيا.. حريق يودي بحياة عشرة نزلاء في دار للمسنين    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    بمعسكر بنسليمان.. الوداد يواصل استعداداته لمواجهة الرجاء في الديربي    المغرب يترقب اللحظة المواتية لخروج الخزينة إلى السوق الدولية        مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    الرباط.. اختتام أشغال مؤتمر دولي حول الزراعة البيولوجية والإيكولوجية    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    "كوباك" تدعم التلاميذ ب "حليب المدرسة"    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق    الأحمر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية 2025            التحاق 707 أساتذة متدربين بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بدرعة-تافيلالت    كيوسك الجمعة | المغرب يسجل 8800 إصابة بسرطان الرئة سنويا    الأردن تخصص استقبالا رائعا لطواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية    فيضانات إسبانيا.. طبقا للتعليمات الملكية المغرب يعبئ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني    تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب    زيارة المسؤول الإيراني للمغرب.. هل هي خطوة نحو فتح باب التفاوض لإعادة العلاقات بين البلدين؟    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    النيابة العامة وتطبيق القانون    حرب إسرائيل على حزب الله كبدت لبنان 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية    10 قتلى جراء حريق بدار مسنين في إسبانيا    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    غسل الأموال وتمويل الإرهاب… وزارة الداخلية تضع الكازينوهات تحت المجهر    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مغاربة في قلب الثورة الليبية
منهم من وقفوا إلى جانب الثوار ومنهم من انضموا إلى الهاتفين بحياة القذافي أمام باب العزيزية
نشر في المساء يوم 08 - 09 - 2011

بعد يومين من وصول «المساء» إلى طرابلس، كان الثوار قد حسموا جميع البؤر الموالية للقذافي. في اليوم الذي حرروا فيه «حي أم درمان»، التابع لمنطقة «بوسليم»،
قرر أبناء «حي قرجي» ذبح جمل وتوزيع لحمه على ساكنة الحي. لن تسند هذه المهمة، طبعا، لأي من «القصابين» غير العلمي. كان الجميع يهتفون بشعارات الثورة ومعها اسم العلمي، الذي كان يلوح للأطفال والشباب بمديته الملطَّخة بالدماء، فيما يكتفي أخوه محمد برسم ابتسامة عريضة. «لم يسبق لي أثناء مزاولتي مهنة الجزارة في المغرب، أن قمتُ بذبح أو سلخ جمل، لكنني تعلمت ذلك هنا في «ليبيا»، يقول العلمي.
كان نزار كعوان، الناطق باسم ائتلاف ثوار 17 فبراير، أولَ «مسؤول» ليبيّ التقتْه «المساء». وقع ذلك في فندق «المهاري». ترك نزار أحاديث الثورة والثوار وراح يسأل عن رشيد نيني وعن أخباره في السجن... قال إنه يعرف المغرب جيدا وإنه كان يتحدث الدارجة المغربية بطلاقة، إلا أن السنين أنستْه بعض تعابيرها. كابد في التلفظ بكلمات مغربية. سأل عن المغرب، عن سياسيّي المغرب، عن رياضييه وعن مثقفيه.. ولم يكن يُجيب إلا عن «الزمن الجميل» الذي قضاه في شارع محمد الخامس، حيث كان منزل والديه، وفي «أكدال»، حيث درس سنوات الابتدائي الثلاث: «والله لقد تنعمتُ بأجواء المغرب وتشربتُ أخلاق الإنسان المغربي، الكرم المغربي والبيت المفتوح.. استفدتُ من إحدى مكاتب شارع محمد الخامس. تأثرتُ بالتاريخ المغربي وبشخصية عبد الكريم الخطابي.. وقد صادف وجودنا في المغرب صعود نجم المنتخب المغربي سنة 1986، وكم أمتعني التّيمومي.. وكنت من المعجبين بفريق الفتح الرباطي، رغم أن «الجيش الملكي» كان هو متزعم البطولة المغربية»... نسي نزار كعوان أن هناك ثوارا يجب أن ينطق باسمهم وفي مواضيع ثورتهم، وبقي يتحدث ل»المساء» عن ذكرياته المغربية...
مغاربة وسط الثوار
هنا في فندق «المهاري»، التقت «المساء» رضوان. شاب مغربي في الثلاثينات من العمر، يشتغل نادلا في الفندق الذي احتضن الصحافيين بدلا من السياح. لم يتورع رضوان في إعلان تذمره من الثورة. لم يعبأ لأمر الثوار، الذين يحومون حولنا، مراقبين دخول زبناء الفندق من الصحافيين. قال رضوان بانفعال: «أول ما دخلوا إلى الفندق (يقصد الثوار)، وجدوني أتحدث إلى زبونة. طرحوني أرضا، مهدِّدين إياي ببنادقهم. قيَّدوا يدي ورجليّ. قالوا إن تلك السيدة أعطتْني رقم هاتفها. سمعتُ منهم أنها مقرَّبة من القذافي، وهو أمر لا علم لي به ولا أظنه صحيحا. عندما أمعنوا في إهانتي، قلت لهم اتركوني أكلّم سفير بلدي، فأجابني أحدهم: «كلّم حتى سفيرة بلدك».. وأضاف آخر: «لقد قتلت 99 من أمثالك، وإن لم تصمت سأكمل بك ال100»...
