في لحظة انقض حسين على الضحية وأزاح عن شعرها الغطاء وسحبه إلى الأسفل على مستوى العنق وأمسك بطرفيه وأحكم قبضته عليها غير آبه بحركاتها التي كانت تحاول الخلاص منه دون جدوى. ارتخت عضلات «زاهية» وسقطت أطرافها وشَحُبَ لونها وبدأ يميل إلى السواد وسكنت دقات صدرها وفاضت روحها. لم تكن «زاهية» تتجاور ربيعها السادس عشر حين بدأت تشعر بإحساس غريب تجاه الرجال خصوصا الشباب منهم. وكانت كلما أبصرت «حسين» الشاب اليافع ابن الجيران، تأجج بدواخلها شعور نحوه وهَمَّتْ به لتلمس عضلاته المفتولة. كانت الأسرة إلى جانب ثلة قليلة من مجموعة البدو الرحل، تستريح لأيام بأرض خصبة بإحدى المناطق الشرقية. كانت «زاهية» وردة مزهوة بنفسها، معتدلة القامة ممشوقة القد. كان وجهها الدائري يتوسطه خدان أحمران، وكانت تزيدها جمالا بدويا عينان كبيرتان تبرزان رموشا سوداء بفعل الكحل البلدي... كانت تحب ارتداء لباس نسوة المنطقة الشرقية «بلوزة» مزركشة برسوم مختلفة الألوان، وتربط شعرها الطويل الأسود اللامع بفعل زيت الزيتون والمنساب على خصريها. كانت يوما تعدو وراء خروف لما توقفت بعد أن توقف الخروف بين أرجل «حسين»... نار ملتهبة تتأجج ناولها «حسين» الخروف ومدت يدها لتلقفه، فلمست يدها يده وفي ثانية، سرى بين جسديهما تيار قوي اهتزت له جوارحهما واضطربت قلوبهما، سحبت «زاهية» يدها بقوة ودلفت إلى خيمة أسرتها فيما تجمدت عروق حسين وتصلبت عضلاته ورفضت رجلاه مطاوعته وانتصب في مكانه كتمثال من ثلج ولم يدر ما أصابه. كان حينها يسترجع شريط تلك اللحظة التي كان يناولها فيها ذلك الخروف المبروك... كانت الزغاريد تملأ أذنيه ودقات الدفوف تهز الأشجار بل تهتز لها نشوة، وتراءى له أنها ترقص لتشاركه فرحته.. كان الكل يصدح غناء ويردد أهازيج فرحا بالعرس... اتخذت النسوة مكانا غير بعيد من جمع الرجال وكل جمع في صف يتمايل على إيقاع «البندير والزامر». كان رقص الرجال بعباءاتهم البيضاء قويا حيث كان يتناثر الغبار وسط الدائرة وتحت ضربات أرجلهم متتبعين عدد ضربات رقصة العلاوي، كان يَوَدُّ لو أنه في مقدوره ولوج الرقعة ليُفجِّر فرحه، لكن لم يكن له ذلك لأن الليلة كانت ليلته وكان هو العريس والكل يرقص له في انتظار «الدخلة» ليتمتع ويستمتع بعروسه المتواجدة وراء صف النساء داخل الخيمة الزاهية كطاووس في لباسها التقليدي البدوي، وعلى رأسها حلي ومجوهرات من فضة وأساوير على معصمي يديها... كانت له وكان لها، أو لن تكون إلا له ولن يكون إلا لها... خطيب منافس قوي تعالت زغرودة إحدى النسوة من داخل خيمة مجاورة أيقظته من ذلك الحلم الجميل. ألقى نظرات حوله وتلمس جسده وجذب أطراف ثيابه وتيقن أن حالته مازالت على ما كانت عليه من قبل، لكن الزغاريد تَكثَّفتْ وانطلقت ضربات الدفّ، وزادت حيرته حركات وتحركات غير معهودة لساكنة الخيمة. لم يطل تساؤله ولم تدم حيرته بعد مرور أحد الجيران الذي أبلغه وصول ابن عم «زاهية»، أحد الشباب الذي تمكن من «الحريك» إلى إسبانيا واستقر بها بعد أن وجد عملا وحصل على وثائق الإقامة الرسمية... «مزيان، الله يعاونو...