سار في نفس الدرب الوعر الذي عزم على السير فيه منذ بدأ مشواره الصحفي في جريدة لوموند الفرنسية متحديا بذلك العراقيل التي وضعت أمامه في سبيل كشف الحقائق والأسرار...، تحدّى الجميع من الأصدقاء والأعداء في سبيل تحقيق أهدافه النبيلة....، نجح في تهدئة الجميع في بريطانيا عندما ثاروا عليه بعد توقيعه لكتابه «ديانا... موت معلن Diana une mort annoncée»، نظرا إلى كشفه أسرار اغتيالها وصديقها دودي الفايد، وأغضب بذلك الملكة نفسها التي مكنته بعدئذ من كتابة سيرة حياتها في هذا الكتاب الذي حمل عنوانها «إليزابيث الثانية: آخر الملكات»، فاعتبرها جائزة ترضية لمسايرة المجهول من جديد دون خوف أو رادع حتى خرج بعدئذ بكتاب آخر جديد عن الأسرة الملكية البريطانية حمل عنوان «Un menange à trois» الذي أشار فيه بوضوح إلى علاقة الأمير تشارلز بعشيقته كاميلا التي أرجع إليها السبب في طلاقه من أميرة القلوب ديانا. إنه الكاتب والصحفي البلجيكي مارك روش (ولد في بروكسيل عام 1952) الذي بدأ حياته كمراسل لصحيفة «لوموند» الفرنسية في العاصمة البريطانية لندن، وتمكن من الحصول على ثقة ساكنة قصر باكنغهام الملكة إليزابيث حينما لفظت له بأولى أسرارها التي أخذ في تدوينها بين دفتي كتابه الذي أزالت فيه الستار عن خبايا وأسرار آخر ملكات القرن الواحد والعشرين، تلك الملكة الخجولة والجميلة والمتواضعة في تحصيلها العلمي التي استطاعت أن تحافظ على واحدة من أكثر المؤسسات التي عفا عليها الزمن منذ وقت قريب، ألا وهي المؤسسة الملكية لتكون آخر الملكات دون منازع.. شر الصحافة والإعلام كانت الملكة ولا زالت تحرص على وضع اللمسات الأخيرة على أي زيارة لها داخل المملكة أو خارجها، بدءا من حراسها الشخصيين الذين تم اختيارهم من أكفأ الضباط والحراس الذين يتناوبون على حراستها طيلة اليوم وعلى مدار الساعة، ونزولا عند طبيعة برنامج الزيارة الذي يجب أن يتصف بالعظمة والبساطة والديمقراطية والوحدة الوطنية، أو بطبيعة الوجبات التي ستقدم لها والتي كانت تختارها بعناية فائقة، خاصة ما يتعلق منها بالأسماك والحليب وحلوى البرتقال التي يجب تناولها يوميا، كما تعير الانتباه جيدا لرجال الصحافة وكاميراتهم والتي تعتبرها شرا لا بد منه محاولة أن تظهر دائما بابتسامة جميلة (لكنها مصطنعة) كلما اشتغلت الأنوار الكاشفة أو تراءى لها أحد الصحفيين في أي من تظاهراتها ونشاطاتها التي تبلغ 509 نشاطات سنويا والتي تم تقليصها في الفترات الأخيرة، نظرا إلى تقدم سنها، إلى 425 تظاهرة ونشاطا. لا تطيل الملكة إليزابيث الثانية الحديث أبدا مع الآخرين، وفي كثير من الأحيان لا تزيد الكلمات التي تتلفظ بها عن بضع مفردات تعد على أصابع اليد الواحدة. وهذا الأمر ليس بمقدورنا الالتزام به، ولكنه بروتوكول آخر من بروتوكولات عالم الملوك الواسع الذي يعج بالأسرار والحكايات، خاصة في حياة إليزابيث التي تنطق فقط بجملتين لا ثالث لهما أثناء الحديث مع الشخصية التي تقلدها الوسام أو الجائزة وتلجأ بسرعة متناهية إلى قطع الحديث معها بابتسامة صغيرة، خاصة إذا ما اكتشفت أن محدثها ثرثار كثير الكلام. فإذا كان للحكومة البريطانية الحق في اقتراح غالبية الأسماء التي سيتم تقليدها أحد الأوسمة، ويبقى على القصر