سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اليازغي: حررت استقالتي من البرلمان داخل سجن ميسور احتجاجا على إضافة سنتين في الولاية النيابية والحسن الثاني هددنا بخطاب عنيف الملك أبدى رغبته في حل حزب الاتحاد وعصمان والقادري اعترضا على القرار في مجلس وزاري
تعود حكاية هذه الصفحات إلى سنوات طويلة، ليس التفكير فيها، بل تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997، أثناء وجودنا في مدينة ورزازات، مقترح أن يكتب مذكراته لما ستكون لها من قيمة سياسية وتاريخية، دون أن تكون هناك ضرورة لنشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم في مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغيب عن أحاديثنا. في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. - ما هي قصة الحظر الذي كاد يتعرض له الحزب بعد أحداث 81؟ نعم, أبدى الحسن الثاني رغبة في حظر الحزب في 1981، وجرت مناقشة هذا الأمر في مجالس وزراء ولم يعترض أحد على هذه الرغبة إلا أحمد عصمان، بكيفية محتشمة، وعبد الحفيظ القادري عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال ووزير الشبيبة والرياضة آنذاك. كنا مدركين أن حزبنا لم يعامل من قبل القصر بثقة رغم موقفنا منذ سنة 1975 وحرصنا على النهج الديمقراطي في نضالنا وانخراطنا الثابت في الوحدة الوطنية من أجل الوحدة الترابية. لقد كان خطاب الحسن الثاني خطابا جديدا، لكن المهم أن يتجسد هذا الخطاب في الممارسة اليومية للسلطة لأن الواقع المعيش في المدن، وبشكل أكبر في البوادي، كان يعاكس خطاب عيد الشباب. - التوتر بين الاتحاد والقصر خلال 1981 توج باعتقال أعضاء المكتب السياسي إلى جانب عبد الرحيم بوعبيد.. في شهر يونيو 1981، ألقى الحسن الثاني خطابا أمام قمة منظمة الوحدة الإفريقية المنعقد في نيروبي، وأعلن قبوله تنظيم استفتاء في الصحراء لتقرير المصير، دون ربطه بأي شرط دستوري أو سياسي. وشعرنا في المكتب السياسي بقلق كبير تجاه هذه المبادرة التي لم تجر حولها أي استشارة وطنية. وقررنا، بالطبع، انتظار الاجتماع الثاني في نيروبي لمعرفة القرارات السياسية والإجراءات العملية التي ستقدم عليها المنظمة الإفريقية في ملف الصحراء بعد أن شكلت لجنة للحكماء لصياغة التوصيات الضرورية. وبالفعل، في الاجتماع الثاني لمنظمة الوحدة الإفريقية الذي انعقد في شهر غشت، قدمت لجنة الحكماء توصية ب«إقامة هيئة المتابعة»، وهي تنظيم نيابي يسهر على إعداد الاستفتاء. وعملت الحكومة الجزائرية على الدفع نحو تجميد الإدارة المغربية في الصحراء وجلاء القوات المسلحة الملكية عنها، ودعت إلى تنسيق مسبق بين المغرب وانفصاليي البوليساريو لإعداد الاستفتاء، بل طلبت من الأممالمتحدة إرسال جيش أممي يحل محل القوات المسلحة الملكية لحفظ السلام في المنطقة. وفي بداية شتنبر، ناقشنا، خلال اجتماع المكتب السياسي، كل المعطيات حول الوضع الجديد لملف الصحراء لدى منظمة الوحدة الإفريقية، وقررنا أن نعلن، في تصريح سياسي، عن المخاوف والمخاطر التي قد تهدد وحدتنا الترابية، خصوصا إذا سمح للإدارة النيابية الإفريقية بأن تمارس السلطات التي خولت لها، فالمسلسل الجديد الذي يمكن أن تدخله قضيتنا الوطنية -إذا ما سلمت كامل السلطات إلى الإدارة النيابية التي يريد خصوم وحدتنا الترابية أن تحل محل السلطات المغربية الإدارية والعسكرية الشرعية في الصحراء- لا يخلو من مخاطر، لأن