الله يعاونو» رددها حسين بنبرة فيها غيرة وشعور بالدونية... وأضاف مخاطبه «زاهية تَعْطاتْ لْوَلْدْ عَمْها في الخارج»... ذُهِل حسين وأحس بنار تحرق جسده، ولم يَعُدْ يَقدِر على التفكير ولا على التركيز ولم يستطع استيعاب الوضعية. احمرت عيناه وتسارعت ضربات قلبه «لا.. لا.. والله ما يَدِّيها.. والله ما تَدْخُل عليه..» تلاشت صيحاته في ذلك الفضاء اللامتناهي.. وتصاعدت ضربات الدفوف وتوالت زغاريد النساء واختلطت بزئير الذكر المقهور الذي نُزعتْ منه أنثاه في لحظة غفلة منه ودخل في جذبة هيستيرية. جريمة عاطفية اتخذ حسين مكانا له فوق صخرة يراقب «زاهية» التي كانت تلُفّ حول الخيمة كعصفورة طليقة فرحة بعصفورها الذي سيبني لها قفصا ذهبيا في إسبانيا. كانت بذرة الحقد تكبر وتكبر ولهيبها يتأجج ونارها تقوى وتأكل قلبه رغم أن حبه لها كان يسري في عروقه.. لكن الحقد كان يزحف ويلتهم ذلك الحب وكلما تراءت له صورتها بين ذراعي ابن عمها. حاول أن يزيح المشهد بيديه لكن دون جدوى، اشتعلت عيناه نارا ولم تستطع إطفاءها الدموع المنهمرة من مقلتيه «علاش تقبل تْزَوْجُو؟ علاش؟ واش أنا ماشي راجل؟» ابتعدت «زاهية» عن الخيمة بحثا عن حطب لإشعال النار ولم تكن تَدْر أن الأسد الجريح يراقبها ويتتبع خطواتها. كانت تغني سعيدة كعصفورة تنط بحثا عن حبات حبوب وهي تشدو حريتها... وفي لحظة انقض عليها «حسين» وأزاح عن شعرها الغطاء وسحبه إلى الأسفل على مستوى العنق وأمسك بطرفيه وأحكم قبضته عليها غير آبه بحركات «العصفورة» التي كانت تحاول الخلاص دون جدوى. ارتخت عضلات «زاهية» وسقطت أطرافها وشَحُبَ لونها وبدأ يميل إلى السواد وفاضت روحها.. ترك «حسين» جسد الفتاة ينساب، كورقة ذابلة، بين ذراعيه اللتين كان من المفروض أن يضماها في لحظة حب وعناق. قبور بدل قصور انتقل رجال الدرك الملكي إلى دوار بالمنطقة، حيث أقدم أحد الشبان القرويين من البدو الرحل على قتل شابة في ربيعها السادس عشر شنقا بعد أن وصله خبر خطبتها من شاب من قبيلتها يعمل بديار المهجر. وتم إلقاء القبض على الجاني الذي ينتمي إلى نفس القبيلة فيما تم نقل جثة الفتاة الضحية إلى مستودع الأموات بمستشفى الفارابي لتحديد أسباب الوفاة. كان الشاب يطمح إلى نيل يد الفتاة لكن لم يكن له ذلك فتبعها وتحين الفرصة للاختلاء بها وشنقها بمنديلها حتى لا تكون لغيره. وأحيل الشاب على العدالة بتهمة القتل العمد. راحت «زاهية» إلى مثواها الأخير عروسة في كفنها وراح «حسين» في جلبابه الأسود إلى حفرته المظلمة ورحل الخطيب إلى ديار المهجر في بذلته السوداء الحزينة ليغرق في وحدته، مُقسما أن لا يعود لأرض اغتيل فيها قلبه وأجهز على حب بريء.. وورث الثلاثة قبورا بدل القصور.