بعدما نجحت نخبة المخزن السياسي في تمديد مقدماته من مداخل اللّبوس «الحداثي» المؤسساتي الظاهر، الذي حافظ على ثوابته وعلى تقاليده وأصوله التاريخية. أخفقت الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية في صيانة تاريخها من التبديد على عتبة مفردات «التوافق والتراضي» بحسبانها المداخل الممكنة الصامدة لإمكانية بناء نمط محدد من أنماط التسويات السياسية المختلة على قاعدة تنازلات جوهرية مست عصب تصوراتها الاستراتيجية مثلما عصفت بمعظم ثوابتها ومنطلقاتها الموجهة لإدارة الصراع السياسي لأزيد من أربعة عقود، بنفس الدرجة التي انعكست فيها (التنازلات) على ذاتيتها السياسية وأصابتها بأعطاب وعاهات مزمنة. تحمل حكومة النكبة في صيغتها الراهنة أكثر من دلالة سياسية فهي تحصيل حاصل لطبيعة التحالف المعطوب بين السلطة و«الحركة الديمقراطية» المسنودة بأطياف الإقطاع السياسي. ليس هذا التحالف ظرفيا ولا أملته حسابات سياسية مرحلية، بل هو تحالف استراتيجي طال جوهر العلاقة السياسية بين الطرفين- منذ ما عرف بمكرمة «التناوب» نتيجة للميْل العام في التنكر للمنطلقات والمبادئ الكبرى التي وجهت صراع الحركة، على أرضية سؤال شرعية السلطة ذاته (حالة «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» بطبعته الثانية المنقحة من الميل الجذري / «الاتحاد الاشتراكي..» ولعل التنكّر للمبادئ الكبرى هو ما قاد الأطراف المركزية «للحركة الديمقراطية» إلى الانزلاق نحو مواقع تبريرية جديدة، قد تمكنها حسب أطروحتها هي – من المساهمة في صياغة هوامش القرار. لاتنأى حكومة النكبة بنفسها عن التمثيلية الكيانية وعن التعبير المباشر عن مصالح وعلاقات مادية مباشرة لبعض القطاعات الإجتماعية، بمعنى أنها لا تعبّر موضوعيا عن طموحات الناس أجمعين (الشعب في مفهومها هي) الذين تطالب السواد الأعظم منهم بالصبر والأناة، بل وبتكذيب ما في بطونهم ( !؟) لكنها تمثل عن حق وحقيقة مصالح «شعبها» هي، وليس مصالح كل المغاربة، إنها تعبر بالأساس عن «شعب الحزب» ومحيطه، عن «شعب المقاولة الكبرى ورجال المال والنفوذ»، وعن «شعب التكنوقراط» وعن جيوب الرأسمال، لا عن الشعب المقذوف به نحو جغرافية البؤس وأحزمة الفقر» ولا عن «شعب قوارب الموت» ولا عن جحافل الجياع، ولا عن فيالق المعطلين، ولا عن شعب المستضعفين والمهمّشين والممارسين للعمل العبودي المقموع، ناهيك عن كل المقصيين من دورة الإنتاج المادي الملموس. إن تقديم حكومة النكبة- كمحصلة قياسية لمهزلة 7 شتنبر2007- باعتبارها حكومة كل المغاربة، أمر يحتاج إلى نظر على أساس أن هذا القول ينطوي على حمولة ديماغوجية، بحسبانه يقوم على تمثل فج لمفردة المصلحة العامة التي يتم التحصن وراءها سواء تعلق الأمر بأطراف «الحركة الديمقراطية»، أو اتّصل بالرّديف الموضوعي للإقطاع السياسي المتمثل في مستوطناته الحزبية المسماة خطأ ب«اليمين». إن المصلحة العامة في عمقها تعبير نظري مجرد وفضفاض، يحيل على كل شيء وفي المقابل لا يحدّد أصلا أيّ شيء على مستوى الواقع الملموس، بينما تحيل المصلحة الخاصة على واقع عياني، أي على مراكز وعلاقات قوى ومصالح مادية ظاهرة ومشخّصة. إذ غالبا ما يواجه القارئ في الوضع العام للمغرب خصوصا على مستوى القضية الاجتماعية، بجملة من المفارقات المرعبة التي يصعب على حكومة النكبة حلّها. تأتي في مقدمة هذه المفارقات تلك الجزر من العائلات الممتدة بالمعنى السوسيولوجي، المحددة مكانيا وزمانيا والمتحكّمة في جزء هام من دواليب الاقتصاد المغربي وهو ما قد يشكل أحد أهم العوامل المفسرة لبعض من أسباب القصور الحاصل عند أطراف «الحركة الديمقراطية»، على صعيد محاولة تمثّل وإدراك الإشكالات والتحدّيات الكبرى التي تطرحها قضايا الاقتصاد الوطني. في مقابل الوزن والثقل الاقتصادي لهذه الحفنة من العائلات الممتدة التي تمثل جزراً صغيرة تربط بينها فواصل الحركية الذاتية للرأسمال المحلّي، هناك النظير الاجتماعي النقيض المتمثّل تحديدا في قطاعات اجتماعية واسعة (المهمّشون، المعطّلون، وكل المقصيين من الدورة الإنتاجية...) لا تنطبق عليها المواصفات المفترضة للانخراط المواطني في منطق الدولة. إنها لا تجد ذاتها داخل هذا المنطق، لأنها مجرد ذات جماهيرية /موضوع سلسلة متّصلة من الإكراهات التاريخية والسياسية التي جرّدتها من كل مبادرة، ممّا يجعل من مفهوم المواطنة ضمن الشروط العامة للبلد، أمرا غير مستقيم قياسا مع المواطن الأصلي الذي شهد بلورة المفهوم، في ارتباط وثيق الصّلة بحركية الواقع التاريخي: الغرب الأوربي. فالحاصل أنّ مفهوم المواطن لا يتوقّف أبدا على شرنقات الذات الحزبية- المعطّلة- ولا على إسقاطات خطابات حكومة النكبة، لسبب أساس يتلخّص في كونه عبارة عن شكل من أشكال الوجود السياسي الفاعل. أو قل للدقّة الوجه التاريخي الذي أضفته البورجوازية على الإنسان الغربي، وفق أرضية مرجعية فلسفية محدّدة/ ممثلة في فلسفة الأنوار، وعلى قاعدة نظرية العقد الإجتماعي. ضمن هذا السياق هل ينسحب مفهوم المواطنة على قطاعات اجتماعية عريضة خارجة عن منطق الدولة؟؟ وهل بإمكان «مواطن» جائع وجاهل التدخّل في الشأن العام؟ أم أنه مُطالب بانتزاع نفسه من محدّداته المادية كي تنطبق عليه إسقاطات المفهوم الذي تضفيه عليه قسرا الذات الحزبية وصحافتها؟ وبما أنّ المواطنة في جزء منها تدخّل في الشأن العام، فهل يتّسع هذا الأخير لتدخّلات «مواطن» من العيار المذكور؟ ثم هل يمكن لقطاعات اجتماعية عريضة معدمة جرى تفقيرها وظلت مقصية طيلة عقود خلت من حقل الممارسة السياسية، تجديد ثقتها في نخب سياسية مفلسة ومعرّضة للسقوط الأخلاقي والتاريخي؟ ألم تفصح محطة 7 شتنبر عن ذاتها كمسمار دُقَّ في نعش أحزاب سياسية تحولت إلى مقاولات للمتاجرة ب»الشرعية التاريخية» والنضالية؟... بعدما فتحت الحركة الوطنية جبهة الصراع من أجل الديمقراطية- بنسب متفاوتة من حيث الأداء السياسي المباشر- دخلتها وقد راكمت أعطابا وعاهات ألمّت بها منذ فترة الاستقلال النسبي، وظلت بمثابة لازمتها التاريخية، وحتى عندما تمكنت الذاتية الحزبية للحركة من بناء إطار وحدوي أملته تقديراتها المحددة للظرفية السياسية التاريخية العامة. (الكتلة الديمقراطية). ظلت تحمل وزر تركة ثقيلة من الأخطاء