ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. أمام الازدحام (عند باب الجوق الوطني)، كان قسم الموسيقى يلجأ في كثير من المرات إلى توجيه بعض الملحنين إلى إذاعتي فاس والدار البيضاء للاشتغال مع الجوقين التابعين للإذاعتين الجهويتين في نطاق ما يسميه الفنان صالح الشرقي العازف على آلة القانون، «عهد اللامركزية الموسيقية»، الذي بدأ مبكرا عندما انسحب موسيقيون كبار نحو الإذاعات الجهوية لرئاسة أجواقها بعدما خابت طموحاتهم الرئاسية في الإذاعة المركزية والتي فاز بها المرحوم أحمد البيضاوي. ومع الأسف، وجد بعض الموسيقيين (خاصة المسؤولين عن الجوق في قسم الموسيقى) من يتحايل على نظام النوبة، بأن يطلبوا التمرين مع الجوق الوطني دون انتظار دورهم في الترتيب، على أساس إهداء الأغنية للإذاعة مقابل حصولهم فقط على نسخة منها لترويجها تجاريا (لأن القضية أولا وأخيرا قضية تجارية) وهذه الطريقة تعفي الإذاعة من أداء نفقات المطربين وأصحاب الكلمات والألحان (الأستوديوهات الخاصة بتسجيل الموسيقى لم تكن متوفرة إذ ذاك). وبطبيعة الحال، كانت الإذاعة توافق على هذا الطرح وتمنح له الأسبقية، خاصة وأن الأمر كان يتعلق في غالب الأحيان بكبار الفنانين. إن جميع الأغاني التي تسجل في الإذاعة (وأعني الأغاني الوطنية) توضع نسخة منها تحت تصرف التلفزة التي تختار منها ما تود تصويره بمشاركة الجوق المعني وبالطريقة غير المباشرة (أوف)، حيث يكون الاعتماد على التسجيل الصوتي الذي أنجزته الإذاعة. وبالطريقة نفسها يتم التعامل مع الأغاني العادية التي يسجلها كبار الفنانين. والإذاعة هي التي تؤدي أجور أعضاء الأجواق التي لا تتبعها إداريا، وعندما يصورون قطعتهم الغنائية تؤدي لهم التلفزة أجور مشاركتهم في التصوير، والشيء نفسه ينطبق أيضا على الموسيقيين أعضاء الأجواق التابعة للإذاعة عندما يصورون إنتاجاتهم في التلفزة. كان الفنانون المغاربة يحظون بمكانة متميزة لدى الملك الحسن الثاني، وخاصة منهم الموسيقيون والمطربون، فقد كان يشملهم برعايته وتشجيعاته، ويبدي أمام الفنانين الشرقيين الذين كانت لهم أيضا حظوة لديه اعتزازه بالمطربين المغاربة وبإنتاجاتهم الغنائية المستوحاة من التراث المغربي الأصيل، وكان يقوم في كثير من المناسبات بدور المرشد والموجه بالنسبة للملحنين، بل يقترح تعديلات على الألحان، كما يحكي ذلك الموسيقيون المغاربة بأنفسهم، كان الحسن الثاني يعتز بالفنانين المغاربة وكانت له طريقته في المباهاة بهم أمام كبار الموسيقيين الشرقيين عند زيارات هؤلاء للمغرب. فخلال إحدى زيارات الموسيقار محمد عبد الوهاب، وقد نزل ضيفا على الملك لتناول طعام العشاء بالقصر الملكي، كانت هناك مجموعة من أعضاء الجوق الوطني للإذاعة حاضرة، طلب الحسن الثاني من المرحوم أحمد البيضاوي أن يتحفه بتقسيم على آلة العود وقال له: «بغيتو يكون من قاع الخابية»، كان الملك الراحل يستهدف من هذا الكلام أن يعطي المرحوم أحمد البيضاوي لهذه الوصلة كل ما تملكه مواهبه الفنية، إمعانا منه، رحمه الله، في إبراز كفاءة الفنانين المغاربة وقدرتهم على أن يبزوا أقرانهم في العالم العربي. ويحكي أحد الموسيقيين الحاضرين في تلك الأمسية أن الأستاذ أحمد البيضاوي قدم عزفا على العود بطريقة أثارت لا الإعجاب فقط ولكن الانبهار، فقد أودع معزوفته كل ما كانت تختزنه روحه الفنية الفياضة. قصة أخرى معروفة في أوساط الموسيقيين المغاربة، وهي أيضا تحكي تألق أحمد