تاليا قبول القائمة المرشحة دون اعتراض أو تعليق، فإن الملكة وضعت بصماتها هي الأخرى هنا على غرار ما كان جاريا به العمل سابقا (لدى الملوك السابقين) لتضع لنفسها الحق الحصري في اختيار أسماء المتوجين بالألقاب والأوسمة الملكية الرفيعة فقط وهي: وسام الساق (أقدم وسام فروسية في بريطانيا) ووسام الاستحقاق ووسام الإمبراطورية البريطانية الفخري. ولعل القصد من ذلك، حسب الملكة نفسها، وضع حد للفضائح التي عرفتها طريقة منح أوسمة الشرف الملكية على مدار الأعوام السابقة، حيث يتم اللجوء إلى المحسوبية والفساد والرشوة للحصول عليها. تقول الحكاية إن كونتيسة ساليزبوري أضاعت واحدة من ربطتي ساقيها وهي تراقص الملك إدوارد الثالث خلال حفل استقبال أقامه عام 1348...، لكن سرعان ما رآه الملك والتقطه من بين أرجل الحاضرين الذين انفجروا ضحكا ليصرخ بأعلى صوته قائلا: «سيتشرف من يضحكون الآن بلبس واحدة شبيهة بهذه الربطة، ذلك أن الشرف الذي سيناله هذا الشريط سيدفع كل الساخرين إلى البحث عن طريقة تمكنهم من الحصول عليه ». طريقة خاصة للوقوف كان وسام الساق يعد من أسمى الأوسمة الملكية البريطانية، وقد جرت العادة على منحه لولي العهد ولعشرين من كبار القوم والشخصيات الذين يتم اختيارهم بعناية فائقة، وبالتالي كانت الملكة إليزابيث تحرص على إدامة هذا التقليد، لكن بطريقتها الخاصة كما أشرنا إلى ذلك (حريتها في اختيار الشخصيات الثلاث الأولى التي ستتقلد تلك الأوسمة).. تقف في استقبال الحاضرين لمدة ساعة من الزمن دون أن تبدي أي إشارة تدل على مللها أو ضجرها رغم أنها أسرت يوما لأحد الصحفيين بأنها تعودت على الوقوف وأضحت معتادة على ذلك.. لكن رغم ذلك، فإن للملكة طريقتها في الوقوف، فهي تقف ورجلاها متوازيتان حتى يتوزع وزن جسدها عليهما بالتساوي، وتحرص على تطبيق المبدأ ذاته خلال الاحتفال التقليدي الذي يحتضنه القصر صيفا، حيث البروتوكول المنضبط جدا الذي يقدم بموجبه قائد الحفلة إلى الملكة عددا من الشخصيات والمدعوين الذين يتم انتقاؤهم بعناية فائقة بعد أن يتقدم أعضاء عائلة ويندسور في اللحظة ذاتها في اتجاه الخيمة الملكية المزينة بأبهى الحواشي، لينتهي الجزء الرسمي من الاحتفال بمجرد دخول الملكة إليزابيث الخيمة واحتسائها كأسا من الحليب الطازج ممزوجا ببعض من الشاي... لتستمر بعد ذلك الحفلة في غياب الملكة التي لا يراها المدعوون فيما بعد، بتوزيع 27 ألف كأس شاي، و6000 فنجان قهوة، و12 ألف قنينة عصير و20 ألف ساندويتش مشكل من الخيار والجبن ومرتديلا السمك والكبد، بالإضافة إلى 17 ألف قطعة من الحلوى التي يقدمها رجال الخدمة الذين يبلغ عددهم أكثر من 400 نادل، يجندون لهذه الغاية منذ بداية الحفل حتى الدقائق الأخيرة منه على إيقاع موسيقى هادئة تعزفها فرقتان موسيقيتان قبل أن يعزف النشيد الوطني في الساعة السادسة، كأقصى حد، ليشعر الجميع بموعد النهاية والانصراف... لا مصافحة ولا قبلات كانت تلك التقاليد والأعراف التي تمسكت بها الملكة إليزابيث قد أظهرت للجميع صرامة الملكة وشدتها، حيث لا أحد يكاد يجرؤ على مصافحتها أو تقبيلها سوى أفراد أسرتها فقط ومتى رغبت هي في ذلك، فتمسكها بالمظاهر الخارجية، كالابتسامة والضحك في وجه الجميع أثناء الحفل أو