«بين قاتل يذبح ضحاياه بدم بارد وفيلسوف يتجرع كأس السمّ بكل شجاعة ومجاهد خارج عن إرادة القانون يساق إلى مقصلته مرفوع الرأس رابط الجأش، اختلفت التسميات لشخصيات شكلت محاكماتها منعطفات إنسانية بعد أن شكلت كلمات البعض منها نورا يضيء الطريق نحو الحرية وإحراق الطغاة ومستعبدي الناس وينير الدرب للمعذبين في الأرض ويرشدهم إلى طريق الخلاص، طريق التحرّر من الظلم والاستعمار، بينما شكلت كلمات آخرين شعاعا نحو الظلم والاستبداد والقتل والهمجية والاستعباد.. كلمات صغيرة اختلفت باختلاف الزمن والمكان والغاية، لكنها التقت جميعها، في النهاية، لتشكل في ما بينها مداد الحبر الذي كتبت به أسماء هؤلاء في ذاكرة الزمن، وتشابكت خيوطها بطريقة غير مألوفة تاهت معها الحقائق وضللت معها العدالة في البداية قبل أن تظهر الحقيقة في النهاية.. كلمات أنهت حياة الكثير منهم عبر محاكمات عادلة وأخرى ظالمة، فكانت فعلا أشهر المحاكمات في التاريخ. في قصيدته «طائر النورس» يصف بودلير كيف ترافق طيور النورس السفن وهي تعقب البحار والخلجان وكيف يقوم الملاحون باصطيادها. يقول: «فما إن يضعوها على ظهر السفينة حتى تترك الملوك السماء وهي خجلى خرقاء أجنحتها تجرجر إلى جانبها برثاء كالمجاذيف.. هذا المسافر المجنح لكم يغدو ضعيفاً وبطيئاً وهو الذي كان جميلاً جداً، ولكم يصبح مضحكاً وقبيحاً.. هذا يضايقه بعصاه وذاك يعرج مقلداً الطائر الكسيح وساخراً منه». ثم يشبه بودلير الشاعر بذلك الطائر، فهو ملك في السماء وكسيح على الأرض، على الرغم من أجنحته العملاقة وربما بسبب هذه الأجنحة: «الشاعر كأمير السحاب يلازم العاصفة ويسخر من رامي السهام وهو على الأرض منفي بين الناس الزاعقين». الجمال والقبح هكذا كان بودلير في شعره يتجاوز الجمال والقبح ويقرن الخير بالشر، فرغبة الصعود يعقبها دائما استسلام يائس للانحدار، وقد لا ترتوي إلا بالموت الذي أخرج بودلير من حياته الداخلية المليئة بالكهوف والطلاسم إلى عالم أكثر غرابة وتعقيدا. ذلك الموت الذي بدا قاب قوسين أو أدنى من بودلير بعد أن أصدر ديوانه «أزهار الشر»، الذي نال إعجاب فيكتور هوغو وشبهه بالنجوم التي أطفأتها نيران النظام السائد، الذي لم يشاركه في هذا الوصف والإعجاب، ودعا الشاعر بودلير إلى المثول أمام القضاء، لتبدأ فصول محاكمته أمام الغرفة التأديبية السادسة بالعاصمة الفرنسية باريس 1857. كان شارل بودلير قد ولد عام 1821، يوم وفاة نابليون بونابرت نفسه. عاش حياة اليتم بعد وفاة والده، إذ لم يتجاوز عمره آنذاك السادسة من عمره، وزادت معاناته بعد ترك والدته له والزواج من أحد جنرالات الجيش الفرنسي في العام 1828، فوجد في الكتاب أنيسا وحيدا له في تلك الحياة الصاخبة بالمعاناة والآلام، خاصة كتابات الشاعر والقاص الأمريكي الشهير إدغار آلان بو، التي أهلته للتعرف على عظماء عصره أمثال الشاعر تيوفيل غوتييه وفيكتور هوغو، الذي أصبح المساند الرسمي لبودلير وكتاباته التي أدخلته قفص