الأمر، بالنسبة إلينا، لا يتعلق بجهاز سلطة مراقبة لضمان نزاهة وشفافية العملية الاستفتائية بل بإحلال سلطة إفريقية محل السلطة المغربية. وبعد أن اتفقنا على كل النقط التي يجب أن يشملها التصريح، تكلف عبد الرحيم بوعبيد بصياغة المشروع. ولما اطلعنا عليه، برزت أمامي كل احتمالات ردود الفعل، علما بأن كل السلطات الحكومية والإدارية وأجهزة الإعلام أصبحت تدعي أن قبول الملك لتنظيم الاستفتاء، الذي ما لبثت تصفه بكونه تأكيديا، سيعجل بإغلاق الملف. وسهر الحبيب الشرقاوي على طبع وتوزيع التصريح على وكالات الأنباء والصحف الوطنية والأجنبية يوم 5 شتنبر، علما بأن «المحرر» و«ليبيراسيون» اللتين كنت أديرهما كانتا قد منعتا منذ يونيو، وبالتالي لم يكن الاتحاد يتوفر على صحافة. وقد ركز البلاغ على أنه «ينبغي العودة إلى الأمة عن طريق استفتاء في ما يخص السيادة الوطنية». وبعد نشر التصريح، حاصرت الشرطة السرية في ساعة متأخرة من الليل منزل عبد الرحيم بوعبيد الكائن بشارع ميشليفن في الرباط، وطلبت منه وهو بلباس النوم أن يرافقها بأسلوب غير لائق بمقامه، حيث كان أحد ضباط الشرطة يمسكه من ذراعيه ويحاول حمله وإخراجه من المنزل لإركابه على متن السيارة. كان بوعبيد يصرخ منددا بهذا السلوك، وتم إبلاغ أفراد من العائلة كانوا يسكنون قريبا منه، وحين حضروا أبلغ بوعبيد الشرطة بأنه لن يرافقهم طالما لم يرتد ملابسه ولم يأت رجال شرطة بالزي الرسمي وبسيارة شرطة رسمية. ساعتها، أجرى عميد الشرطة (الكوميسير) الذي كان يقود مجموعة اعتقال بوعبيد اتصالات مع مسؤوليه، وبدا أنهم وافقوا على شروط بوعبيد بعد أن طلب منه أن يغير ملابسه في انتظار وصول شرطة بالزي الرسمي وبسيارة شرطة رسمية. كنت والعائلة خارج الرباط. وبمجرد ما أشعرت بخبر اعتقال بوعبيد، التحقت بمنزله وبقيت فيه ثلاثة أيام بينما كانت الشرطة تبحث عني من أجل اعتقالي. كنا قد جمعنا كل الأطفال، أطفالي وأطفال عبد الرحيم، في منزل رشيد بلافريج، بعيدا عن الأجواء المتوترة التي كانت تخيم على منزل عبد الرحيم، واعتقد رجال الشرطة أنني مختبئ هناك، فذهبوا إلى هناك وطلبوا تفتيش المنزل، إلا أن زوجة رشيد رفضت ومنعتهم من الدخول.. فحاصروا المنزل ووضعوه تحت المراقبة، واستمر الوضع على هذه الحال إلى أن أبلغنا زوجة رشيد بأن تسمح لهم بالتفتيش، وذلك بعد أن تم اعتقال محمد منصور ومحمد الحبيب الفرقاني ومحمد الحبابي.. استشاط كبار رجال الأمن غضبا لما لم يعثروا علي رغم بحثهم في كل الأماكن التي يمكن أن أوجد بها. وبعد ثلاثة أيام من اعتقال بوعبيد، قررت تسليم نفسي مباشرة إلى وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية في الرباط.. اتصلت بالأساتذة محمد الفاروقي ومحمد الصديقي ومحمد بوزوبع، فجاء الأساتذة الثلاثة واتفقنا على ركوب سيارة كانت رابضة في كراج المنزل الذي كان له مدخلان، أحدهما يطل على شارع ميشليفن والثاني، وهو الباب الرئيسي للمنزل، يطل على شارع هارون الرشيد الذي كانت الشرطة تراقبه.. وكانت لحظة مؤثرة حين تجمع كل من في المنزل لتوديعي، وقد كنت ذاهبا إلى السجن بالتأكيد. ركبت السيارة إلى جانب النقيب الصديقي، وأحنيت ظهري قليلا وانطلقت السيارة بسرعة بمجرد فتح باب الكارج. سلكنا شارع ابن سينا في طريقنا نحو المحكمة الابتدائية الكائنة في شارع مدغشقر، وهناك سلمت نفسي إلى وكيل الملك، وهو ما عفاني من أن أخضع للاستنطاق والتحقيق البوليسي.. استمع إلي