إن مجرد العودة إلى الدستور الإسباني (الفصول سابقة الذكر في كليتها)، سيسمح بملاحظة أن مكانة الملك تحظى بكبير العناية والاحترام، وأن له اختصاصات محددة بمقتضى الدستور يمارسها في احترام تام لمؤسسات الدولة وتنافسية الحكومات المنتخبة، فلا يتدخل في البرامج الحكومية باعتبار ذلك من أركان التعاقدات الانتخابية بين الناخبين والمنتخبين في إطار برامج سياسية اقتصادية واجتماعية. على أن للملك في إسبانيا بصمات على مستوى العلاقة التعاونية مع الكورتيس، البرلمان الإسباني، بغرفتيه، من أجل تعيين رئيس الحكومة (الفصل 99)، تصدر الأحكام القضائية باسم الملك (الفصل177)، ويعين 20 عضوا من تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية (الفصل 122 الفقرة 3)، ويعتمد السفراء لديه ويعين السفراء لدى الدول والمنظمات (الفصل 63)، ويعين رئيس المؤسسة العسكرية (الفصل الفصل 62)، ويمارس العفو ويعين في الوظائف تبعا لاقتراحات المجلس الوزاري (الفصل الفصل 62 )، وغيرها من الاختصاصات. إن الدستور الجديد هو، في مقتضياته المتعلقة بالمؤسسة الملكية واختصاصاتها، نسخة طبق الأصل لمقتضيات الدستور الفرنسي -الجمهورية الخامسة- في ما يخص اختصاصات رئيس الجمهورية الفرنسية، طبعا مع فارق جوهري في طبيعة النظام، بين كونه ملكيا أو جمهوريا. غير أن السؤال الذي طرحته ولازلت أطرحه على نفسي إلى اليوم هو: هل المطالبة بملكية برلمانية لا تقوم إلا إن كانت المقاربة بالضرورة بين نظام ملكي وآخر شبيه به؟ أم إن الديمقراطية حيثما وجدت فالأجدر اقتفاء أثرها حتى ولو تعلق الأمر بنظام رئاسي؟ في مقابل ما سلف ولشرعنة طبيعة التساؤلات، لماذا يكاد ساركوزي اليوم وقبله كل من جاك شيراك وميتران وغيرهم يستأثرون باختصاصات واسعة، داخل نظام رئاسي، دون أن تعبر النخبة الفرنسية عن امتعاضها من هذه الاختصاصات ولا من طبيعة النظام؟ إنها، بكل بساطة، دولة ديمقراطية خطابا وفعلا، ومن ضمن مكونات آلتها النظامية النخبة بكل مشاربها باعتبار غير الحاكم فيها هو بمثابة قطعة غيار، بديل مفترض، إنه مجتمع الدولة، مقاولة للجميع، والتنظيم البيروقراطي للمجتمع على درجة من الانفتاح بحيث يسمح بولوج الكفاءات أيا كانت انتماءاتها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان بإمكان رشيدة داتي مغربية الأصول أن تتربع على عرش وزارة من الأهمية بمكان في الأنظمة الديمقراطية وهي وزارة العدل. إنها النخبة التي تحمل مشروعا مجتمعيا، بوازع من المواطنة الخالصة، فهل لدى نخبتنا جزء من هذا الوازع؟ كثيرة هي التساؤلات التي تتناسل أمام هذا التراكم من الأحداث، تساؤلات مشروعة لأنها ترسم تشكيلات آفاق المستقبل وما سيترتب عن هذه المحطة التاريخية من واقع تتوجب متابعة معالجة اختلالاته، وذلك في سياق القفز على القنطرة الضرورية لإنجاح الإصلاح الدستوري، ألم يكن الأجدر بالنخبة وبالمتظاهرين الالتفاف حول مشروع الإصلاحات السياسية في مقاربته التخليقية -في إطار تصور مدني مواطناتي للتخليق- لأدوات عمل النظام، ومنها: الأحزاب السياسية، تجديد النخبة، تمكين المجتمع من مقتضيات تقضي باحترام الناخب -في إشارة إلى محاربة ظاهرة