الجمعة، 26 غشت. وقفت على الطريق، مستعجلا. لم أنتبه إلى أنني لوَّحت إلى سيارة تقودها امرأة. توقفتْ. قدّمتُ نفسي، ثم أخبرتها أنني أقصد فندق «المهاري»، حيث يوجد ربط مع الأنترنت. طلبت مني، بأدب، ما يثبت أنني صحافي، «ما عْليشْ، سامحني، الدنيا ملخبطة». كانت مرافقتي الدكتورة أحلام، امرأة عصرية، عكس غالبية الليبيات، فرحة حد التصابي بالثورة والثوار، الذين يوقفوننا في الحواجز «يا رب مين يصدق هاذي أول جمعة من غير اللي ما بيتسمى». قالت: «أنا أول ليبية طلعت على الأنترنت، قبل خمسة أشهر، ملثمة، أحرض النساء والشباب للثورة على..». أضافت أنها حضرت في السنة الماضية مؤتمرا طبيا في الرباط وزارت مكناس وطنجة وأنها كانت تخفي «البادج» لكي لا تبدو ليبية: «كان مبهدلنا، مظهرنا أغبياء وأميين... الله، الله على هواء الحرية». تحدثت وتحدثت، فيما أنا أتطلع، بصمت، إلى نبع المشاعر المتدفق من عيني ولسان هذه المرأة، الخمسينية. عندما لاحظت انشداهي، تداركت: «سامحني، لم أقدم لك نفسي كفاية. أنا أمي هي الأميرة شاهيناز، ابنة والي سبها، زمن الملك الطيب إدريس السنوسي.. أخي عاد من الجبهة أمس، لم نره منذ خمسة أشهر، وخالي استشهد قبل أيام. شاب حلو.. ارحمه يا رب». اليوم، الجمعة، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أن «ليبيا دخلت مرحلة جديدة وتلزمها حكومة جديدة». من جانبه، أكد مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الانتقالي الليبي، في يوم «أول جمعة بدون قذافي»، أن «الثوار عليهم أن يتوحدوا تحت لواء المجلس الانتقالي». الجمعة، 26 غشت 2011، «جمعة بدون مذاق القذافي، بعد أربعين سنة ونيف، تذَوّق فيها الليبيون طعم الزعيم الجاثم على أنفاسهم، بروائحه وفضائحه النفاذة. ابتلعوا اشتراكيته ولم يهضموها. حصدوا أشواكه ولم يزرعوها. قضموا سلاطة لسانه، التي لا ملح فيها. وأدمنوا «طبخاته» المُبَهَّرة بتوابل الحمق والمرارة. فجأة، أفاق سكان طرابلس فوجدوا أن «قائدهم»، الذي ظل «يهرف» بما يعرف وما لا يعرف، قد فر من قصره! «زعيمهم»، الذي قال في تسجيلاته المرئية والمسموعة: «أنا هنا.. أنا صامد هنا»، فر من القصر الذي سماه «البيت الصامد»، فأطلقوا عليه «البيت الصامت»، ثم دخلوه، بنسائهم وأطفالهم. وللحقيقة، فلم يكن قصر «باب العزيزية»، يوم الجمعة، صامتا، كما يدعي الليبيون، إذ ظل صوت الرصاص يلعلع في سمائه، تتبعه زغاريد النساء وضجيج الصحافيين، من مختلف اللغات والسحنات، وصراخ الأطفال، المفزوعين من طلقات الرصاص، أطفال صحبهم آباؤهم ليروا أروقة قصر لم يعد منه، بعد تدميره والسطو على ما تبقى من أثاثه، إلا الاسم. قصر كان يسكنه زعيم لم يبق منه حتى الاسم. «القِردافي»، هكذا خط الطرابلسيون على جدران مرافق قصر «العزيزية»، كما على كل حيطان المدينة، «اسم» زعيمهم. أضافوا حرف «ر» إلى اسم القذافي، فاستحال الزعيم «قردا»... في طرابلس، هزم سكان العاصمة معمر القذافي بالسخرية منه والضحك على ذقنه، أكثر مما هزموه بالسلاح. بعد أن أقفل القذافي قبضته على عاصمة «ملكه» ونسى، كالنعامة، أطرافه عرضة لأشبال الثورة، يصولون فيها ويجولون. لم يجد الطرابلسيون من متنفس غير سلاح السخرية، وقد أصابوا القذافي في المكان الذي آلمه كثيرا، فنزل في شباب العاصمة اعتقالا