الاتهام فيما بعد. الرجل ذو الغليون سرعان ما انكب بودلير على كتابة الشعر، التي نال من خلالها جائزة الشعر اللاتيني في العام 1834 وهو لم يتجاوز بعد الخامسة عشرة من عمره، بعد رفض أحد الصالونات الفنية بباريس عرض لوحته الفنية «الرجل ذو الغليون»، التي أضحت فيما بعد من نفائس متحف «كولبنكيان» في لشبونة الإسبانية. كانت قصائد بودلير تلهب الحماس لدى العديد من مثقفي العصر آنذاك، الذين كانوا يشكلون «بروليتاريا أدبية حقيقية»، وكانوا يعاملون من طرف الإمبراطورية بنفس معاملتها للمتضورين من الجوع، وتقول بذلك : «إننا لا نستطيع إبادتهم (أي المثقفين والشعراء)، لكننا نستطيع التضييق عليهم سعيا إلى درء الخطر الذي يمثلونه على المجتمع». ولعل هذا ما جعل قصائد بودلير تملأ عقول المثقفين، رغم أنها تمتلئ بصخب الحرية اللامتناهية تجاه الأخلاق، خاصة أن الصحف الفرنسية كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد توجيه الإنذار الثالث لها من طرف نابليون الثالث لنشرها بعض التحقيقات، التي تشكل خروجا على الأخلاق والتقاليد العامة، وكذلك الأمر كان يسري على دور النشر، التي كان يمنع عليها نشر وتوزيع المؤلفات، التي كانت لا تتماشى مع الروح الاتباعية السائدة، التي كانت تخضع للفحص من طرف لجنة الرقابة، التي كانت تحول دون صدور المؤلفات التي ترى فيها جرحا للأخلاق وإساءة إلى الدين ورجاله. أزهار الشر... الموت المحقق كان نابليون الثالث يتسامح كثيرا مع الممثلين والمغنيات، ولكنه لم يتسامح مع الكتاب، وفي طليعتهم فيكتور هوغو، الذي كان لا يفتأ يتحداه، ولهذا فإن النائب العام الذي أخفق في الحكم على فيكتور وفلوبير قرر الانتقام من بودلير، وجند لذلك جميع الطاقات، ومنها جريدة «الفيغارو» في شخص مديرها غوستاف غوردان، الذي قام بدوره بنشر مقالات على صفحات جريدته على شكل نقد لاذع للمجموعة الشعرية التي أطلقها بودلير بعنوان «أزهار الشر» في 25 يونيو 1857، كتب فيها: «لقد قرأت الكتاب وهاكم رأيي فيه أعرضه صراحة دون أن أفرضه على أحد. إنه كريه ووضيع يثير القرف والاشمئزاز، ولم أسمع أو أشاهد هذا القدر من النهود كما أقرأها هنا لدى بودلير. فهذه الصفحات هي بمثابة عرض مماثل للشياطين والأبالسة والقطط والبراغيث. إن هذا الكتاب هو مستشفى مشرع الأبواب لجميع عفونات القلب، وإذا كنا نفهم أن مخيلة شاعر في العشرين من عمره قد تجره إلى مثل هذه الموضوعات فليس هناك ما يبرر لرجل قد تجاوز سن الثلاثين أن يبيح كتابه لأمثال هذه المسوخ». ولم يكتف الكاتب بهذه الشتائم، فكتب في الجريدة نفسها بعد أسبوع «عندما يتحدث المرء عن السيد شارل بودلير، فإنه يتحدث عن كابوس لأن قراءة «أزهار الشر»، التي أتى بها تترك في النفوس كآبة عميقة وحزناً رهيباً. إن هذه الكومة من الجثث المعروضة ببرودة أعصاب وهذه الأقذار المنبوشة بيدين مشمرتين يجب أن تحبس حتى تتعفن في درج ملعون، وأقصد هنا بالدرج ذلك القبو الصغير التابع للمكتبة الوطنية