وكيل الملك وأجبته عن تساؤلاته بحضور النقيب محمد الصديقي، وأمر بوضعي في سجن «لعلو»، وهكذا التحقت يوم 9 شتنبر بأعضاء المكتب السياسي المعتقلين. وقد تم تكييف المتابعة بالارتكاز على ظهير 1935 المعروف بظهير «كل ما من شأنه» مع تشديد المتابعة بالإحالة على الفصل 188 من القانون الجنائي، وهو تكييف مرتجل وضعيف لأن تصريح الاتحاد الاشتراكي لا يمكن أن يخلق بلبلة أو اضطرابا في الرأي العام. وفي يوم 11 شتنبر قدمنا للمحاكمة في بناية المحكمة الابتدائية بالرباط والتي كانت مطوقة ومحاصرة من طرف أجهزة الأمن التي منعت على العموم ولوج القاعة. ولدى مثولنا أمام هيئة المحكمة تم استنطاقنا تباعا من طرف الرئيس. اضطربت النيابة العامة في إيجاد التكييف الصائب لأن المحاكمة كانت، في الحقيقة، محاكمة سياسية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، محاكمة رأينا حول توصيات قمة منظمة الوحدة الإفريقية. وفي النهاية، حكمت على كل من عبد الرحيم بوعبيد ومحمد الحبابي ومحمد اليازغي بسنة حبسا نافذا، بينما أصدرت في حق محمد منصور ومحمد الحبيب الفرقاني حكما بالحبس لمدة سنتين مع إيقاف التنفيذ، ليطلق بذلك سراحهما. وقد تطوع للدفاع عنا مئات المحامين من كل مناطق المغرب ومن كل المشارب السياسية، ونسقوا بينهم ليتكلم الدفاع بصوت واحد. واستأنفنا الحكم الابتدائي، لكن محكمة الاستئناف لن تدرج القضية في جدولها. بقينا أقل من ثلاثة أسابيع في سجن «لعلو» حيث وجدنا الإخوان، الذين سبقونا إلى السجن بعد أحداث يونيو 1981 في الدارالبيضاء، وهي الأحداث التي صاحبت الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل إثر قرار حكومة المعطي بوعبيد الزيادة في أثمان بعض المواد الغذائية، خصوصا الخبز. كنت رفقة عبد الهادي خيرات ومحمد الحبابي في زنزانة واحدة، وخلال أوقات الاستراحة كنا نلتقي مع بوعبيد ومحمد الأشعري والطيب منشد وآخرين. وحدث أن حل يوما بسجن «لعلو» أبراهام السرفاتي والسريفي، قادمين من السجن المركزي في القنيطرة، لإجراء فحوص طبية في الرباط، فكان لي نقاش حاد حول الصحراء مع السرفاتي الذي كان ما زال مقتنعا بأن الصحراء تشكل بؤرة ستنطلق منها حركة ثورية تشمل المغرب برمته. وخلال هذه الإقامة القصيرة في سجن لعلو، حررت رسالة الاستقالة من مجلس النواب وبعثت بها إلى الرئيس الداي ولد سيدي بابا، وذلك تنفيذا للقرار الذي كنا قد اتخذناه والقاضي بعدم استمرار البرلمانيين الاتحاديين في المجلس لسنتين إضافيتين، لأننا اعتبرنا أن استمرارنا نوابا يتطلب انتخابات جديدة يؤكد فيها الناخبون العضوية في المجلس، ولم نقبل أن يتم تمديد ولايتنا سنتين باستفتاء شعبي. وفي بداية أكتوبر وبالضبط يوم السابع منه وفي ساعة مبكرة من الصباح (الفجر)، رحلتنا الإدارة إلى مكان مجهول لم تخبرنا باسمه.. ركبنا سيارة للشرطة حيث تم وضع القيد في يدي اليسرى ويد عبد الرحيم بوعبيد اليمنى، أما في يدي اليمنى فقد وضع قيد آخر سيربطها إلى يد محمد الحبابي اليسرى.. تشكلت قافلة من سيارات الشرطة والدرك تحيط بها دراجات نارية وتحلق فوقها مروحية للدرك.. كان المسار نحو مدينة فاس عن طريق الخميسات ومكناس، وخارج مدينة فاس التحقت بالموكب فرق أخرى من الدرك قبل الرحيل نحو صفرو ومنها توجهوا بنا نحو بولمان وصولا إلى ميسور، وهي القرية التي قامت السلطات الاستعمارية الفرنسية بنفي الوطنيين إليها، وعلى رأسهم شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي. كنت الوحيد الذي سبق له أن زار ميسور من قبل في إطار النشاط الحزبي.. استغرقت الرحلة يوما كاملا. وبعد وصولنا، وضعونا في سجن خاص هو عبارة عن بناية تابعة لوزارة العدل، يحيط بها سور خارجي. وحضر لاستقبالنا بركاش، مدير إدارة السجون، في حين كان الحراس من رجال الشرطة بلباس حراس السجن. علمت ذلك من أحدهم، كنت قد تعرفت عليه في مدينة القنيطرة. وإلى جانب رجال الشرطة المقيمين معنا في نفس البناية، كانت هناك حراسة داخل الباب الخارجي من عناصر تابعة لإدارة مراقبة التراب الوطني (د.س.ت)، وخارج الباب كانت هناك حراسة لرجال الدرك الملكي. وكانت لكل واحد منا نحن الثلاثة زنزانة خاصة تفتح في الصباح وتغلق عليه في المساء. وكنت لما أنهض من الفراش صباحا أقوم برياضة العدو لمدة ساعة أو ساعة ونصف، وآخذ «دوشا» باردا، لأن فصل الشتاء بميسور يعرف بردا قارسا، قبل أن التحق بالأخوين لآخذ وجبة الفطور. ميسور معروفة بزوبعات الغبار التي تعصف بها يوميا، وإثر ذلك كانت الأتربة الرقيقة تغطي كل شيء داخل الزنزانة وداخل البناية مهما كانت النوافذ والأبواب مغلقة بإحكام. وبعد الفطور، كنا نطلق العنان لأقدامنا كي تمشي في الفضاء الفاصل بين البناية والسور الخارجي. وقد كنت أظل في الغالب مع محمد الحبابي، نترافق في المشي، وكانت تلك مناسبة لنتحاور في شتى المواضيع. أما بوعبيد فكان يفضل المشي لوحده، بينما كان يرجئ الحوار إلى وقت جلوسنا جميعا داخل البناية. وبعد ترحيلنا، بقينا في عزلة تامة عن العالم إلى أن سمحوا للعائلات بزيارتنا مرة في الأسبوع، وأقصد بالعائلة الأقرباء المباشرين فقط. ثم قدموا إلينا جهاز راديو يشتغل لما تكون الكهرباء متوفرة، لأن الآلة المزوِّدة بالكهرباء كانت تشتغل بالطاقة الشمسية، لذلك لم تكن الإنارة دائما متوفرة وبالدفع الكافي. كانت تزورني سعدى ووالدتي مع أبنائي عمر، الذي كان يبلغ ست سنوات، وعلي، الذي كان عمره سنتان وثلاثة أشهر، بعد أن يترافقوا من الرباط مع زوجة عبد الرحيم بوعبيد وزوجة محمد الحبابي، وهكذا كانوا جميعهم، زوجات وأبناء، يقطعون كل يوم أربعاء 400 كلم، هي المسافة الفاصلة بين الرباط وميسور مرورا عبر إيفران وبولمان، فيستقبلهم رجال الدرك عند مدخل ميسور ويصحبونهم إلى السجن حيث يمكثون معنا ساعة أو ساعة ونصف. ولحظة مغادرتهم البناية، يصحبهم رجال الدرك خارج ميسور ليتجهوا إلى إيفران، إذ لم يكن مسموحا للعائلات بأن تتصل بأحد من ساكنة ميسور أو بأن يتصل بهم أحد من أهالي البلدة. وكانت العائلات تجلب معها الأطعمة والكتب التي نطلبها والكتب حديثة النشر التي كان يبعث بها إلينا الأصدقاء. كنا لا نكف عن عقد ندوات نحدد مسبقا محاورها، كما أن عبد الرحيم بوعبيد بدأ في تحرير جزء من مذكراته، خصوصا عن الفترة التي سبقت استقلال المغرب، وكان يطلعنا على المسودة أولا بأول. كانت قضية انسحاب النواب الاتحاديين من البرلمان وتبعاتها موضوع حوار هادئ بيننا نحن الثلاثة، خصوصا بعد الخطاب العنيف الذي هدد فيه الحسن الثاني النواب الاتحاديين.. تألمنا للتذبذب الذي حصل في صفوفهم بسبب الرعب الذي أدخله في قلوبهم الخطاب الملكي، كما سجلنا ضعف سلطة عبد الرحمان اليوسفي على المجموعة، وهو قائد المكتب السياسي والاتحاد في غيابنا نحن الثلاثة. كنت على قناعة بأنه لو صمد الفريق الاتحادي لتراجع الحسن الثاني وبحث عن مخرج للخطة السلبية والعنيفة التي شكلت ردة فعله. وهذا ما سيؤكده لي، شهورا بعد إطلاق سراحنا، صديقي أبو عبيد الشيباني، المستشار السياسي للأمير عبد الله بن عبد العزيز (الملك الحالي للمملكة العربية السعودية) الذي كان موجودا بالرباط في تلك المرحلة وعلى اتصال دائم بالحسن الثاني، فقد قال لي بالحرف: «لو صمد إخوتكم البرلمانيون ثلاثة أيام لتراجع الملك الحسن الثاني وبحث عن حل توافقي مع الاتحاد الاشتراكي». ما كان يصلنا، عربيا وعالميا، من أصداء كان يطمئننا.. فقد سجلنا بارتياح موقف الاشتراكيين والديمقراطيين في العالم كله وليس في فرنسا وحدها، إذ كانت لعلاقتنا كاشتراكيين مغاربة بالديمقراطيين في فرنسا أهميتها بالنظر إلى أن حجم علاقة المغرب بفرنسا في الميدان الاقتصادي والتجاري والثقافي كان حجما كبيرا، وكان هناك تضامن واسع وحقيقي من الأحزاب الديمقراطية والتقدمية في أوربا، وكذا في العالم العربي والإفريقي. ورغم اعتزازنا بهذا التضامن، فإننا كنا نشعر بأننا مظلومون، لأن اعتقالنا ومحاكمتنا كانت عملية تعسفية وقمعا لحزبنا، وأي تضامن خارجي معنا كان يؤكد أن مواقفنا لم تكن خارج مبادئنا وقيمنا ووطنيتنا وأن الرأي العام الديمقراطي إلى جانبنا. وفي يوم 27 فبراير 1982، أخبرنا بأن إطلاق سراحنا سيتم في الغد. وذلك ما كان بالفعل، ففي زوال يوم 28 من الشهر المذكور جاءت سيارة وأقلتنا إلى الرباط التي وصلنا إليها ليلا. وقد أظهرت موجة الاحتجاجات الوطنية والدولية أننا لم نكن في عزلة، وأعتقد أن الحسن الثاني أعاد حساباته وأدرك أن وقوف الرأي العام الداخلي ضده سيكون له أكبر الأثر، إذ كان سيكون الخاسر على كل الأصعدة.. سيخسر المغرب في معركته الوطنية خارجيا ولأسباب داخلية. وأدرك أن قضية الصحراء ستدخل في المجهول وسراديب العلاقات الدولية وأنه بأمس الحاجة إلى الوحدة الوطنية. لقد تعثرت منظمة الوحدة الإفريقية في تدبير عملية السلام في الصحراء والتي قبلها الحسن الثاني، خاصة مسألة تنظيم الاستفتاء. وفي نفس الوقت، كانت الحكومة الجزائرية تعمل على إدخال جمهورية البوليساريو الوهمية إلى منظمة الوحدة الإفريقية ليكون عضوا كامل العضوية فيها، بل إن إحدى لجن منظمة الوحدة الإفريقية قررت في فبراير 1982 إشراك «الجمهورية الصحراوية» المزعومة في أشغالها باعتبارها عضوا في المنظمة، وهو ما دفع الحسن الثاني إلى الاحتجاج لدى الرئيس دنيال أراب موي، وذلك بضعة أيام قبل إطلاق سراحنا بعفو ملكي، رغم أننا لم نطلب العفو. - كيف تقرؤون تلك المرحلة؟ في تلك المرحلة، كان المغرب مقبلا على الانتخابات البلدية والقروية في الوقت الذي كانت تمر فيه القضية الوطنية بمرحلة صعبة من الناحية الدبلوماسية. دبلوماسيا، كشف التآمر الجزائري ما نبهنا إليه من خطورة القبول بالاستفتاء دون شروط. وبالمقابل على الأرض، أخذ الوضع العسكري والأمني بالساقية الحمراء ووادي الذهب في التحسن، إذ بدأ المغرب في بناء الجدار الدفاعي (بدأ سنة 1981 واستمر حتى 1987)، وهذا جعل الهجومات العسكرية تصبح صعبة جدا وتسلل قوات البوليساريو غير ممكن. واقتصاديا، دفع المغرب دفعا إلى الاستدانة وارتفعت ديونه ارتفاعا صاروخيا، وهو ما سيؤدي بصندوق النقد الدولي إلى فرض ما سمي في ما بعد ب«التقويم الهيكلي» الذي بدأ في 1983 واستمر حتى سنة 1993، وكان يعني أنه مفروض على المغرب إعطاء الأولوية لإرجاع وتسديد الديون، على حساب ميزانية التعليم والصحة والقضايا المعيشية الأساسية بالنسبة إلى الشعب المغربي.