البيضاوي في العزف على العود في حضرة الملك وحضور الموسيقار محمد عبد الوهاب، انتهى بإقدام أحمد البيضاوي على تحطيم العود الذي كان يعزف عليه، فقد أراد بذلك أن «يخرس» إلى الأبد هذا العود الذي سمع به الملك عزفه حتى لا ينطق بعده بأي عزف آخر. كان ذلك في قصر الصخيرات عام 1971، بحضور أقطاب الغناء والموسيقى المصريين، من بينهم محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، وديع الصافي، ومجموعة من الفنانين المغاربة، وخلال هذا الحفل عزف عبد الوهاب المقدمة الموسيقية لأغنية (دارت الأيام) للسيدة أم كلثوم. آلة العود التي استخدمها عبد الوهاب، تعود إلى الفنان المغربي العربي الكواكبي، عضو الجوق الملكي، وقد طلب الحسن الثاني من أحمد البيضاوي أن يعزف مقطوعة بواسطة عود العربي الكواكبي الذي عزف به عبد الوهاب قبل ذلك. ويقول فنانون مغاربة كانوا حاضرين بأن أحمد البيضاوي عزف بشكل أثار إعجاب الحضور، بمن فيهم الملك الراحل الحسن الثاني، وفي تلك اللحظة ألقى البيضاوي بالعود على الأرض فتكسر وقال: «العود الذي سمعني به جلالة الملك لن يسمع منه أحد بعد الآن». طبعا الكواكبي، الذي تأثر بتكسير عوده، وعده الملك بتعويضه بعود آخر. كان الحسن الثاني يحب الفنانين المغاربة ويشجعهم ويحتفظ لهم بالود الجميل ويتكفل بعلاجهم إذا مرضوا، وكان الفنانون المصريون من ملحنين ومطربين، نساء ورجالا، يحظون بنفس الحفاوة والتكريم، ولم يكن أي احتفال وطني في المملكة يخلو من وجودهم وبأعداد كبيرة في بعض المرات. كان الأستاذ أحمد البيضاوي علامة بارزة في مجال الأغنية المغربية، التي سجلت في عهد مسؤوليته على رأس الجوق الوطني، أو على رأس قسم الموسيقى في الإذاعة الوطنية، طفرة هامة بفضل ذوقه الرفيع وثقافته الموسيقية الواسعة وكفاءة الموسيقيين أيضا. وأعود مرة أخرى أقول بأنه حرام على الإذاعة والتلفزة المغربية أن تستمر في إعطاء ظهرها لأولئك الفنانين المغاربة الكبار، الذين استطاعوا أن يرفعوا الأغنية المغربية إلى مقام رفيع وأن يساهموا في خلق ما أصبح يعرف ب «زمن الطرب المغربي الجميل» وعلى الإذاعة والتلفزة أن تطلق سراح إنتاجات هؤلاء الفنانين، وقد فارقوا الحياة بعد أن عجزت عن تكريمهم وهم أحياء. كان للحسن الثاني معرفة دقيقة بالفنون الموسيقية، وكان ملما حتى بالآلات الموسيقية التي كان يتقن العزف على بعضها، كما أظهرته صور نشرت في عدة صحف مغربية مع فنانين مغاربة. لم يكن الملك الراحل يخفي ميوله الموسيقية التي قال عنها: إنها تولدت لديه وهو صغير السن، فقد قال في حديث له مع مجلة «كلاس» الإيطالية: «عندما كنت في العاشرة من عمري، أمر والدي بتعليمي البيانو والسولفيج، وبعد مدة منعني من ذلك لأني كنت شغوفا بالموسيقى، فكان يرى أنه لا يجوز أن تكون لي في حياتي هوايتان، فإما مهنة الملكية وإما الموسيقى، ومنذ ذلك اليوم حرم علي أن أعزف على البيانو، ليست الموسيقى فصلا طوي ولن يطوى، فلنقل إنه انتقل إلى الرتبة الثانية وأنه كان بالإمكان أن يظل في المرتبة الأولى». وسأله صحافي من القناة الثانية للتلفزة الفرنسية يوم 14 يوليوز 1979 عما إذا كان دوره كملك ورجل دين، يسمح له بأن يتفرغ للفن والثقافة، فكان الجواب: «إنني كنت ضحية في ميدان الفن أثناء تكويني، لأن والدي رحمه الله منعني من لمس الآلات الموسيقية عندما كان سني لا يتجاوز إحدى عشرة سنة، وعندما طلبت منه تفسيرا لذلك أجابني: إذا تعاطيت لأي فن، فإن من شأن ذلك أن يضر بالفن الذي أريده لك وهو الحكم». ومضى الحسن الثاني يقول: «لم يتمكن شيئان من أن يتعايشا في مزاجي الذي هو من نوع خاص وأعني بهما: الاستكمالية وصياغة مهمتنا، لأن مهمتنا في آخر الأمر هي الترصيع، ذلك أنه لا يمكن ترصيع قطعة في مجال مسيرة الدول، وفي الوقت نفسه التعاطي مع الفن كما كنت أريد ذلك، ولهذا فإن الهواة بالنسبة إلي هم أكثر أهمية من الاحترافيين، ذلك أنه عندما يتعلق الأمر بالنحت والرسم والشعر والموسيقى لا يمكن الحديث عن الهواية وكذلك الأمر بالنسبة للاحتراف». بهذه الهواية المتمكنة من نفسه، استطاع الحسن الثاني، عندما تقلد (فن الحكم)، كما سماه والده محمد الخامس، أن يشمل الفنانين برعايته وتشجيعاته، حيث لم تزدهر كثير من الفنون العربية والإسلامية إلا عندما احتضنتها قصور الملوك والأمراء، والشيء نفسه وقع في أوربا حين ازدهرت الفنون على اختلاف أشكالها في ظل الملوك والأمراء والنبلاء. في أوائل الستينيات من القرن الماضي، وبعد وقت قصير من انطلاق التلفزة المغربية عام 1962، احتفلت المؤسسة الإعلامية بالذكرى السنوية لميلادها. فقد أعدت برنامجا حافلا بمشاركة الفنانين من ممثلين وموسيقيين، واختارت مسرح محمد الخامس لإقامة هذا الحفل الذي أذيع مباشرة على شاشة التلفزة، وبينما الحفل جاريا، والفنانون منهمكون في أداء أدوارهم، إذ بالحسن الثاني يصل فجأة إلى المسرح وهو يقود سيارته بنفسه، بدون حراسة أمنية، مرفوقا بأحد الوزراء وأحد جلسائه، واختار له داخل صالة المسرح مكانا قصيا بعيدا عن الأضواء، خاصة أن حفل التلفزة كان مقاما بدون حضور الجمهور. كان الملك في قصره يشاهد التلفزة، وقد أعجبه الحفل المنقول من مسرح محمد الخامس، فما كان منه إلا أن قرر الالتحاق بالمسرح في التفاتة مشجعة نحو الفنانين المغاربة، الذين طالما حظيت قضاياهم بعنايته واهتمامه. ومع كل الاحتياطات التي اتخذها الحسن الثاني حتى لا ينكشف وجوده في المسرح، فقد تفطن الفنانون إلى هذا الوجود ولم يسع الحسن الثاني إلا أن يظهر أمام الفنانين، بل وصعد إلى خشبة المسرح، حيث التف الفنانون حوله فرحين مبتهجين بهذه الزيارة التي رأوا فيها علامة تقدير وتشجيع لهم وهم يحتفلون بذكرى تأسيس التلفزة المغربية، ولم يكن اهتمام الملك بالممثلين المسرحيين يقل عن الاهتمام الذي كان يوليه للموسيقيين. لقد ظلت ألسنة الفنانين والموسيقيين في كل وقت وحين، تلهج بذكر الحسن الثاني، سواء في حياته أو بعد مماته، لما أولاه نحوهم من تقدير وتشجيع لفنهم وتكريم لهم في السراء وعناية بأحوالهم في الضراء. «كان الحسن الثاني يعزنا ويقدرنا كثيرا» هكذا يقول أحد الفنانين ويضيف قائلا: «كان الحسن الثاني، قبل كل شيء، فنانا متذوقا للفن الجميل، لم يكن يبخل على الفنانين بدعمه ونصائحه، وكان يوجههم ويتدخل لكي يصحح للموسيقيين إيقاعاتهم». ويقول الفنان صالح الشرقي في كتابه «جل ترى المعاني» بأن الحسن الثاني هو أب الفنانين وإليه يرجع الفضل في ازدهار الموسيقى المغربية، ويزيد صالح الشرقي توضيحا بقوله: «من رحاب جنبات القصر الملكي العامر خرجت أولى الألحان ومنه تدفقت الإنتاجات والإبداعات التي تعد بحق الأساس الأول لنهضة الموسيقى المغربية». ويشاطر الفنانون المشارقة أصدقاءهم الفنانين المغاربة مشاعر تقديرهم للملك الحسن الثاني «الذي كان يندمج وسط المجموعات الغنائية والفرق الموسيقية في الغناء معها أو يرافقها بالعزف، وهذا الفعل ينم عن تقدير للفن والفنانين».