تركت «المساء» رضوان يواصل عمله في فندق «المهاري» وغادرت رفقة نور الدين لخضر، رئيس جمعية التواصل في طرابلس، ونائبه محمد عدلي. كان نور الدين ضابطا في الجيش الملكي، وعدلي حاصل على الإجازة في القانون. اختار الشابان المغربيان العيش رفقة أسرتيْهما هنا في العاصمة الليبية، كما اختارا أن ينقلا اهتماماتهما الجمعوية لخدمة المغاربة المقيمين في ليبيا، وقد لعبا دورا مُهمّاً أثناء عملية مغادرة آلاف المغاربة ليبيا، في بداية الثورة. رافق عدلي ونور الدين «المساء» إلى موعدها مع القائم بأعمال السفارة المغربية. الساعة الحادية عشر والنصف بتوقيت طرابلس. ظلمة تعُمّ الشوارع، ولا يسلم منها مقر سفارة المملكة المغربية. في الاستقبال ثلاثة موظفين. فتشوا حقيبتَيْ مبعوث «المساء»، قبل أن يسمحوا له ولمرافقيه بالمرور لملاقاة المسؤول عن السفارة في غياب السفير. محمد المدغري، شخص حذر. كرر مرارا أنه غيرُ مخول له الحديث باسم السفارة، خصوصا في «أمور سياسية»...
قال إن المغرب، فضلا عن مصر، حافظ على سفارته في طرابلس مفتوحة، حتى بعدما اعترف بالمجلس الانتقالي. برر ذلك بكون المغرب يحتل المرتبة الثانية بعد مصر، من حيث عدد مواطنيه المقيمين في ليبيا (حوالي 200 ألف مغربي). قال إن عدد المغاربة الذين قضوا أثناء الثورة لا يتعدى الستة، وكلهم ماتوا عن طريق الخطأ. حكى كيف أن السلك الدبلوماسي المغربي في طرابلس عاش أياما عصيبة طيلة الأشهر الستة من عمر ثورة ال17 من فبراير. تحدث عن الرصاصات «الطائشة» التي دخلت مقر السفارة وكيف أن رصاصة مرّت جنب أذن أحد موظفيه وكيف هوجمت سفارة الجزائر وأُحرِقت خمسُ سيارات تابعة لها... فيما تحدث محمد عدلي، نائب رئيس جمعية التواصل، عن المصير المماثل الذي تعرضت له سفارة فنزويلا، «نظرا إلى كون الثوار لم ينسوا كيف طلع عليهم السفير الفنزويلي، ذي الأصل السوري، في برنامج «عشم الوطن» وأخذ يؤيّد نظام القذافي ويكيل التهم للمجلس الانتقالي وللثوار».
تحدث الشابان المغربيان، عدلي ونور الدين، عن اعتقال عدد من «أبواق القذافي الإعلامية»، توقفا عند حالة المذيعة هالة المصراتي، التي ظهرت تحمل مسدَّسَها، مهددة الثوار إنْ هم دخلوا «بلاطوها»، الذي كانت تنطق منه بكل ما يخطر على بالها من حماقات أقل ما يقال عنها إنها ضحك على ذقون الليبيين، مثل قولها إن «مجلس الأمن تبنّى قرارا، مع أن التبنّي حرام»... ناقشا كيف حملت هذه المذيعة مسدسَها عندما شعُرتْ باقتراب أفول نجمها الإعلامي، بقرب دخول الثوار إلى طرابلس، وكيف كانت تردد «يا قاتل يا مقتول»، ثم كيف تراجعت عن كل جسارتها، عندما ألقى الثوار القبض عليها...
قاطع محمد المدغري، القائم بأعمال السفارة المغربية، شجون هذا الحديث، متسائلا عن المدة التي قضتْها «المساء» في طرابلس، ثم علّق: «الأيام الستة التي قضيتموها هنا في طرابلس، والتي تلت سقوط العاصمة، هي الأصعب منذ قيام الثورة»...
عالمي لكن مغربي
في اليوم الثالث من وجودها في ليبيا، التقت «المساء» يونس بونو، شاب مغربي من مواليد سنة 1978 في طرابلس. حاصل على الإجازة في الحقوق بالفرنسية. كان يرافق مصورة صحافية فرنسية. قال إنه ازداد في طرابلس، لكنه عاد إلى المغرب لاستكمال دراسته، وبعد حصوله على الإجازة ثم على دبلوم في التسيير الفندقي والسياحي، عاد إلى ليبيا سنة 2000. يقول يونس إنه بعد قيام ثورة 17 فبراير، عانى الأجانب، وخصوصا الجالية العربية، من النظام السابق، حيث «بقي القذافي وأبناؤه يهددون في العرب ويُلقون عليهم باللائمة، في محاولة لتبرير نظام حكمهم، فكانوا يقولون إن العمالة العربية هي السبب في أزمات ليبيا». يحكي يونس، ثم يعود ليتذكر الإهانات التي تَعرَّض لها المغاربة الذين قرروا مغادرة ليبيا بعد قيام الثورة، حيث كان أفراد الكتائب يفتّشونهم ويصادرون، عنوة، هواتفَهم وحواسيبهم المحمولة: «أذكر أن الكتائب سرقت من شخص من خريبكة مبلغ 17 ألف دولار قرب الزاوية». ويؤكد يونس، الذي ازداد وعاش في طرابلس وتعرف عن قرب على نظام القذافي أن «المزاجية كانت هي القانون الذي يضبط مع نظام القذافي الجالية المغربية. في سنة يفرض تأشيرة على المغاربة ويلغيها في سنة أخرى ويشترط مبلغ 400 دولار لدخول ليبيا.. أنا مولود في طرابلس لكنني عندما كنت أذهب إلى المغرب وأريد العودة. لم أكن أحصل إلا على تأشيرة صالحة لشهر واحد فقط، كما لو كنت سائحا يزور ليبيا لأول مرة، لذلك كنت أضطر للبحث عن عقدة عمل، ولو وهمية، لتمديد إقامتي في ليبيا»...
بدا يونس متفائلا بخصوص ليبيا الجديدة، قال إن «مصطفى عبد الجليل صرح قائلا: بالنسبة إلى الأجانب المقيمين في ليبيا هم ضيوفنا، وبالنسبة إلى المولودين في البلد سيخضعون لنظام خاص». ومهما كانت الحكومة المقبلة، فستكون أحسن من نظام القذافي، يضيف يونس، «لأنه ليس هناك أسوأ من الحماقات».
في «حي قرجي» في المدخل الغربي لطرابلس، سكن العلمي، بعد أن طاف لمدة 23 سنة مدن ليبيا وأحياء طرابلس. إضافة إلى إقامته في هذا الحي، يتوفر العلمي على محل للجزارة كتب على واجهته: «قصّاب العالمي». ورغم أن العلمي قبِل بالمعنى الذي أعطي لاسمه المغربي القح، فإنه حافظ على مغربيته، مفضلا إياها على صفة «العالمية» التي وسم بها الطرابلسيون اسمه.
يعتز العلمي بتقدير الطرابلسيين صنعتَه وأمانته: «هم يثقون في ولا يترددون في إرسال نسائهم للتسوق من عندي، لأنهم خبِروني لمدة 23 سنة ووجدوني إنسانا أهلا لأنْ يؤتمَن».
يعتزّ الليبيون الذين التقتْهم «المساء» في لقائها مع العلمي بتضامن هذا الأخير وأسرته معهم في محنتهم هاته، والتي يقول بصددها العلمي: «لم نفكر أبدا، لا أنا ولا زوجتي ولا أخي محمد، في مغادرة ليبيا، كما فعل الآلاف من المغاربة مع بداية الثورة». ويعتبر العلمي وأسرته أن أحسن رد جميل لليبيين هو البقاء معهم في السراء والضراء، لذلك ازداد العلمي وأخوه محمد وزوجته، المتحدرون من مدينة زرهون، احتراما في أعين معارفهم من الليبيين.
يقول الليبيون الذين تعرفت إليهم «المساء» في طرابلس، كما في غيرها من المناطق، إن المغاربة هم الجالية المحبوبة في ليبيا. يبدو الأمر للوهلة الأولى مجاملة من أبناء البلد لصحافيّ زائر، لكن العلمي يؤكد ذلك قائلا: «عندما يغادر المغربي بلدَه يصبح أكثرَ حرصا على صورته، والمغاربة هنا في ليبيا يشتغلون بجد ويتقنون عملهم، لذلك يروقون الليبيين أكثر من باقي الجنسيات الأخرى». يساعد العلمي في محل الجزارة أو«القصابة» كما يسميه الليبيون، أخوه محمد، الشاب الثلاثيني الحاصل على الإجازة في القانون من كلية الحقوق في مكناس. كان محمد ينوي السفر إلى إحدى دول أوربا الشرقية، لكنه آثر، في آخر لحظة، البقاء رفقة أخيه العلمي هنا في طرابلس، مستعيضا عن الثروة بالطمأنينة.
بعد يومين من وصول «المساء» إلى طرابلس، كان الثوار قد حسموا جميع البؤر الموالية للقذافي. في اليوم الذي حرروا فيه «حي أم درمان»، التابع لمنطقة «بوسليم»، قرر أبناء «حي قرجي» ذبح جمل وتوزيع لحمه على ساكنة الحي. لن تسند هذه المهمة، طبعا، لأي من «القصابين» غير العلمي. كان الجميع يهتفون بشعارات الثورة ومعها اسم العلمي، الذي كان يلوح للأطفال والشباب بمديته الملطَّخة بالدماء، فيما يكتفي أخوه محمد برسم ابتسامة عريضة. «لم يسبق لي أثناء مزاولتي مهنة الجزارة في المغرب، أن قمتُ بذبح أو سلخ جمل، لكنني تعلمت ذلك هنا في «ليبيا»، يقول العلمي.
استضاف محمد، أخ العلمي، صحافي «المساء» في فطور على سطح البيت. كانت زوجة العلمي قد أعدّتْ فطورا يتعرف الواحد على مغربيته من رائحة «المْلوي» التي تهجم رائحتُه على خياشمه من أسفل الأدراج. «سامحني.. لم أطبخ «الحريرة» اليوم، لأن قارورة الغاز فرغت، ولو كنتُ عرفتُ أنك ستحضر لكي تُفطر معنا لَما توانيتُ في البحث عن غاز في أي مكان»، تقول زوجة العلمي، وهي تضرب كفا بكف، حسرة على «الحريرة» المغربية الغائبة عن المائدة الرمضانية في ذلك اليوم. «حْنا بقينا شادين فالتمغرابيتْ ديالنا وخا هادي 23 عامْ وحْنا هْنا فليبيا»، يعلق العلمي.
الحفاظ على «التامغرابيت»، بتعبير العلمي، أمر وجدته «المساء» لدى عدد من المغاربة الذين التقت بهم في طرابلس. «قيدوم» المهاجرين المغاربة في طرابلس، محمد الخالدي، الذي قدِم إلى ليبيا بعد سقوط الملكية بسنتين، قال إنه يحرص على أن يتابع أبناؤه الخمسة دراستهم في المغرب: «عندما يبلغون سن التمدرس، أبعثهم إلى المغرب عند العائلة». قال الخالدي الذي حكى ل«المساء» عن مغامراته في صحارى ليبيا وجبالها، إنه يتحفظ عن التفصيل فيها، لأنها حكايات قادتْه إلى ما هو فيه من كفاف الحال، بعد أن كان من المقاولين الأوائل الذين اشتغلوا في ليبيا.. «لكنني تركت عالم المقاولة واشتغلت مهندسا إلى جانب أحد أكبر المقرَّبين من نظام القذافي، لأجد نفسي، في النهاية، أدخل أماكن غاية في السرية والخطورة في أقاصي الصحراء الليبية، وشيئا فشيئا، وجدتُ نفسي متورطا في أعمال لا عهد لي بها». هنا يقف محمد، الستيني، وتبقى حكايته معلقة، وكلما كانت «المساء» تستدرجه لاستكمال الحكي، كان يلغز الأمور، ملتفا على «قصة» يبدو أن تفاصيلها آلمتْه كثيرا...
العشاء الأخير
محمد العرادي، شيخ سبعيني، قضى رفقة عائلته ستة أشهر معتصما في «باب العزيزية». ما الذي عساه يفعله رجل في مثل سن العرادي في الشارع العامّ، غيرَ بعيد من قصر الزعيم المطاح به؟ «كان يهتف إلى جانب آخرين بحياة معمر القذافي»، يحكي محمد عدلي، نائب رئيس جمعية التواصل المغربية. ولماذا يهتف مغربي بروح قائد دولة أجنبية؟ لأن القذافي كان يمنح «بطاقة الصمود» لكل الأجانب الذين يفِدون كل يوم على ساحة «باب العزيزية» ليهتفوا باسمه، في إطار الحملة التي نظمتْها إحدى الهيآت التابعة للنظام «البائد»، والتي أطلقت على نفسها اسم «هيأة حماية ملك ملوك إفريقيا»... كان نظام معمر القذافي يحشد الأجانب، إلى جانب أعضاء اللجن الشعبية الموالية له، ليخطب فيهم «ملك ملوك إفريقيا»، كما لو كانوا رعايا له، فيما هم يبادلونه الخطاب بالهتاف بحياته أو بإبداء الحاجة إلى وجوده، حين يصيحون: «علِّمنا يا قائد، علِّمْنا»...
لكن الحقيقة هي أن هؤلاء الأجانب العرب والأفارقة وُعِدوا بأن يُمنَحوا وضعا امتيازيا بعد القضاء على الثوار، الذين كان القذافي يُسمّيهم «الجرذان المْقمّلين». أبرَزُ هؤلاء المغاربة الذين كانوا يرابضون يوميا قربا قصر القدافي هو المغني الشعبي المغربي الفنان سعيد. كان يؤتى به كل مساء لإحياء سهرات «باب العزيزية»، التي ينقلها تلفزيون «الجماهيرية» مباشرة، موحيا أن «العامْ زينْ» وأن نظام القذافي دائم الأفراح والمسرات.. وشيئا فشيئا، أصبح الفنان سعيد هو من يشرف على تنظيم الحفلات واستدعاء موسيقيين آخرين. «في إحدى المرات، تعرّض الفنان سعيد، الذي كان يتقن الأغاني الشعبية الليبية، لمحاولة اغتيال فاشلة في شارع أول سبتمبر، فقامت الكتائب بتغيير محل سكنه وبدأت تصحبه في مجيئه ورواحه حتى بيته السري»، يحكي محمد عدلي، الناشط الجمعوي المغربي.
إضافة إلى الفنان سعيد، كان المغربي الأكثر إثارة للانتباه هو إسماعيل واي، الذي لم تكن لتخطئه العين وهو يُلوّح بالعلم المغربي الأحمر، الوحيد وسط الأعلام الخضر، مُصرّاً على تعقب الكاميرا. عن إسماعيل واي يحكي محمد عدلي قائلا: «كان إسماعيل يشتغل كصائغ ذهب وفضة في طرابلس. مع بداية الثورة، استُدرِج إلى «باب العزيزية» ولم يبرحْه إلى يوم دخول الثوار طرابلس. أذكر أنني بقيتُ على اتصال به من يوم 10 حتى يوم 17 غشت بشكل يومي، وقد كنت أنصحه بألا يحمل العلم المغربي، لأنه يجعله «مكشوفا» للجميع، كما نصحتْه بأن يلتزم الحياد، لكنه كان متحمسا بشكل كبير لنظام القذافي، كما لو كان موقنا أن القذافي سينتصر على الثوار وسيدْحرهم وأنه سيمكّنه من وضع اعتباري ومن امتيازات مهمة... وفي ليلة سقوط طرابلس، اتصلتُ به فوجدتْه مرتبكا، يتلعثم في حديثه، وقال لي إنه لا يعرف ما الذي سيفعله، وعندما عاودتُ الاتصال به يوم دخول الثوار العاصمة، وجدت هاتفه مقفلا، ولا أعرف وجهته إلى اليوم».
كان الشيخ محمد العرادي آخرَ شخص يرى إسماعيل واي، قبل اختفائه. حكى ل«المساء» قائلا: «يوم دخل الثوار طرابلسَ، أصيب إبني محمد بطلق ناري في رجله. كان إسماعيل ما يزال إلى جانبي، وللحظة أخبرني أنه سيصحب أبنائي إلى المنزل ثم يعود، لكنه لم يعد ولم أر له أثرا إلى يومنا هذا».
مغربية أخرى من أصحاب «بطاقة الصمود»، بقيت «صامدة» في «باب العزيزية» إلى أن دخل الثوار وحولوا اسمه من البيت الصامد إلى البيت «الصامت». فاطمة، من الدار البيضاء، متزوجة من مواطن سوري كانت قد جاءت إلى المغرب رفقة أبنائها الثلاثة، نظرا إلى أن أمها المريضة بالسكري أجريت لها عملية بُتِرت فيها ساقها. بعد وصولها إلى المغرب، قيل لها إن جمعية تشكلت لتُحاوِر السلطات المغربية حول وضعية المهاجرين المغاربة في ليبيا. لاحقا، شاركتْ في وقفة احتجاجية أمام البرلمان، تزامنت مع إحدى تظاهرات حركة 20 فبراير، ففرّقتْهم قوات الأمن بالقوة. شكّلوا لجنة حوار ودخلوا لمقابلة الوزير المكلف بالجالية. «عندما قلنا له إننا صرنا بلا شغل ولا سكن، أجابنا الوزير عامر: سيرو للخيرية»!... بعد أن يئست فاطمة من الحصول على وضعية اجتماعية قارة في المغرب، فكرت في العودة إلى ليبيا، وعلى الحدود التونسية -الليبية، «ساومها» رجال مصلحة «الجوازات» الليبية ولم يسمحوا لها بالعودة إلا بعدما أدّتْ لهم مبلغ 1000 جنيه رشوة. «عندما عدتُ إلى طرابلس، لم أجد أمامي إلا «بطاقة الصمود، التي كانت توفر لي بعض المؤونة التي أعيل بها أبنائي، خصوصا أن زوجي كان قد أوقِف عن العمل. وقد بقيت مقيمة في «باب العزيزية» إلى حين سقوط النظام».
مآسي الرحيل
في أواسط شهر مارس المنصرم، قرر أكثر من نصف المغاربة المقيمين في ليبيا الرحيلَ نحو المغرب. هنا وجدت القنصليات المغربية في ليبيا في جمعيات المجتمع المدني، حديثة التشكل، خيرَ مساعد لها في ضبط وتنظيم الأعداد الكبيرة من المغاربة الذين حزموا حقائبهم وعزموا على الرحيل نحو الوطن -الأم. في مقر السفارة المغربية، قابلنا محمد المدغري نائب السفير الذي غادر طرابلس لأزيد من أربعة أشهر. جلس نور الدين لخضر يحكي ل»المساء» عن مآسي بعض المغاربة في هذه الرحلات التي بدأت ببدء ثورة 17 فبراير، وكلما كان نور الدين يغفل عن حالة من الحالات إلا ويذكره نائبه في مكتب جمعية التواصل، محمد عدلي، فيما محمد المدغري، القائم بأعمال السفارة، يتابع باهتمام.
تذكَّر سيدة مغربية متزوجة من ليبيّ ذهب مع الكتائب للقتال في إحدى الجبهات، قال إنها كانت على علاقة سيئة مع عائلة زوجها، لذلك لم يبق أمامها غير الرحيل بمعية ابنتها نحو المغرب. جاءت إلى القنصلية تطلب «ليسّي باسّي» لطفلتها الوحيدة من الجندي الليبي، لكن إدارة القنصلية امتنعت عن تسليمها أي وثيقة تُمكّنها من اصطحاب ابنتها خارج ليبيا، «قال لها القنصل إن من شأن ذلك أن يسبب أزمة دبلوماسية للمغرب مع ليبيا، في حالة ما إذا اتهم الأب المصالح القنصلية بمساعدة زوجته على تهريب ابنته خارج ليبيا». والحالة هذه، اضطرت هذه المغربية إلى حمل ابنتها والذهاب نحو «باب العزيزية». وهناك، كانت تحصل على قوتها وقوت ابنتها مقابل الهتاف بحياة القذافي. «عندما ذهبنا لزيارة هذه المغربية وابنتها، في «باب العزيزية»، وجدنا عددا من الشباب المغاربة عالقين هناك بدون جوازات سفر، لأن جوازاتهم كانت محجوزة كضمانة لدى مشغّليهم الأجانب، الذين رحلوا عن ليبيا فجأة، بعد بدء الثورة وأخذوا معهم جوازات سفر هؤلاء المغاربة».. يحكي نور الدين لخضر. حالة مماثلة، لكنها كانت محظوظة، حين وجدت من يقف إلى جانبها، خارقا القانون لاعتبارات إنسانية. يستعيد نور الدين لخضر: «هي حالة سيدة مغربية متزوجة من شخص مالي لها معه 6 أبناء، جاءت إلى القنصلية للحصول على «ليسّي باسّي» لاصطحاب أبنائها معها إلى المغرب، بعد أن هجرها زوجها المالي. وعندما رفضت القنصلية منحها وثائقَ لترحيل أبنائها، «خدمْنا خْدمتْنا» أنا ومحمد عدلي، لاعتبارات إنسانية محضة. طلبْنا منها أن تنتظر قرب الباخرة، وعندما قاربت الأخيرة على الإقلاع، طلبتُ منها أن تسرع. وهي تهُمّ بركوب الباخرة، سألني المسؤول الليبي عن الجمارك عن وضعيتها فقلت له إنها جاءت متأخرة. سألني ما إذا كنتُ قد راقبتُ وثائقها ووثائقَ أبنائها فأجبت بالإيجاب.. وهكذا «نجت» من البقاء في باب العزيزية». يصمت نور الدين ويتكلم عدلي: «أتذكر مغربيا -نسيت اسمه- لكنني أذكر أن عمره كان 42 سنة، وقد كان مصابا بمرض الكبد الفيروسي، عندما أخرجوه من المستشفى مع بداية رحيل المغاربة. حين جاء إلى الميناء، طبعتُ جواز سفره وبدأت أساعده على صعود الباخرة. كان يمشي بصعوبة، اتصلتُ بطاقم الباخرة والتمست منهم إحاطتَه بالعناية اللازمة، اعتبارا لوضعه الصحي. كشف عليه طبيب السفينة وقال إنه يحمل مرضا معديا ولا ينبغي نقله مع الركاب. التمستُ من الطاقم أن يخصص له غرفة بمفرده، فرفضوا. كان هذا الشخص بالكاد يتكلم، لذلك نصحتْه بالعودة إلى المستشفى».
هناك حكاية «بطلتها» سيدة مغربية، وتعكس، للحقيقة، الجوانب المضيئة لنظام القذافي. «كانت هذه السيدة حاملة بثلاثة توائم، وقد طلبتْ منها إحدى المصحات ما مقداره 14 مليون سنتيم مغربي، المبلغ الذي استعصى عليها تدبُّره. عندما بلغ ذلك إلى علم السفير المغربي، كلّم، في الحين، وزير الصحة الليبي، فأعطى الأخير أوامره لأن تجرى لها العملية بالمجان، وكذلك كان»...


مثقفو القذافي المغاربة الذين كانوا يتهافتون على خيمته البدوية
في مساره الأدبي، ألّف القذافي ثلاث مجموعات قصصية هي «عشبة الخلعة والشجرة الملعونة» و»ملعونة عائلة يعقوب، مباركة أيتها القافلة»، و»القرية.. القرية، الأرض.. الأرض، وانتحار رائد الفضاء».. أقام القذافي لهذه المجموعة الأخيرة في 2002 ندوة كبرى استدعى إليها كبار المفكرين والنقاد العرب والعجم، في طليعتهم المفكر الفرنسي روجي غارودي، الذي لم يُلَبّ الدعوة طبعا، بينما حضرها اثنان من مثقفينا المغاربة: الكاتب القاص ادريس الخوري والناقد بشير القمري...
من جملة ما قاله القمري في القذافي وكتابه القصصي: «عندما نتأمل ونتدبر نص المدينة، وبعدَه، كل نصوص المجموعة، نكتشف أن صوت القائد معمر القذافي ليس صوتا معزولا عن العالم، إنه صوت يصدر عن ذات متعالية وعن كائن يتجاوز حدود الأنا المتكلم الذي نعرفه ونعرف أنه قائد ثورة عربية معاصرة تفاعلت مع هويتها العربية الإسلامية ومع أحداث العالم من حولها. من ثم يتشبع ملفوظ هذا النص وسواه بروح التأمل والنقد والسخرية، مع الاحتفاظ بمسافات الانتماء الضرورية من أجل إقناع القارئ المتلقي بجدوى الرؤية التي يصدر عنها في تصور أوضاع البشر في مواجهة مصائرهم وأقدارهم المختلفة في فضاءات المدينة وسواها. إنه صوت يذكّرنا بأصوات الفلاسفة والمتصوفة والشعراء»...
في تلك الندوة، نجد أيضا أحد رموز القصة المغربية وهو إدريس الخوري. يحضر ويشارك بمداخلة عن قصص القذافي، من جملة ما قال فيها: «عندما قرأت خبرا عن صدور مجموعة قصصية في الصحف لمعمر القذافي ذات يوم، تساءلت: كيف يجد رئيس دولة كبرى، مثل الجماهيرية الليبية، الوقت الكافي لكتابة قصة أو رواية أو قصيدة؟ ذلك أن المهام الرئيسية للرجل وانشغالاته ببلده الناهض وببقية بلدان العالم تحُول دون أن يخلد إلى الراحة والتأمل: التأمل في الذات، في الكون، في الآخرين.. ومع ذلك، فثمة اختلاس سري للوقت والتفكير في ما يجب عمله.. ها هو القذافي يقرر أن يحلم مثل بقية الناس، فيكتب القصة القصيرة بنوع من المسؤولية السياسية والأخلاقية، منتميا إلى قبائلنا السردية دون استئذان.. هكذا يزاوج، من موقعه كزعيم بلده، بين الخطاب السياسي المباشر وبين الخطاب الأدبي»!...



عبد اللطيف الشليح: أنا أطالب بالعدل والإنصاف في قضية ابنتي
- ما قصة وفاة ابنتك عائشة؟
ابنتي إنسانة متخصصة في تدبير شؤون كبريات العائلات. في سنة 2004، رحلت إلى ليبيا للاشتغال هناك. مع بداية الأزمة في ليبيا، طلبتُ منها أن تعود إلى المغرب، فأجابتني بأنها في منطقة آمنة اسمها «فرمان»، توجد شرق صبراتة (قرب الحدود التونسية). وطمأنتني قائلة: «نحن لا علاقة لنا بما يجري، خالد الخويلدي الذي أشتغل معه هو مهندس مدني، بينما يسكن والده، الذي يشتغل في السياسة، في طرابلس».. لقد كانت -رحمها الله- تقول لي في كل مكالماتها «لا تبالغ يا أبي»، إلى أن بلغنا خبر وفاتها ذات يوم من شهر يونيو المنصرم.
-كيف ومتى علمتم بخبر وفاة عائشة بالضبط؟
كان ذلك، بالضبط، في يوم 20 يونيو 2011، وكان يومَ أربعاء، اتصلتْ هاتفيا سيدة تقيم في السعودية، سبق أن اشتغلت مع ابنتي في منزل الخويلدي، وقالت لزوجة أخي إن المنزل الذي تشتغل فيه ابنتي عائشة قد قصفه «الناتو». اتصلتُ بالسفارة المغربية في طرابلس، فقالوا لي إنه لا علم لهم بالموضوع وأضافوا أنْ لا مصراتة ولا فرمان تعرضتا للقصف في التاريخ الذي ذكرتُه لهما. ولجتُ شبكة «الأنترنت» للتأكد من الأمر، فوجدت أن فرمان قد تعرضت بالفعل لقصف «الناتو» في نفس التاريخ. عاودتُ الاتصال فأكد لي القنصل العام للمملكة في طرابلس الأمر، مضيفا أن ابنتي توفيت من ضمن من توُفّوا في المنزل المستهدَف.