المهرجان أو الاجتماع مثلا، لا يعني أن الملكة تحب هؤلاء أو تريد إقامة علاقة مع أحدهم كما يبدو للبعض أحيانا، بل على العكس تماما، فهذا يعني أن لدى الملكة التزاما بالبروتوكول والإيتيكيت فقط، فلا التصاق بالمدعوين ولا مصافحة ولا قبلات إطلاقا، وهي تبدو حذرة جدا في مثل هذه الأمور وتترك دائما مسافة معينة بينها وبين الآخرين.. فباستثناء أفراد عائلتها، لا أحد يدعو الملكة ب«ليليبيث»، وهي الكنية التي أطلقها عليها والداها، فيما يكتفي الباقون من أصدقائها المقربين بدعوتها «مام»، كما أن لا أحد يستطيع الذهاب إلى النوم قبلها خلال الأمسيات التي تتناول فيها العشاء مع أفراد أسرتها، تواظب على الخروج والدخول أولا، ولا أحد يستطيع الجلوس في مقاعدها الخاصة، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالأريكية المفضلة لديها التي كانت تجلس عليها الملكة فيكتوريا. بمعنى آخر وحسب ما أورده الصحفي «والتر باجو» في تحديده لأسس الملكة البريطانية: «إليزابيث هي الملكة التي تأتي إليكم وليس العكس ». وجهان لملكة واحدة يقول روش بعد أن التقى الملكة لمرات عديدة وأخرج هذا الكتاب: «على غرار الملكات الأوربيات السابقات، كانت للملكة إليزابيث قدرة فائقة على التحديق في أعين الآخرين، فبنظرة واحدة فقط تتمكن من إفهامهم أنهم يحاولون الذهاب بعيدا معها وبنظرة مماثلة تستطيع إسكاتهم وإبعادهم عنها، وعندما يقترح عليها أحد محدثيها أمرا تعاكسه وترى الأصح في نقيضه، فإنها لا تقول أبدا كلمة «لا» وإنما تجيب دائما بقولها «أتظنون أنه أمر جيد؟»، فمثل هذه الكلمة تعني من طرف مستشاريها رفضا مطلقا من لدنها وأتذكر جيدا ما سمعته من أحد المقربين إلى الملكة من أنه في إحدى الحفلات التي أقامتها الملكة ودعي إليها الوزير الأسترالي «بول كيتينغ» ذات مرة، والذي تجرأ على وضع يده على ظهرها، واجهته الملكة بنظرة حاقدة تشبه نظرة القاتل وهو يجهز على فريسته، هكذا كانت الملكة إليزابيث تحمل وجهين دائما ولا تظهر ملامحها مرة واحدة أبدا، فأما الوجه الأول فيعبر عن برود في شخصيتها، وأما الثاني فيكشف عن حذرها وغرابتها، وغالبا ما لا يتعرف من يقابلها على الوجه الذي تفضل الظهور به أمامه». يقول روبرت لاسي، صاحب كتاب «جلالة الملكة» الذي حقق أعلى المبيعات في بريطانيا: «تعتمد الملكة على آلية خاصة لحماية نفسها، وقد جستها في القوقعة التي شيدتها من حولها ومكنتها من تجاوز العديد من الأزمات..، فالملكة تعرف جيدا مكانتها وتمثل المصالح العليا للأمة، ومثل هذا الأمر خلق بعض المشاكل بينها وبين الأميرة الراحلة ديانا التي لم تتفهم ضرورة الحفاظ على مسافة معينة بينها وبين الجمهور، بل إن تلك المشاكل زادت بين الطرفين بعد رفض الملكة طلب ديانا أن يقطع تشارلز علاقته بصديقته كاميلا، وبعد ارتباط ديانا بالمصري دودي الفايد... لكنها رغم ذلك بكت بحزن عميق بعد وفاتها وأثناء مراسيم جنازة أميرة القلوب، ووقفت الملكة إليزابيث طويلا فيما بعد تمعن النظر في بقايا إقامة ديانا بحسرة شديدة تقابل تلك الحسرة التي حصلت لها وهي تتمعن في بقايا إقامتها المفضلة في ويندسور بعد الحريق المهول الذي وقع فيها في 20 نوفمبر 1992». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب