خلال الاستعدادات التي كانت جارية للتحضير للقاء بين محمود عباس وبنيامين نتانياهو، كان ثمة أشخاص ينتمون لكلا الطرفين يشتغلون في الكواليس على مدار الساعة من أجل تمهيد الأرضية لهذه المباحثات المباشرة. تعود هذه النادرة إلى حوالي عقد من الزمن، أي خلال تولي بنيامين نتانياهو رئاسة الوزراء للمرة الأولى. وحينها، كان المحامي إسحاق مولهو، المبعوث الشخصي لنتانياهو، قد انتهى للتو من جلسة عمل ماراطونية مع صائب عريقات، كبير المفاوضين لدى السلطة الوطنية الفلسطينية. وكان تلك المحادثات متوترة للغاية، حتى أن مولهو خاطب عريقات بالقول: «لقد كنت مستفزا لدرجة أنني سأكون قادرا على الإقلاع عن التدخين». وبالفعل، ذلك ما حدث، إذ أقلع المحامي المنحدر من منطقة أريحا عن التدخين، مستعيضا عنه بحصة صباحية لمدة نصف ساعة على البساط المتحرك؟ وها نحن نصادف الرجلين اليوم وهما على استعداد لمعاودة الكرة من جديد، فيوما واحدا قبل الشروع في المفاوضات المباشرة، التي تم تأجيلها لمدة عشرين شهرا، ينال ملهو وعريقات شرف متابعة كواليس الاتفاقات، إن كانت سترى أم لا. عندما حضر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى عمان قبل عدة أسابيع بضغط أمريكي نجح في رسم ملامح الدهشة على وجه المسؤولين الأردنيين الذين استمعوا إليه في القصر الملكي وهو يسوق الإدعاء التالي، «أعتقد في حال انطلقت المفاوضات غير المباشرة، أننا نستطيع إنجاز الأمر والخروج بإتفاق سلام في فترة ما بين 3 و 6 أشهر». فورا شعر الأردنيون بأنهم بصدد «كذبة جديدة» أو لعبة من ألعاب نتنياهو، فالرجل من النوع الذي «يكذب ويمشي» كما يصفه الخبير الأردني الأبرز بشخصيته والتفاوض معه رئيس الوزراء الأسبق عبد الكريم الكباريتي. وقبل الإسترسال في مشهد المفاجأة حصل وزير الخارجية الأردني على الإشارة الأمريكية التي تقول إن نتنياهو يردد عمليا ما طلبه منه الرئيس باراك أوباما وان الكذب حتى الآن يقتصر على قصة الأشهر الثلاثة، فحتى المبعوث جورج ميتشل قال لوزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط لاحقا ‹لا تبالغوا في تصديق نتنياهو نحن نتحدث عن ستة أشهر كفترة مناسبة للتفاوض المباشر على كل القضايا›. في الكواليس الساخنة جدا التي دارت في محيط اجتماع الرباعية الأخيرة كان العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني شخصيا مهتما بمسألة اخرى تماما سقطت في البداية من حسابات الجميع، وهي أن يحضر الرئيس أوباما شخصيا الحفل السياسي المصغر الذي سيجري في واشنطن تحت عنوان إطلاق المفاوضات غير المباشرة. عمان طلبت ذلك بضغط شديد من أوباما فوافق على أن يحضر شخصيا لإضفاء الهيبة على المسألة ثم يتابع التفاصيل عن بعد. وفهم الزعماء العرب أن هيلاري كلينتون هي التي ستقود حلبة المفاوضات فيما كان ميتشيل يطمئن عمان والقاهرة بأنه مستعد لاستخدام تقنية «الكوريدور» إذا لزم الأمر أو عندما يتعقد الموقف بمعنى التجول بين المفاوضين في الأروقة. وقبل أسبوع، توترت الأجواء جدا في رام الله التي كانت تسعى لإقناع مؤسسات السلطة وحركة فتح والمنظمة بأن العودة للمفاوضات تمت على أساس عدم وجود أي تنازل في القضايا الرئيسية، بينما كان محمود عباس وصائب عريقات يفعلان ذلك، صدر التصريح الحساس من هيلاري كلينتون التي قالت بأن المفاوضات تنطلق بدون أي شروط مسبقة. وهناك دخلت عمان على الخط وبكثافة وطوال ساعات مع اتصالات مكثفة جدا قدمت كلينتون تبريرها للأمر حتى يهدأ الفلسطينيون، قالت: فعلت ذلك لغرض مساعدة نتنياهو على الحضور بقوة، فقد حصل عباس على قرار الرباعية الضامن وحصل قبلها على رسالة أوباما. أما نتنياهو فكان يواجه الانتقادات على نحو يومي من خصومه بأنه سيذهب للمفاوضات بدون أي ضمانات مسبقة. على هذا الأساس تقرر ان يتوجه الجميع إلى واشنطن. الهدف من ذلك التمكن من السفر إلى واشنطن يوم الأول من شهر شتنبر لدعم انطلاق المفاوضات ولتوفر غطاء عربي لها. والإنطباع الذي تتحرك المفاوضات المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في فضائه أن مشكلة ملف اللاجئين ليست، وخلافا للإعتقادات السائدة، العقدة الأهم في طريق التوصل إلى اتفاق بعد أسابيع أو أشهر بين الجانبين. والإنطباع في السياق أن مشكلة اللاجئين يمكن التفاهم عليها وفقا لسلسلة من الوثائق الدولية والعربية، لكن أهم ما يقال في دوائر قرار عمان مثلا هو الإشارة إلى أن ما حصل مؤخرا في لبنان من حيث تعزيز حقوق اللاجئين الفلسطينيين قليلا هو ‹بروفة› لما يمكن ان يحصل في أكثر من مكان. الدبلوماسية الأردنية تعتقد أن الحقوق التي أقرها البرلمان اللبناني مؤخرا للاجئين ليست بعيدة عن سياق التصور الذي تقترحه إدارة الرئيس باراك أوباما للحل، خصوصا وأن بعض القرارات التي كانت شبه مستحيلة مرت بهدوء عبر بوابة البرلمان اللبناني. وحتى على هامش التحضيرات التي جرت في عمان ورام الله لالتحاق وفد رسمي أردني بقطار المفاوضات المباشرة في واشنطن مع مطلع هذا الشهر، فإنه يعتقد أن المفاوضات تعقد في ظل انطباع جماعي بأن ملف اللاجئين بكل ترجيح لن يكون السبب في تعطيل اتفاق بعد هذه المفاوضات. ثمة مساحة أخرى مرتاحة في السياق ويعتقد ان برنامج المفاوضات سيبدأ منها أصلا حسب التصور الذي وضعه فريق الرئيس أوباما، المبعوث جورج ميتشل قال للأردنيين: سنبدأ بالقضايا الأسهل لترتيب أجواء من الارتياح والثقة وسأكون موجودا مع هيلاري. الملف السهل هنا وفقا للتصور الأمريكي ملف الحدود والأمن وما قد يتضمنه من تبادل للأراضي، حيث قيل للطرفين إن المفاوضات في هذا المحور ستبدأ من حيث انتهت إليه خارطة الطريق. ملف الأمن سيكون الأسهل، حيث حصلت السلطة الفلسطينية على موقع متصدر في برنامج «الأهلية الأمنية» الذي وضعته الإدارة الأمريكية السابقة ويتشكل من 14 نقطة، يعني ذلك ان سجل السلطة الأمني بالنسبة للأمريكيين «مشجع» ويمكن البناء عليه والتفاهمات الأمنية بقيت ديناميكية رغم انقطاع المفاوضات. عند البحث في التفاصيل يتضح أن نتنياهو يشيد بالدور والأداء الأمني لأجهزة عباس ويعتبرها نجحت في تأسيس مصداقية، على هذا الأساس تتحرك المفاوضات تحت انطباع بأن ملف الأمن سيكون من الملفات السهلة. وفي البعد التنظيمي من الواضح أن خطة المفاوضات رتبت في مكتب أوباما لتشمل أربع مراحل متلازمة يتم في الأولى والثانية غلق ملف تبادل الأراضي والحدود والأمن ثم الإنتقال في الثالثة لحسم ملف اللاجئين بصيغة عادلة ومنصفة تتضمن آلية العودة والتعويض معا. وتبقى المرحلة الرابعة التي يصفها المبعوث الأمريكي ميتشل بالمرحلة المرعبة وهي التي يعتقد انها ستثير إشكالا عاصفا وهي مسألة ملف القدس، فالمفاوضات ستنطلق دون خطة محددة معتمدة لدى الأطراف في موضوع القدس.