التاريخية النوعية وليست العادية في حساب ميزان السياسة وعلاقات القوى. وقد يكون بإمكان المحلّل لما جرى من انتكاسة مدوية مسّت هيكل الحقل السياسي الوطني وتحديداً غداة انتخابات 7 شتنبر 2007، وضع اليد على الشروط الملتبسة التي تولّدت عنها حكومة نكبة معتلّة «يقودها» حزب الاستقلال ويدعمها بشكل أوضح حواريو الهمّة وصحبه. بوسع القارئ في الأزمنة المتعدّدة للتجربة التاريخية الملموسة ومن مشمولاتها الزمن الذاتي الخاص للممارسة الحزبية التي تنسب نفسها «للحركة الديمقراطية» التوقّف عند محطة مفصلية رئيسة من محطّات هذا الزمن، والمتمثّلة في الأعطاب المحمولة التي تحوّلت بفعل استمراريتها كجزء من الهوية السياسية الذاتية للحركة المذكورة إلى حاضنة للخلفية العامة التي قادتها إلى الإنجرار صاغرة نحو الحكومة. إذ لم تتمكّن هذه الحركة من إنجاز أيّ شكل تاريخي يذكر من أشكال نظام القطائع، الذي خضعت له كل أنماط التفكير الاستراتيجي في مصائر العباد. بقدر ما خضعت لجملة من التحوّلات الانتكاسية، ذات النزوع الامتصاصي لهوامش وجيوب الجذرية، التي حملتها منذ خروج «الاتحاد الاشتراكي».. من رحم «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية». لقد أثبتت التجربة التاريخية أن العصر المذكور للحركة الوطنية- وامتدادها الحزبي «الديموقراطي»- قد لعب دور الكابح الذي جرّدها من كل إمكانية حقيقية- أو مفترضة لتصفية حساباتها النهائية، مع هوامش الارتباطات والالتزامات التاريخية المتراكمة تجاه أجنحة محدّدة داخل المؤسّسة المخزنية. وهو ما قادها إلى إخفاق ذريع أثناء محاولة بناء تصور محدد- ولو أوّلي- لمفهوم الوطن السياسي، بحسبانه المدخل المركزي الضامن لإمكانية اجتراح نمط ما من أنماط التعيين الدقيق لشكل العلاقة الممكنة مع المواطنة ومع التاريخ تحديدا. في مقابل التنازلات والإخفاقات المذكورة التي ساقت آخر الزعماء التاريخيين «للاتحاد الاشتراكي»، إلى تشكيل حكومة «التناوب» على خلفية القسم الشهير- على المصحف الكريم- بين يدي الملك الراحل، تعترض المحلّل مسألة مركزية لأثقل أهمية عن سابقاتها، والمتمظهرة على شكل مجموعة من الأسئلة الحارقة، التي أملتها موضوعيا مساحة تواطؤات الصمت الرهيب، وليست فقط مجرّد مناطق ظل وبياضات شكّلت ثقوبا داخل الخطابات الحزبية والإعلامية «للحركة الديموقراطية»، يتعلق الأمر بمسألة «اللوبي المناهض للإصلاح» تفصح بعض من هذه الأسئلة عن ذاتها باستمرار، مثلما تعلن عن طموح يهدف أساسا إلى إماطة اللثام عن جملة من محمولات «اللوبي» المذكور، هذه الأسئلة أتت متساوقة وفق الشكل التالي: لماذا لازالت ملل ونحل أهل «اليسار»- المشارك منه في حكومة النكبة أو الذي ينتظر دوره في اللحاق- تصمّ آذان الجميع بأثر «اللوبي المناهض للإصلاح» رغم تمكّن أطرافها المركزية من «احتلال» بعض الهوامش المفصلية داخل ما سمي سابقا بحكومة التناوب؟» وما الذي منع الأستاذ اليوسفي –آنذاك- من المجاهرة بحقيقة هذا «اللوبي» وبسدنته؟ ألم يكن «التغيير» و«الحقيقة» أولا شعار «الاتحاد الاشتراكي». قبل قبوله مكرمة «التناوب»؟؟ لم هذا الصمت المطبق والمشبوه حول هذه المسألة، هل لأن الجماعات المكونة لأنوية «اللوبي» تتمتع بحصانة سياسية تحظر فتح جبهة شعبية لمنازلته؟؟ ما المضمون السوسيولوجي المحدّد لطبيعة هذه الجماعات ولتركيبتها؟ وهل لها هوية ذاتية سياسية أم إدارية؟ وهل لها نفوذ داخل الغرفة الثانية بما هي الإطار الذي يمنح إمكانية تشريعية حقيقية للمصالح المادية لجيوب الرأسمال ذات الصلة العضوية باقتصاد الريع؟؟ ثم بأي معنى يركب الجميع موجة مريبة من السكوت المتواطئ حينما يرتبط الأمر بهذه الجماعات الضاغطة ؟؟ هل لأسباب ذات طبيعة سياسية حمراء قد تتصل على سبيل المثال بأطراف نافذة تتمتع بصفة التواجد الفاعل في رسم وإعادة رسم خارطة الحقل السياسي الوطني بفعل تغلغلها داخل النسيج الاقتصادي للبلد، وهو ما قد يمنحها القدرة على وضع عراقيل جدية أمام محاولات الإصلاح؟؟ وهل تملك أصلا حكومة النكبة المقدرة السياسية لمباشرة أوراش إصلاح أخفقت حكومة ذ. اليوسفي في تمرينها؟؟ وهل الأجهزة الإدارية هي رافعة هذا «اللوبي».. وحاضنته، أم هناك ضرب من ضروب التحالف المستتر الذي قد ينظم العلاقة بين الطرفين كما يضمن تقسيم وتوزيع الأدوار بينهما من أجل تلغيم الوضع؟؟ ثم هل ثمة إمكانية تسمح بسوْقِ تفسير مقنع لصيغة الازدواجية الممأسسة لكل من الممارسة الحكومية من جهة ومداخل الممارسة السلطوية من جهة ثانية؟؟ هل هي (الازدواجية) من إفرازات الأثر السياسي المادي لجماعات الضغط؟؟ وما علاقة حفنة العائلات الممتدة بهذه الجماعات؟؟ هل هي نواة من أنويتها الصلبة أم مجرّد مصدر من مصادر الاستقواء الاقتصادي؟؟ ثم هل هناك صلة جامعة لحركة الهمة وتعبيرها الحزبي العلني («الأصالة والمعاصرة») «بلوبي الضغط»، أم أنهما ينقسمان من واحد؟؟ أولا يخفي التلويح «بفزاعة» جماعات ومراكز الضغط دونما تحديد وتشخيص لأنويتها ولهويتها- نوعا من الإقرار المضمر بعدم امتلاك المقدرة على اختراق دفاعاتها الضّاربة في مجالي الاقتصاد والاجتماع السياسي، أم أن مقاومات حكومة النكبة مشلولة في مواجهة مضادات «اللوبي»»؟؟ وأخيرا... -وليس آخرا- من الذي يتحمل المسؤولية المباشرة في إعادة تجديد الدينامية القمعية القوية في مواجهة مطالب مشروعة – دستوريا- لحركات اجتماعية احتجاجية سلمية من قبيل مطالب جمعية المعطلين وحركة الدكاترة المقصيين من الوظيفة العمومية وكذا مطالب المغرب العميق الذي جرى تهميشه على قاعدة إعادة إنتاج المقولة الكولونيالية (المغرب النافع وغير النافع)؟؟... تستمد هذه الأسئلة مشروعيتها من كونها تشمل – كموضوع لها- جزءا مركزيا من الأطر والنخب الحزبية لبعض الأطراف الأساسية داخل «الحركة الديمقراطية» المشاركة في حكومة النكبة، بمعنى أنها في موقع قد يسمح لها بتقديم جواب سياسي متماسك ومنسجم وواضح أيضا حول ذات وصفات هذا «اللوبي» الذي طالما صدعت به خطاباتها وجرائدها الحزبية ولازالت تجاهر به، وهو أمر يطرح على نخبها وجوب الانتقال نحو مواقع التشخيص المادي لمظاهر تدخّل «اللّوبي»..، ولأثر إيقاعاته على صعيد واقع الاجتماع السياسي وكذا لمساحة حركيته على مستوى الحقل الاقتصادي. فهل من مجيب؟؟