مع دخول دبابات ماهر الأسد إلى مدينتَيْ حماة ودير الزور (باتفاق تام مع، أو بأمر مباشر من، شقيقه بشار الأسد... لكي لا يظن أحد أننا نضع الأخير في صف حمائم النظام، وهو رئيس الجوارح ورأس الكواسر)، في إطار تنفيذ عمليات وحشية، وانتحارية يائسة، ضد الحمويين والديريين، أهل التظاهرات المليونية، تترافق قذائف الدبابات مع قصف إعلامي يتولاه أزلام النظام، وكأنهم ينفخون الأكذوبة ذاتها، عبر البوق الواحد، بالنشاز المنكَر إياه. المهمة هذه تنقلب إلى ما يشبه نقيق الضفادع، خاصة حين يجتر بوق أول كلاما هالكا عن «مندسين» و«إمارات سلفية» و«مخربين»، أو يلعب بوق ثانٍ على مخاوف مستهلَكة مثل تخريب سكة قطار أو تفجير أنبوب نفط. آخر منتجات ذلك القصف هو القول بأن «الجيش الوطني» إنما يدخل إلى حماة بناء على طلب «الإخوة المواطنين» (وهذا نغم ابتدائي في الأسطوانة المشروخة)، لتطهير المدينة من «فلول المخربين» (وهنا تنويع ممل على النغمة الابتدائية)، و... القضاء على «خلايا منظمة القاعدة» التي تحتل المدينة (وهنا أقصى التطوير في النغم)! المرء، بادئ ذي بدء، يتذكّر ما كشفت عنه وثائق «ويكيليكس»، عن الاجتماع المشهود الذي شهدته العاصمة السورية، في فبراير العام الماضي، بين دانييل بنيامين، منسق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية، وفيصل المقداد، نائب وزير الخارجية السوري. التفصيل المثير هو حضور اللواء علي مملوك، مدير إدارة المخابرات العامة، على نحو لم يكن مقررا في الأصل، وكيف بدا انضمامه إلى الاجتماع بمثابة «اقتحام مباغت»، كما سيقول بنيامين، بأمر مباشر من الأسد، كما ستقول برقية الخارجية الأمريكية بعدئذ. ولأن واشنطن كانت على علم بأن مسائل ضبط الحدود مع العراق ليست في عهدة إدارة مملوك، وأن سيد الملف الفعلي هو العميد ذو الهمة شاليش، مرافق الأسد وابن عمته، فإن حضور مملوك كان يبعث برسالة المقايضة التالية: هذا اجتماع في الوقت الضائع، وحين تكون إدارة أوباما جادة في تحسين العلاقات مع النظام، عندئذ سوف يكون شاليش حاضرا في أي اجتماع قادم! الدليل على هذا هو الكلام الفج الذي صدر عن اللواء مملوك أثناء الاجتماع، وصار ذائع الصيت اليوم: «في محاربة الإرهاب على نطاق المنطقة، كانت سورية أكثر نجاحا من الولاياتالمتحدة، لأننا كنا عمليين وليس نظريين»، ذلك لأن «النجاح السوري تمثل في اختراق المجموعات الإرهابية، وحصول سورية على ثروة من المعلومات. نحن من حيث المبدأ لا نهاجمهم أو نقتلهم، بل نتمدد داخل هذه المنظمات عن طريق اختراقها بعناصرنا». خاتمة المداخلة كانت أشبه بإطلاق رصاصة الرحمة على المقاربة الأمنية الأمريكية بأسرها: «الفارق بيننا وبينكم هو أنكم تحاربون الإرهاب وجها لوجه، أما نحن فنخترق صفوفه»! جانب آخر من المسألة تكفل سيمور هيرش، المحقق الصحافي الأمريكي الشهير، بتسليط الأضواء على وقائعه، في تقرير مأثور نشرته مجلة «نيويوركر: الأمريكية، صيف 2003. لقد روى الرجل أن المخابرات المركزية الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي عملا في مدينة حلب، ضمن ما يشبه تفويض ال«كارت بلانش» من السلطة، على دراسة وتدقيق آلاف الملفات الوثائق والمستندات السرية التي تخص رجالات «القاعدة». كذلك كان للأجهزة السورية فضل إفشال عمليتين ضد القوات الأمريكية: واحدة ضد الأسطول الخامس في البحرين، والثانية ضد هدف في أوتاوا بكندا. وهيرش يؤكد، استنادا إلى معلومات متعددة المصادر وإلى مقابلة مباشرة مع بشار الأسد، أن النظام السوري كان يسعى إلى بناء «قناة خلفية» للحوار مع البيت الأبيض، مستغلا استماتة الأجهزة الأمنية الأمريكية في حيازة معلومات ملموسة عن كوادر «القاعدة» وخلاياها. فكيف حدث أن منظمة «القاعدة» صارت تحتل حماة ودير الزور، رغم دبابات العميد الأسد ومفارز اللواء مملوك و»شبّيحة» شاليش ومجموعات مهربي السلاح، لكي لا يتساءل المرء عن عناصر المخابرات العسكرية والأمن السياسي ومخابرات القوى الجوية؟ وإذا كانت حماة قد انقلبت إلى «قندهار جديدة»، في توصيف منحط أطلقته صحافة رقيعة، يحكمها بن لادن الحموي، وتحولت دير الزور إلى «بعقوبة ثانية»، بإمرة الزرقاوي الديري مثلا... فأين ذهب «اختراق» صفوف الإرهابيين، و«التمدد» داخل منظماتهم، و«ثروة» المعلومات التي جمعها العباقرة من ضباط أمن النظام؟ وإذا صح أن النظام أفشل عمليتين ل«القاعدة» ضد أهداف أمريكية، فكيف عجز عن إحباط مخططات منظمة «القاعدة» ويحتاج اليوم إلى عشرات الدبابات لمحاربتها؟ حبل الكذب، هنا، ليس قصيرا فحسب، بل هو فحشاء قصوى ينحط إليها نظام استنفد أغراض وجوده جمعاء، وصار نقيض الحياة وخصمها، وبات عاجزا حتى عن استثمار سبطانة الدبابة وبوق الأكذوبة. وللصامتين أن يلوذوا برهاب، من أي نوع، في تصديق ما تنفخه الأبواق من مخاوف كاذبة، وللدجالين المتذرعين بالحرص على «علمانية» البلد أن يتواطؤوا مع ما يرتكبه نظام الاستبداد والفساد من مجازر. ولكن... إذا كانت العدالة تنتظر مجرمي الحرب، على اختلاف مواقعهم، ذات يوم قريب آتٍ لا محالة، فإن مزبلة التاريخ وازدراء الملايين، فضلا عن خسران شرف المشاركة في صناعة سورية المستقبل، هي مآل الصامت ومصير الدجال.