عزيزي القارئ، إذا كنت حتى الآن لم تتعرف إلى فن «علي فرزات»، فأنت مقصر في حق نفسك. الفنان السوري علي فرزات واحد من أهم رسامي الكاريكاتير في العالم العربي، وله حضور بارز على المستوى العالمي. كنت أفخر كإنسان عربي وأنا أطالع رسوم علي فرزات في كبريات الصحف العالمية مثل «الجارديان» و»لوموند». ولد علي فرزات في مدينة حماة عام 1951 وظهرت موهبته الخارقة منذ الطفولة. وفي سن الثانية عشرة، أرسل رسما كاريكاتوريا إلى صحيفة «الأيام» السورية ففوجئ في الأسبوع التالي برسمه منشورا في الصفحة الأولى، وتلقى خطاب شكر وتقدير من رئيس التحرير الذي لم يكن يتخيل أن الفنان صاحب الرسم طفل صغير. على مدى سنوات، وبفضل جهده وإخلاصه للفن، استطاع علي فرزات أن يطور موهبته حتى حفر اسمه وسط عمالقة الكاريكاتير العربي، أمثال صلاح جاهين وحجازي وناجي العلي ومصطفى حسين وطوغان وغيرهم. يعتقد فرزات أن رسام الكاريكاتير يجب أن يتمتع بموهبة السخرية قبل القدرة على الرسم. وهذه حقيقة، لأن فن الكاريكاتير يعتمد على إظهار التناقض بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. ولأن الحقيقة واضحة في ذهن فرزات، فإن رسومه دائما موجزة، مقتصدة، صادقة، مستقيمة، تخلو من الثرثرة والمواربة والتأنق الفارغ. يستطيع فرزات، ببساطة مدهشة، أن يختزل العالم في رسم يجعلنا نفكر ونحس بالقبح الذي يحيط بنا ونتوق إلى جمال الحق والعدل. رسوم فرزات تصيب المعني مباشرة وكأنه يرسم بمسدس يصوبه بدقة ويضغط الزناد فتنطلق الرصاصة إلى الهدف تماما. تضعك رسوم علي فرزات أمام الحقيقة العارية وجها لوجه، لا أكثر ولا أقل. ليس الكاريكاتير بالنسبة إلى فرزات مجرد فن ممتع، ولا يهدف أبدا إلى التسلية والإضحاك. الكاريكاتير سلاح بالغ الحساسية والفعالية في معركة الإنسانية.. قضية فرزات الأولى هي الحرية وهو يدافع عن حق الإنسان وكرامته مهما تكن العواقب ومهما يكن الثمن. كان بإمكان هذا الفنان العالمي أن يعيش في باريس أو لندن معززا مكرما ليكون مناضلا شهيرا آمنا في المهجر كما يفعل كثيرون، لكنه أصر على البقاء في الوطن، وقال ببساطة إنه لا يفهم كيف يستطيع أن يرسم الناس وهو يعيش بعيدا عنهم. كان بإمكان علي فرزات أن يتولى منصب وزير الثقافة في سوريا منذ فترة طويلة لو أراد. لم يكن مطلوبا منه أن ينافق كثيرا، كان المطلوب فقط أن يسكت على الظلم والقمع، أن يتكلم في حدود المسموح به، كان المطلوب أن يرسم وفقا لحسابات ومواءمات تجعل رسومه تعالج الموضوعات المتفق عليها، كان مطلوبا منه أن يقول نصف الحقيقة، لكن علي فرزات يؤمن بأن الحقيقة يجب أن تكون كاملة وأن نصف الحقيقة دجل وتزييف. الغريب أن صداقة حقيقية ربطت يوما ما بين علي فرزات وبشار الأسد. كان بشار عندئذ ابنا لرئيس الجمهورية يدرس طب العيون في لندن وكان محبا للفنون، فبدأ يتردد على معارض فرزات وأعجب بأعماله ونشأت بينهما صداقة جعلت فرزات يستقبل بشارا في منزله. لعل بشار قبل أن يتولى السلطة كان متحمسا لإجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية في سوريا، ولعل ذلك ما دفع النظام السوري في بداية تولي بشار للسلطة إلى السماح لعلي فرزات بإصدار مجلته الشهيرة «الدومري» وكانت أول مجلة خاصة في سوريا منذ الستينيات.. («الدومري» شخص يحمل فانوسا كانت السلطات العثمانية تعهد إليه بإضاءة الشوارع ليلا أمام المارة قبل دخول الكهرباء في سوريا). كانت مجلة «الدومري» ظاهرة فريدة من نوعها، أولا لأنها، بسخريتها اللاذعة في المقالات والرسوم، كانت أشبه بمجلة البطة المقيدة «LE CANARD ENCHAINE» الفرنسية الشهيرة، وثانيا لأنها اعتمدت على التصريح بدلا من التلميح وتميزت بنقد صريح للاستبداد والفساد، وثالثا لأنها استطاعت بإمكانات متواضعة أن تحقق معدلات توزيع ضخمة لم تعرفها قط الصحف الحكومية السورية التي ينفق عليها حزب البعث الملايين وتخرج في النهاية مجرد نشرات دعائية كاذبة وسخيفة لا يقرؤها أحد. تحمّل فرزات كل أنواع المضايقات والمطاردات من السلطة وظل يصدر مجلة «الدومري» بغير أن يحني رأسه أو يهادن أو يعقد صفقات مع النظام. شيئا فشيئا، تحولت مجلة «الدومري» إلى مشكلة حقيقية لنظام البعث ومخابراته حتى إنهم لم يجدوا، في النهاية، مفرا من إغلاقها وإلغاء ترخيصها. على أن المناضل الفنان علي فرزات لا يعرف اليأس، وإذا كان نظام البعث قد أغلق مجلته فقد اكتشف رحابة عالم الأنترنيت، فأنشأ موقعا إلكترونيا باسمه لينشر فيه رسومه التي ما إن تصدر حتى تتحول إلى حديث السوريين. غضب بشار الأسد بشدة على صديقه السابق وصرح مرة: علي فرزات كان صديقي، لكنه طعنني في الظهر. هكذا تحول بشار، طبيب العيون، إلى مجرد حاكم مستبد آخر يعتبر الدفاع عن الحق طعنة في الظهر، وهو -شأن الحكام المستبدين- لا يفهم الصداقة إلا باعتبارها تبعية وولاء مطلقا، بل إنه يعتبر نفسه هو الوطن بلا زيادة ولا نقصان. فمن يؤيده وينافقه يحب الوطن ومن يدافع عن حقوق الناس في نظره خائن وعميل ومن يطالب بالحرية، في نظره، متآمر ينفذ أجندات أجنبية. الغريب هنا التشابه الذي يصل إلى التطابق بين تفكير بشار ومبارك وعلي صالح وبن علي وكل المستبدين.. نفس الأكاذيب ونفس الإجرام ونفس التخلي عن المبادئ والأخلاق جميعا من أجل الاحتفاظ بالسلطة بأية طريقة وأي ثمن. هذا التطابق بين المستبدين وصفه الكاتب الإسباني الكبير جوي تيسوللو عندما قال: إذا عرفت ديكتاتورا واحدا، فقد عرفت كل الحكام المستبدين لأنهم جميعا واحد. مع نشوب الثورة السورية والقمع الوحشي الذي مارسه النظام السوري على مواطنيه العزل الأبرياء لمجرد أنهم طالبوا ببعض حقوقهم الإنسانية، لم يكن ممكنا لعلي فرزات أن يقف مكتوف اليدين، فامتشق سلاحه وأبدع رسوما أظنها ستظل خالدة في تاريخ الفن العربي. فها نحن نرى جنديا ضخما مسلحا يمثل السلطة السورية يتأهب لإطلاق النار على معتقل معصوب العينين، على أن الاثنين -العسكري والضحية- واقفان على طرفي خشبة رفيعة ستسقط بهما لو اعترتها أدنى هزة.. وعندما يعلن بشار الأسد إلغاء قانون الطوارئ يرسم فرزات ضابطا ضخما يمثل السلطة يظهر ظله الكبير على الحائط ونرى بشار الأسد يحاول طلاء الحائط لإخفاء الظل بينما الأصل موجود. يستمر القمع الوحشي للثورة حتى يسقط أكثر من ألفي شهيد، بالإضافة إلى آلاف المصابين والمعتقلين، لكن نظام بشار الأسد يستمر في الكذب ويعقد مؤتمرات لإقرار إصلاحات زائفة شكلية يحاول أن يخدع بها الشعب، عندئذ يرسم فرزات شخصا جالسا على مرحاض يقضي حاجته بينما يسحب ورق تواليت مكتوبة عليه توصيات المؤتمر.. مع إصرار السوريين على الحرية وانتشار الثورة في كل أنحاء سوريا، ارتكب أفراد الأمن والبلطجية التابعون للنظام المزيد من الجرائم البشعة، فراحوا يقتحمون المساجد ويقتلون المصلين بالرصاص الحي، ثم يظهر مغنٍّ شعبي اسمه إبراهيم قاشوش فيشارك في المظاهرات ويرتجل الأغنيات التي تطالب بشارا بالرحيل. بعد أيام قليلة، يتم اختطاف قاشوش بواسطة بلطجية النظام الذين يقتلونه ثم يقومون بانتزاع حنجرته بوحشية ويلقون بجثته على قارعة الطريق ليجدها الناس منزوعة الحنجرة فتكون عبرة لكل من يجرؤ على مطالبة بشار الأسد بالتنحي عن السلطة. على أن وحشية النظام لم تزد السوريين إلا إصرارا على الثورة وقد وقف معهم في الصف الأول الفنان علي فرزات الذي واصل، بشجاعة نادرة، إطلاق قذائفه ضد الاستبداد. هنا كان لا بد من التنكيل به وإخماد صوته بأية طريقة.. يوم الخميس الماضي، انتهى علي فرزات من عمله، ثم استقل سيارته الخاصة عائدا من مكتبه إلى بيته عندما لاحقته سيارة بيضاء وظلت تضيق الطريق عليه حتى تمكنت من إيقافه، ونزل منها أربعة بلطجية ضخام أخرجوه بالقوة من سيارته ثم اعتدوا عليه بوحشية، ضربوه حتى أغرقت دماؤه الزكية ملابسه وسالت على الأرض، وقد ركزوا في اعتدائهم على دماغه ويديه.. ضربوه على رأسه حتى أصيب بارتجاج في المخ وكسروا أصابع يديه حتى تهشمت تماما. إن هذا الاعتداء الهمجي يحمل المعنى كاملا. النظام السوري المدجج بكل الأسلحة، الذي قتل الآلاف من أبناء شعبه بينما لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل منذ أربعين عاما، هذا النظام بالرغم من آلة قمعه الجبارة لم يعد بمقدوره أن يتحمل فنانا نحيلا رقيقا ليس لديه إلا فنه وريشته.. لقد ضربوه على رأسه وهشموا يديه لأنهم يخافون من الحقيقة التي يصنعها في رسومه البديعة.. في يوم عيد الفطر المبارك، بدلا من أن يكون الفنان الكبير علي فرزات في بيته وسط أهله ومحبيه فإنه يرقد الآن وحيدا في المستشفى وقد امتلأ جسده بالجروح وتهشمت أصابعه السحرية التي طالما أبدع بها رسوما ستظل دائما في أذهاننا وقلوبنا.. أكتب هذه الكلمات وأتمنى أن تصل إلى الفنان علي فرزات حتى يعلم كم نحبه، نحن المصريين، ونحب سوريا كلها، وإلى أي مدى نحس في مصر بمعاناة أهلنا في سوريا.. إن حالتنا، نحن المصريين، ليست على ما يرام فبعد أن نجحنا في خلع حسني مبارك فوجئنا، للأسف، بأن نظام مبارك لازال يحكم ولم يسقط بعد، وبالرغم من ظروف مصر المضطربة فإننا لم ننس أشقاءنا في سوريا لحظة واحدة. أدعوك، يا عزيزي القارئ، إلى الدخول إلى موقع علي فرزات على الأنترنيت حتى تشاهد رسومه الرائعة وتدرك أي فنان عالمي هو وتدرك أيضا أية خطيئة ارتكبها بشار الأسد، المسؤول الأول عن جريمة الاعتداء الوحشي على واحد من أهم الفنانين في العالم العربي.. يا علي فرزات.. أنت فرد لكنك تمثل في ميزان الرجال أمة. لقد دفعت ثمن شرفك وشجاعتك في بلد يحكمه نظام مستبد جائر. لقد ارتكبوا جريمتهم بالاعتداء عليك لأنهم يخافون منك. إنهم يملكون آلة القمع الجبارة وأنت لا تملك إلا ريشتك، لكنك أقوى منهم لأنك تمثل الحقيقة وهم يمثلون الزيف والفساد. أنت المستقبل يا علي وهم الماضي المظلم. أنت قادم يا علي لا محالة وهم ذاهبون إلى مكانهم المستحق في مزبلة التاريخ. لقد انتهى نظام بشار الأسد ولم يتبق منه إلا عصا القمع، ولسوف تنكسر قريبا وتحصل سوريا على الحرية ... صديقي على فرزات.. سلمت يداك الديمقراطية هي الحل.