وتقتيلا، بمساعدة رعاياه المرتزقة، الذين أتى بهم من أطراف إمبراطوريته مترامية الأطراف، أليس هو ملك ملوك إفريقيا!؟... دُكّت خيمة القذافي الكبيرة، دُكَّ رمز انتمائه إلى البداوة، التي آثرها على ما سواها من مكونات الحضارة الليبية: عربية، إسلامية، أمازيغية، أندلسية، فينيقية رومانية، حداثية... بُعثرت غرفة نومه، ولو رآها كما رأتْها «المساء» لاستيقظ من نومه، هو ابنه سيف الإسلام، الذي طلع على الليبيين متوعدا ثوارهم أن «ليبيا ليست تونس ولا مصر». لقد بُعثرت، يا سيف الإسلام، غرفة نوم أبيك وكسرت مرايا حمامه وعُبِث بالصواريخ التي لم يتوقف أبوك على الخطابة بالقرب منها في أحلك اللحظات عليه، ليذكر من يحتاج إلى تذكير ببطولاته «الدونكيشوتية»، قبل سنة 1986، والتي أنهاها (ولا شماتة) الرئيس الأمريكي السابق رولاند ريغن، بثلاثة صواريخ، أخرست الوالد وزاد من إخراسه، يا سيف الإسلام، مشهد إعدام صدام حسين يوم عيد أضحى، فتنازل والدكم عن مشروعه النووي وعوَّض، من أموال الليبيين، ضحايا تفجير طائرة من الأبرياء فوق «لوكِربي»... وعاد يطلب «السلة بلا عنب»، لكن هيهات، من يعطيه إياها. في مدخل إقامة القذافي، وقف حاتم، شاب من مصراتة، في الثلاثينات من عمره، حمل «ماصّة» هَدْم وبدأ يطوف أرجاء «القصر الجماهيري» بيتا، بيتا ومرفقا، مرفقا، وخلفه المصورون الصحافيون، فيما حاتم يهُد أركان «البيت الصامت». حطم حاتم، للأسف، المطبخ وقاعة النوم والحمام والأثاث... وعندما حمل «الماصة» في وجه صواريخ ريغان، صاح فيه شاب: «لا.. يا أخ، هذه حاجات يجب أن تظل ذاكرة للأجيال»، فوضع حاتم «ماصّته» على كتفه واتجه نحو حائط آخر. غادرت، أنا ومرافقي خيري، وهو شاب كان ضمن الحرس الخاص للقذافي قبل أن ينسحب «خالي كان وزيرا للقذافي، يحكي خيري، ولولاه لما تمكّنتُ من الخروج من هذه المهنة التي وجدت نفسي فيها رغما عني، بعدما كنت قد تسجلت في اللجن الشعبية كشرط للحصول على إذن بالدراسة في الخارج». عند خروجنا من مرفق مواز لجناح القذافي، وهو جناح فيه مجموعة من الفيلات الصغيرة، وجدنا مجموعة تشحن أثاثا ومعدات في شاحنات صغيرة. حرك مرافقي رأسه امتعاضا وضغط بقوة على دواسة السرعة. اليوم، الجمعة 26 غشت، تعني -بالتمام والكمال- مرور ستة أشهر وثمانية أيام، عن انطلاق شرارة ثورة 17 فبراير. اليوم، خطب الشيخ لؤي، إمام مسجد «التوغار» وسط طرابلس، دون أن يتسلم خطبة «الأوقاف». تحدث الشيخ لؤي، ذو الأصول الفلسطينية، والذي قضى أزيد من 15 سنة في طرابلس، عن الحرية وأصّل لها في القرآن والسنة، ثم دعا الليبيين إلى «التعاون والتآزر والتصابر»، ولأول مرة، «تحدث الشيخ لؤي عن إجازة إخراج الزكاة عيْنا، بعدما كان شيوخ «الأوقاف» يتلون خطبا جاهزة تحدد الزكاة نقدا في 3 دنانير، من دون أن يقووا على القول إن الزكاة عينا بالقمح والأرز جائزة».. يحكي خالد، وهو شاب يسدل لحية، نذر وقته لشباب الثوار، يصلح ذات البين بينهم، إذا اختلفوا وارتفع صوتهم.. يمسح على وجوههم ويربّت على أكتافهم. «في مساجد أخرى، درجت على الدعاء للقذافي، وجد الخطباء أنفسهم في حالة لا يُحسَدون عليها»، يعلق شاب كان يراقب حديث خالد إلى «المساء». بعد الانتهاء من خطبة الجمعة، أعلن الشيخ لؤي إقامة صلاة الجنازة، ترحما على الصبي محمد حسين الصديق، ابن