التي دفن بها الكثير من أمثال هذه الكتب التي يجب منعها من التداول بن الناس. إنها تحريض صريح على الفساد والانحلال الخلقي والرذيلة والابتعاد عن مكارم الأخلاق ومقاصد الدين». البروليتاريا الأدبية الباريسية ومن هنا انطلقت النداءات من طرف الآباء الكاثوليك المتشددين نحو تحريك دعوى قضائية ضد الشاعر، رغم التزام الصمت من طرف الليبراليين، الذين حاولوا تجنب الأذى من كلا الطرفين ليجد بودلير نفسه وحيدا أمام هيئة قضائية لا تقل كرها ل«البروليتاريا الأدبية الباريسية» عن الإمبراطور المدعي والإمبراطورة المتكبرة، وأعلنت الهيئة القضائية أن ديوان «أزهار الشر» ينتهك «مكارم الأخلاق»، وأن الشاعر يستحق الحبس لمدة ثلاثة أشهر جزاء وفاقاً لما قدمت يداه، وساعدها على ذلك الحملة الصحفية المسبقة التي عزلت الشاعر عن محيطه شيئا ما ليجد نفسه محاصرا بأعدائه داخل المحكمة. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب الشيخ يضحك مثل طفل صغير كان بودلير يبدو في المحكمة في العاشر من يوليوز 1857 في زي من يساق إلى المقصلة حيث القلق الشديد الذي غطى ملامحه وبدت يداه بالاضطراب ونظراته الملهمة المسكونة كنظرات الطيور التي تسكن أعشاشها بالليل وتخشى أن تنقض على صغارها إحدى الفرائس التي تتربص بها. كان وجهه مبتسما وعلت ضحكته وهو يسمع الحشود التي امتلأت القاعة بهم وقد بدأت تردد الأنغام البودليرية وهي تقول»أنا ندية الشفة. واعرف فن إضاعة الضمير في غاية السرير، أكفكف كل الدموع على نهدي المظفرتين واجعل الشيخ يضحك مثل طفل صغير، وحل لدى من يراني عارية محل الشمس والنجم والقمر المنير». وهنا قاطعهم السيد النائب العام «بينار» واخذ بمهاجمتهم وهو يقول «أيها السادة، اعتقد بأنني سردت ما يكفي من المقاطع لأؤكد على ما فيها من اهانة للآداب العامة وتجاوز للحدود التي يفرضها الحياء العام بوقاحة صريحة والإساءة إلى الدين كما تفضل به وزير العدل وبالتالي أنا اعذر هذا الحشد من الحضور على هتافه بتلك الكلمات النابية لعلمي اليقين بأنهم لا يعلمون بعد ما تعنيه تلك الكلمات سوى رغبتهم الشديدة بالجنس الإيحائي فقط»، وختم المدعي العام مرافعته بالقول». سوف تقدرون بأنفسكم أيها السادة إذا ما كان بودلير قد أقدم على التجديف أم كان يعي بأنه يجدف فعلا. وبالتالي ليكن حكمكم على تلك الميول غير الأخلاقية المتنامية التي تحمل أصحابها على أن يرسموا كل شيء ويقولوا كل شيء كان عقوبة الإساءة إلى الآداب والدين قد ألغيت ولا وجود لها أمام العدالة». هنا تقدم محامي الدفاع «شيكس ديست آنج» وبدا بقراءة مرافعته التي كتبها بدقة وعناية حسب التقاليد القضائية مستشهدا بذلك بالعديد من الأبيات التي قالها بودلير في قصائده والتي تخالف ما ردده المدعي العام «بينار» في ادعاءاته السابقة ضد بودلير قائلا «أيها السادة إذا كانت بودلير يصف الرذيلة فنه يهدف من وراء ذلك إلى محاربتها وإدانتها فهو يقول: الحماقة والخطأ والخطيئة والبخل تحتل أفكارنا