اشتهر وزير الخارجية الفرنسي السابق برنار كوشنر بخاصتين: الأولى الولاء للإسرائيلي، والثانية الكوريدور الإنساني، بل وصل الأمر عند أحد الصهاينة إلى وصفه بالقول: «المناضل الذي منع ارتكاب إبادة جماعية أكثر من مرة بفكرة الكوريدور الإنساني. طبعا، كوريدور كوشنر لا يختلف عن الأكورديون يتسع ويضيق حسب النغم والصوت والقضية، ولا مشكلة في أن يتوقف تماما عن العزف عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني أو بقطاع غزة. وكون بعض الإخوة في كردستان العراق يعتقدون بفضائل الكوريدور الإنساني، فقد اتصل بي أحد الأصدقاء الجامعيين من أربيل يوم دخول الدبابات درعا ليقول لي: هذه فرصتكم، خروج جماعي للأردن ويسقط النظام. فأجبته: «عزيزي، لم يسقط صدام يوم الكوريدور العراقي إذا كانت ذاكرتي لم تخني بعد. الشعب السوري في درعا هو الأحق بالمدينة من الأمن والقوات الخاصة التي من واجبها التمترس على الحدود لا بين البيوت، كلنا مع الصمود في المنازل». لم تكن تراجيديا «أنطاليا» (حيث اختلط الحابل بالنابل باسم إنقاذ سورية من الدكتاتورية) قد بدأت بعد، لذا تمكنا كمجموعة من العقلاء مع أهالي درعا من الحؤول دون خروج لاجئين من المدينة. لكن الحقيقة، أقولها وبألم، منذ انحازت عدة أطراف إلى نظرية التجميع الكمي للمعارضين، أصبح الجلوس مع النصاب والمجرم والسارق حلالا باسم إسقاط النظام، ووصل الأمر إلى الجلوس مع الصهيوني برنار هنري ليفي وألكسندر غولدفار، مساعد وزير الدفاع الإسرائيلي ومستشاره لشؤون الصناعات الأمنية والعسكرية، وأندريه غلوكسمان، المتحمس للمحافظين الجدد ومحامي إسرائيل، أو فريدريك إنسيل الذي بدأ حياته مناضلا في شبيبة البيتار (حركة شباب الليكود في فرنسا)، وهو صهيوني متطرف ويطرح مواقف عنصرية ضد العرب، كذلك دعي برنار كوشنر من أجل سمعة الكوريدور الإنساني. من المأساوي أن يصبح عند البعض الاستنجاد برموز اللوبي الصهيوني قضية عادية في واشنطن بالأمس ثم في باريس مؤخرا، بل وصل الأمر برجل أعمال سوري، شارك في تمويل اجتماع منتدى «قواعد اللعبة» لصاحبه برنار هنري ليفي، إلى القول: «ما الفرق بين الجلوس مع غولدفار وعزمي بشارة، كلاهما عضو سابق في الكنيست». الأخ رياض الشقفة، المراقب العام لحركة الإخوان المسلمين، قال لي بالهاتف عندما سألته عن حضور مندوب من الحركة الاجتماع: «أخبروني بأن هناك اجتماعا مع مفكرين فرنسيين، بينهم واحد يهودي». هذا الانحدار عند البعض باسم الثورة السورية، بل حتى بحق تنظيمه السياسي، وعلى حساب المدافعين عن الكرامة والحرية، لم يعد بالإمكان السكوت عنه، وصار من الضروري، والنضال على أشده لنجاح الانتفاضة، أن نعود إلى مناقشة مسألة مركزية تتعلق بمن نحن، وما هي التخوم والحدود في التحالفات والمؤتمرات، وهل باسم مناهضة الدكتاتورية يمكن الجلوس مع كل قادم أو كل من ينطبق عليه (عدو عدوك صديقك)؟ منذ 1980، كنت أشعر بأن فكرة الفرز في النضال الديمقراطي ضرورية، وكان في الطرف الآخر من يتحدث في الجبهة الواسعة، واختلفنا كثيرا، خاصة في فترة تحالف البعض مع نظام صدام حسين، وبعدها عندما تواصل البعض مع اللوبي الصهيوني في واشنطن. وقد جاءت انتفاضة الكرامة لتحررنا من عقدة (من قلة الخيل وضعوا على بغالهم سروجا)، لكون الثورة العربية تنتج مئات آلاف الأحرار وتبعدنا عن حالة التصحر السياسي التي كنا نواجه فيها. لذا لم يعد بالإمكان إيجاد ذريعة أو مبرر، أخلاقي أو سياسي أو براغماتي، لمد اليد إلى مجرم ضد الإنسانية أو محتل إسرائيلي أو مرتكب جرائم اقتصادية، بل صار على العكس من ذلك، من الضروري التمايز بوضوح عن المرتزقة الجدد والسماسرة الإقليميين وتجار البؤس؟ هناك بالتأكيد حالة انفصام نفسية وأخلاقية بين سياسيين مخضرمين يعيشون في المنفى والشباب داخل سورية، بل أيضا مع نظرائهم من الحركة السياسية التقليدية داخل البلاد والتي جددت شبابها في الثورة ومع الثوار في معايشة الحالة الثورية. في سورية، يشعر الأحرار والثوار بأن المشروع التحرري لن يتوقف عند سقوط الدكتاتورية، وغالبا ما نسمع عبارة تحرير القدس، أما في الخارج فيلجأ البعض إلى تكتيكات واتصالات محدودة الأفق، محدودة السقف، معيبة لأصحابها وعالة على الفعل الثوري السوري بأكمله. لذا قلنا ونكرر، الغاية لا تبرر الواسطة، والثورة التي قدمت أكثر من ألف وخمسمائة شهيد وعشرة آلاف جريح وأكثر من تسعة آلاف معتقل ليست بحاجة إلى سوق النخاسة الصهيونية في الغرب، لأنها موضوعيا في صراع وجودي مع الصهيونية، التي ترفض سورية ديمقراطية قوية. وتبحث عن تمزيق أوصال البلد لتبقى الدولة العبرية مركز القوة العسكري والعلمي والاقتصادي في المنطقة. لا يمكن فصل مشروع الحرية والكرامة عن مشروع التحرر الوطني ومواجهة الإسرائيلي. كما أن سورية بدون مواطن كريم ومواطنة كاملة الحقوق، بلد مصاب بنقص المناعة الوطنية بالضرورة، لأن سلاح المقاومة الأهم والأعلى هو الإنسان. من هنا، اعتبرنا دائما الخروج من الدكتاتورية إلى دولة مدنية ديمقراطية الشرط واجب الوجوب لتحرير الأرض العربية. يوما بعد يوم، نجد الفصام بين الداخل والخارج السوري يتسع، وكلما خرجت شطحة على نمط «أخرجوا من بيوتكم لتركيا» من أجل منطقة عازلة تنطلق منها أفواج الضباط الأحرار، تورطنا في قضية جديدة أبعدتنا عن الاستقطاب الشعبي الواسع الكفيل بفكفكة السلطة وفتح الباب للتغيير الديمقراطي السلمي. لقد رأينا وسمعنا التحريض على اللجوء والنزوح على الفضائيات، وكيف أن الحرائر يغتصبن بالعشرات والرجال يقتلون بالمئات، حتى إن أحد الأفلام تحدث عن سبعمائة شهيد في الرستن وأقل منها بقليل في جسر الشغور. لجأ قرابة خمسة عشر ألفا إلى الأراضي التركية، ونسيهم السياسيون، فصاروا يتظاهرون بنفس الشعارات التي يتظاهر بها أهالي حماة من داخل مدينتهم، ثم لم يجدوا سوى الإضراب عن الطعام للخروج من وضعهم الصعب. ووقع العبء علينا كمنظمات حقوقية وإنسانية لإخراجهم من مأساة جديدة. لقد باشرنا منذ اليوم الأول الطلب بوقف مأساة النزوح وطلبنا التواصل مع أبناء سورية في الأراضي التركية. رفضت السلطات التركية دخولنا المعسكرات، ورفضت أن تكون هناك جمعيات غير تركية لمساعدتهم، ورفضت وجود الإعلام ورفضت اقتراحنا بتحويل ما أسمته «الضيوف» إلى قراءة قانونية فعلية، أي فرز اللاجئين على أساس القانون الدولي: بين فصيل أول يوجد خطر على أمنه وحياته في حال الرجوع، وبالتالي منحه حق اللجوء وحق التواصل مع المنظمات الإنسانية والحقوقية وحق الحركة ضمن مصلحة البلد المستقبل، وفصيل ثان خرج بالتهويش والتجييش ولا ناقة له ولا جمل، ومن المفترض تأمين عودة مباشرة له تضمن السلامة والكرامة، أي أننا حاولنا أن نناقش القضية مع السلطات المعنية وفق الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين اعتمدها يوم 28 يوليوز 1951 والتي صدقت عليها تركيا منذ ستين عاما. لكن حتى اللحظة، يرفض استقبال وفد المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية لتقييم وتقدير الاحتياجات وسبق ورفض طلب اللجنة العربية لحقوق الإنسان للتحقيق في أوضاع اللاجئين، وتتعامل السلطات التركية مع الموضوع باعتبارها الطرف الوحيد صاحب القرار في كل شاردة وواردة. منذ خرجت فرضية الكوريدور الإنساني قبل عشرين عاما، قلت إنها وسيلة سياسية انتقائية لتوظيف العمل الإنساني، وقد أثبت الوضع في العراق في ظل الاحتلال ثم وضع الأراضي الفلسطينيةالمحتلة والعدوان على غزة ذلك بشكل جلي. لكن يبدو أن بعض «الأذكياء» ظنوا أن بالإمكان هذه المرة أن يدخل حلف شمال الأطلسي لنجدة عشرة آلاف نازح سوري في الأراضي التركية، وأن عليهم مد جسور تطمئن الإسرائيلي إلى أن القادم السوري ضد إيران وحزب الله وحماس ويكفل في اجتماع كسهرة سينما السان جرمان الشهيرة، ألا تلفظ كلمة الجولان أو فلسطين. وبدون أية مبالغة، أظن أن هذه الهدية للسلطات السورية لم تحلم بها ولم تعتقد بإمكانيات وقوعها حتى بمعجزة. خلال نصف قرن، فشلت الأوساط الصهيونية في اختراق المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية، اليوم والشعب السوري ينعتق من الدكتاتورية بثواره وأحراره، تصبح أية مهادنة أو ارتهان لهذا اللوبي خطا أحمر غير مسموح به، ومن المطلوب عزله عن الجسم الصحي الطبيعي للنضال من أجل سيادة الوطن وكرامة المواطن.