الترحال، والحمد لله على أن الدستور الجديد قضى عليها نهائيا بما يمثل قيمة مضافة لحماية التعاقدات الانتخابية بين الناخب والمنتخب- العمل على تفعيل مقتضيات المساواة أمام القانون كما كان مقرا بها في الدستور، وذلك بما يكفي لتحقيق سياسة عدم الإفلات من العقاب التي كانت البند المحوري للمطالب التي عبر عنها المتظاهرون في الشوارع، وغيرها من الآليات والميكانزمات التي ستشكل أرضية فعلية لانتقالات نوعية بعيدة عن الغوغائية الخطابية. إن الدافع إلى هذه المقاربة هو ما يمثله التذكير في الثقافة الإسلامية (ذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين، وفي روح المواطنة الحقة. ولعل أقوى درجات الإيمان أن نقارب اليوم ما يقع بما يجب أن يستتبع هذه المرحلة من حزم قناعاتي حتى لا ينخر الماضي آمال الحاضر والمستقبل. الواقع اليوم يشي بحقائق أخرى، والترتيبات الدستورية الجديدة ترقى إلى مستوى الشراكات والتكامل المؤسساتي بين المؤسسة المركزية -الملكية- والسلطة التنفيذية التنظيمية في شخص رئيس الحكومة، وما استتبع ذلك من دسترة لمختلف اختصاصات المؤسسات الثلاث، ومنها توسيع مجال السلطة التشريعية بما يحد من الإبقاء على السلطة التنفيذية كسلطة رئيسية للتشريع كما هو عليه الأمر في دستور 1996، كما من ملامح الثورة التصورية لما يحقق هبة القضاء بإزالة سلطة الوزير على المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ومن الحسنات كذلك القضاء على الترحال السياسي وغيرها من المتغيرات التي ليست في واقع الحال موضوع نقاشنا في هذا المقال. إن ما يجب التنبيه إليه هو أن نتائج المخاض كانت واقعية وتلائم حقيقتنا، وتجسد بالملموس المفهوم السياسي والاجتماعي للخصوصية المغربية كما يتم الاعتداد بها في مجموعة من المحطات الانتقالية التي عرفها المغرب. لن أجد بدا من القول إن رئيس اللجنة الدستورية الفقيه الدستوري المانوني ومن معه وكذا المستشار الملكي المعتصم، فعلوا خيرا بأن وسعوا صلاحيات وسلطات رئيس الحكومة، لأن أعضاء الجهاز الحكومي في حاجة إلى المراقبة. إن غياب النضج النخبوي يفسر هذا الواقع ويبرره، وهو ما دفع بمجموعة من المحللين والأساتذة إلى الإقرار بأن السياق الراهن لا يسمح بملكية برلمانية، وإنما بمرحلة وسط تتمثل في ملكية دستورية بما فيها من ملامح رئاسية ونفحات برلمانية، وذلك في أفق إنضاج الواقع لما هو أفضل. ولعله الرأي الذي عبر عنه الأستاذ عبد الرحيم المنار اسليمي قبل خروج مسودة الدستور إلى الواقع وبقي وفيا لبنائه التصوري حتى بعد ميلاده. هنيئا لنا بانتصارنا على النخبة الديماغوجية، وبملكيتنا كمعطى تاريخي وواقعي. وعليه، نعم لكل خطواتكم، وما يستتبعها بإرادتكم الملكية من تفعيل لمقتضيات الدستور الجديد، ومنها الحماية الفعلية للحقوق والحريات بما يضمن الكرامة، وذلك في إطار الحكامة المؤسساتية لمؤسسات حماية الحقوق والحريات التي تمت ترقيتها إلى مؤسسات دستورية، وذلك في سياق تحقيق الأمن القومي الحقوقي، ومنها الرقي بمؤسسة العقاب على أرض الواقع لتتخلص المسؤولية من كل من يسيء إليها. والله ولي التوفيق. انتهى/ جلال أومزلوك - دكتور في القانون العام