السنة وثلاثة أشهر، الذي قتلته خطأ، صباح نفس اليوم، وهو في حضن جده، رصاصة طائشة من تلك التي يطلقها، حيثما اتفق ثوار، منتشون بالنصر. أثناء مغادرتي «باب العزيزية»، كانت مجموعة من النساء، متشحات بخُمُرٍ سوداء، يحملن أعلام «ليبيا الحرة»، يزغردن ويتغنيْن، لأول يوم في عمر الثورة، بشعارات التحرير، تمجيدا لبطولات الثوار ونكاية في معمر القذافي: «بوشفشوفة يا حلوف.. شوفْ الرجال شوفْ»، فيرد عليهن الثوار، متظاهرين بالتعاطف مع القذافي «ما عْليشِّ شفشوفة»، أي لا تؤاخدهن يا «شفشوفة»... عدت إلى المدخل الغربي لطرابلس. «مخبزة قرجي» تفتح مساء هذه الجمعة، لأول مرة بعد 10 أيام. الثوار منشغلون بتنظيم صفوف النساء والرجال الذين يغادرون الصفوف بانتظام، ممسكين خبزهم «الباريسي». فجأة، توقف حديث الخبز. ثمة رجلان يقولان إن قناصا في حي قرقاش (فيلات) استهدفهم فأصابت الرصاصة شجرة. حمل الثوار بنادقهم. أردت أن أتبعهم فصدّني أحدهم «إنت ما عندكش سلاح، لا تغامر»!... تركتهم يمشون فسرتُ خلفهم. عندما رآني الشاب الذي صدّني، حرك رأسه وضرب كفا بآخر ودمدم لصديقه. صعدوا الفيلا التي دلّهم عليه الشخصان، وبعد حوالي 15 دقيقة من التفتيش، خرجوا دون أن يعثروا على أي شيء. قال أحدهم: «هذا بيت سرتاوي»، أي أن صاحبه من منطقة سرت، التي يتحدر منها القذافي. دخلوا فيلا، مقر شركة، فدخلت في أثرهم. وجدنا الحارس يحرق علم «الجماهيرية» الأخضر. بعد تفتيش خفيف، خرج أحد الشباب يمسك القذافي من الإطار، فيما الزعيم راسم ابتسامة عريضة. بعد الإفطار، جاء إلي سمير، زعيم الثوار الميدانيين، مهرولا على صوت البنادق: «قم يا مغربي، قم خذ لجريدتك «المساء» أول تصريح لأول وأحلى ضابط شرط، في أول جمعة وأول عيد. يستجيب لقرار المجلس الوطني الانتقالي بالعودة للعمل». كانت حشود الثوار المسلحين والناس العاديين يسلمون على العقيد -مهندس عماد عثمان فطح، وهو يقول إنه عاد إلى العمل «استجابة لنداء رئيس المجلس التنفيذي محمود جبريل ورئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل، في المؤتمر الصحافي، الذي دعوا فيه رجال الشرطة إلى الرجوع إلى عملهم بداية، حتى ولو في مناطق سكناهم»، «مهام الشرطة، يا شباب، ستنكب بداية على إعادة تأسيس الأمن والحفاظ على سلامة المواطنين، الذين عانوا من آثار القصف والعدوان الذي شنّه الطاغية». وحول نوعية الشرطة التي سيساهم العقيد -مهندس عماد في تأسيسها، قال: «سيكون عملنا ديمقراطيا وتحت إشراف قضاء مستقل». لم يكد الطرابلسيون يُنْهُون فرحهم بخروج أول عقيد شرطة للعمل، وسط أنباء عن فرار القذافي وعائلته إلى الجزائر، حتى دخلت «بيكوبات» المقاتلين القادمين من جبهة القتال في منطقة «خلة الفرجان»، توجه اهتمام الجماهير والعقيد نحو المقاتلين الذين حكوا كيف قضوا على كتيبة «لواء 32»، التابعة ل»معسكر اليرموك»، وكيف فقدوا ثلاثة من رفاقهم، تَصيَّدهم قناص جزائري أسروه، بعدما أصابوه في ذراعه. جلس الشباب يُعدّدون غنائمهم من مخزن السلاح، الذي استولوا عليه كاملا. عندما سأل أحدهم: «شنّي شباب.. الكدافي لِسّ فار بجلده؟» فأجابه آخر: «لا.. فأر بجلده»... قهقه الجميع، حتى علا الضحك على صوت البنادق. يا لَمكر اللغة ! كيف حولت الرجل الذي وصف شعبه ب»الجرذان» إلى فأر!؟...