وتشغل أجسادنا، وعذابات الضمير الحبيبة نغذيها كما يغذي قملهم الشحاذون، وبالتالي فان نواياه تبقى صادقة وسليمة، وما تلاه النائب العام من أبيات لا تنم عن حقيقة مقصد بودلير وربما اعذره في ذلك لكون اختياره لتلك الأبيات كان خاطئا جدا»، واخذ «شيكس» بتلاوة مقاطع مجزأة وأبياتا منفصلة من قصائد لموسيه وبيرانجيه وتيوفيل غوتيه وغيرهم والتي لا تقل إباحية عن تلك المقاطع والأبيات التي تلاها السيد النائب العام في تنالوه لقصائد بودلير خاتما مرافعته بالقول «إنني أتساءل أيها السادة لماذا لم تمنع تلك القصائد، وإذا كان علينا أن نحكم عليها بأجزاء منها فقط دون المضمون العام، وإذا كان سيحكم على بودلير فيجب إذن أن يحكم على رابليه من أجل كل إنتاجه وعلى لافونتين من أجل أقاصيصه وعلى روسوا من أجل اعترافاته وعلى فولتير وبومارشيه اللذين كتبا أيضاً كثيراً من النصوص الإباحية، وبالتالي ليس على الفنان أن يؤدي حساباً أمام الأخلاق ولا يطلب منه أن يكون ذا نوايا حسنة بل أن يكون ذا موهبة». وهنا علت الأصوات المؤيدة لما قاله محامي الدفاع والتي أخذت تطالب بالإفراج عن بودلير فورا، الشيء الذي جعل رئيس المحكمة ينصاع إليها بشكل جزئي ويصدر قراره دون أن يخالجه أي انفعال أو تردد قائلا». بما أن بودلير قد اقترف جنحة الإساءة إلى الآداب العامة والأخلاق الحميدة فإن المحكمة تقضي بتغريم بودلير 300 فرنك كما إنها تقضي بحذف القصائد ذات الرقم (20 و30 و39 و80 و81 و87) من مجموعة (أزهار الشر). براءة صريحة بعد ثمانين عاما من وفاته كان الشاعر هادئاً وما لبث حتى غادر قاعة المحكمة دون أن يقول أي كلمة وما هي إل أيام حتى بدأ يتلقى من أدباء فرنسا رسائل المودة والتأييد والتقدير وكان في مقدمتها رسالة من فيكتور هوغو وهو يومذاك في قمة مجده هذا نصها: إن الفن كالأفق.. إنه نشيد لا ينتهي وأنت قد أثبت ذلك إن قصائد أزهار الشر تشع وتسطع كالنجوم فواصل عطاءك، إني لأهتف بكل قواي أمام فكرك الشجاع: لقد أحسنت، إني أشد على يدك أيها الشاعر». وينتقض الزمن وبودلير تتسع من حوله يوماً فيوماً هالة المجد حتى جاء يوم الواحد والثلاثين من ماي من العام 1949 ويتم الإقرار ببراءته من كل التهم التي وجهت إليه بناءا على قرار محكمة التمييز التي أصدرت قرارها بالغرفة التأديبية السادسة بباريس وجاء فيه «. بما أن القصائد موضوع الدعوى لا تتضمن أي تعبير بذئ أو فاحش ولا تتجاوز الحريات المسموح بها للفنان. . فإن جنحة الإساءة إلى الآداب العامة لم تحدث ولهذا فإن المحكمة تنقض وتلغي المحاكمة التي تمت في 20 أغسطس 1857 وتبرئ ذكرى بودلير من الحكم الذي صدر بحقه. «وبالتالي جاء هذا القرار بعد أن انقضى على وفاته ثمانين عاما وعلى صدور الحك بحقه تسعون عاما ليغرز الاقتناع من جديد بان الصراع غالبا ما يدور بين الفنان المبدع والعقلية السائدة في مرحلة من مراحل التطور الإنساني والتي ينتصر فيها الفنان والمثقف غالبا في نهاية المطاف ولو تأخر الزمن.