-ماذا فعلت حينها؟
كتبتُ رسالة إلى «الناتو»، وجهتُ نسخا منها إلى كل من الديوان الملكي، الوزير الأول ومجلس النواب. بعد يومين، اتصل بي القنصل العام يخبرني أنه قد أنهى إجراءات نقل الجثة إلى المغرب، وقبل أن يخوض معي في تفاصيل إرسالها، أجبتْه بأن استقبال الجثة ودفنها يعني إقفال الموضوع، فيما أنا أعتبر ابنتي مغتالة عن سبق إصرار وترصُّد، لذلك لا أقبل تسلُّم جثمانها إلا بعد تحديد من اغتالها ومعاقبته، قال لي: ابعث لي إذنا بالدفن، فبعثْتُ له الإذن مشروطا بحفظ قبرها. في يوم السبت الموالي ل20 يونيو، نادى علي الخويلدي الأب. قدم لي العزاء ووعدني أنْ يعاود الاتصال بي بعد دفن عائشة. وبالفعل، اتصل بي للمرة الثانية ليخبرني أنهم دفنوها في يوم الأحد في صبراتة، وتحديدا في مقبرة توجد على الطريق الرئيسية. وكانت تلك آخرَ مرة يتصل بي فيها. لاحقا، اتصل بي للعزاء أناس من مصر وتونس وبلجيكا، إلا المغرب، الذي رغم أنني أعلمت كل مسؤوليه بالحدث، فلا جهة كلّفت نفسها عناءَ تقديم العزاء لنا.
-كيف لجأت إلى القضاء الدولي؟
أنا أطالب بالعدل والإنصاف في قضية ابنتي. حاليا، لا تسمح لي الظروف بالتقاضي أمام محكمة جنائية. أما مدنيا فالقضية «مْربوحة» مائة في المائة وسيعزز الحكم المدني الحكم الجنائي، لذلك أجدني متريثا حتى لا أشوش عن الحكم المدني.
-كيف أقمت دعوى مدنية؟
بحثت عن محام بلجيكي عبر «الأنترنت»، وكان الأستاذ GHIS LAIN DUBOIS. بعثتُ له «فاكسا» حول الموضوع، وبعد دقيقتين، اتصل بي بالهاتف، معربا لي عن قبوله الترافع في هذه القضية، بل ومؤكدا لي أنه سيشتغل عليها حتى النهاية، لاسيما أنه كان قد وضع شكاية باسم خالد الخويلدي، الذي فقد في الحادث زوجتَه صفاء وأبناءه الثلاثة، إضافة إلى الطباخ سوداني الأصل وأبنائه الثلاثة وزوجته المغربية فتيحة. لكن للأسف فملف هذا الطباخ وأسرته لم يفتح لانعدام وجود طرف مدنيّ يطالب برفع دعوى قضائية.
-ولماذا لجأت تحديدا إلى القضاء البلجيكي؟
لأن مقر «الناتو» الحالي يوجد في بروكسيل، والقانون البلجيكي يسري عليه حتى في حالة تغيير مقره لاحقا، على اعتبار أن «الناتو» هو المسؤول الأول والمباشر عن مقتل ابنتي عائشة وكل المدنيين العُزَّل الذين كانوا يومها في ذلك البيت. لذلك أُصِرّ على أن الأمر اغتيال وليس حادثا عرَضيا، فقد ضربوا بيت الخويلدي وهم يعرفون أنه محل سكنى مدنية. هؤلاء يحتكمون إلى «قانون الغاب» ويعتبرون دمَنا رخيصا، فقتل 10 أشخاص أو حتى 100 شخص لا يعني لهم أي شيء. أنا أصِرّ على أن «الناتو» قتل هؤلاء الأبرياء بنيّة وبإصرار وترصد لهم. لقد كان اليومُ يومَ أحد وكانت العائلة تحتفل بعيد ميلاد أحد أبناء خالد الخويلدي، وكان هناك ضيوف جاؤوا لحضور المناسبة، فمات الكثيرون منهم.
-ضد من تحديدا وضعت شكايتك؟
ضد أندرس فوغ راسموسن، رئيس حلف «الناتو». أنا أضع صورته أمامي في غرفة نومي حتى لا أنساه. ومن جملة المسائل التي سأطالب بها في محكمة العدل الدولية الاعتذار: يجب أن يعتذر لي راسموسن هنا في منزلي، أن يأتي ويدق باب بيتي ويقدم اعتذاره. أليس هو من يسطر السياسة العامة ل«الناتو»؟ لستُ أدري كيف يدخل على أبنائه الثلاثة بينما هو يتسبب في مقتل أطفال أبرياء؟! أنا لا أُكِن له أي حقد، ولكن هذه مطالبي لإحقاق العدالة. من يخطئ يجب أن يطلب الاعتذار ممن أخطأ في حقهم. أما في ما يتعلق بالمطالبة بالحق المدني، فتلك مسطرة أخرى.
-ما الذي قالته لك ابنتك عائشة في آخر اتصال لها بك؟
-قبل أسبوع من وفاتها، كلّمتْني. كان آخر شيء قالته لي هو: «أبا، ارضي عْليّا».. فقد كانت مقبلة على الزواج من شخص مصري، وقد بعثتُ لها بالوثائق الإدارية اللازمة لذلك في شهر دجنبر 2010. لكن بداية الأحداث في ليبيا حالت دون إتمامها إجراءات الزواج... (يبكي). لقد أكد تقرير الطبيب الشرعي أن جثة ابنتي تحولتْ إلى أشلاء. كما أنني عندما سألتُ القنصل المغربي عن حليها وأغراضها، أجابني بالفرنسية قائلا: «tout en poussière « (كل شيء تحول إلى غبار).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.