كل التفاصيل الصغيرة مازالت تذكرها: كيف تلقت نبأ الحمل وكيف بدا لها ابنها عند الولادة صغيرا للغاية كأنه لعبة.. مازالت تذكر فرحتها به: حروفه الأولى وضحكاته وأنامله الصغيرة جدا إلى درجة تبعث على العطف، خطواته المتعثرة وسقوطه المتكرر. انزعاجها من نوبات الإسهال وارتفاع الحرارة.. كيف كان يبكى كل صباح وهي تغسل وجهه وتسرح شعره بعناية ثم تلبسه المريلة وتوصله إلى المدرسة قبل أن تذهب إلى عملها.. شقاوته في المرحلة الابتدائية وميله إلى التمرد في الإعدادية بعد أن اخشوشن صوته وظهرت عليه أعراض البلوغ. معركة الثانوية العامة التي خاضتها معه باستماتة.. اقترضت من أقاربها لتسدد ثمن الدروس الخصوصية. مازالت تذكر فرحتها بمجموعه المرتفع وتلك الورقة الصفراء من مكتب التنسيق المكتوب فيها أنه مقبول في كلية الهندسة جامعة القاهرة.. تتذكر زهوها وهي تتابعه من خلف شيش النافذة وهو ذاهب إلى الكلية حاملا المسطرة الكبيرة في يده، كانت تقرأ المعوذتين لئلا يحسده أحد وتحس بأن الله راض عنها.. بعد ولد وبنت جاء هذا الولد «غلطة» كما تهمس بحرج أحيانا لصديقاتها، لكنه أحبُّ الأبناء وأجملهم. الولد والبنت كبرا وتزوجا وتوفي زوجها منذ عامين، لكن ابنها معها دائما كأنما يعيد إليها شبابها ويجدد فرحها.. في يوم الجمعة لم توقظه، تعمدت أن تتركه نائما حتى لا ينزل إلى الشارع. كانت خائفة عليه وفي نفس الوقت غير قادرة على منعه. استيقظ متأخرا فقفز من الفراش وعاتبها لأنها تركته نائما. كذبت عليه وقالت إنها نسيت.. اغتسل بسرعة وارتدى ثيابه.. كم يبدو كل هذا غريبا الآن.. لماذا كان يتعجل النزول ولماذا اعترضت طريقه وصاحت في وجهه: - رايح فين.. الصلاة خلصت. لم يغضب، لكنه ابتسم وتألقت عيناه واحتضنها بقوة.. كيف استجابت له ونسيت مخاوفها، ولماذا تعلقت به وغمرته بالقبلات حتى دفعها برفق وقبّل يدها ثم استدار وانصرف.. مازالت تسمع صوت الباب يُغلَق وترى نفسها وهي تدخل إلى المطبخ، وقفت تعد له الأكلة التي يحبها. كانت تغرق قطع الدجاج في الخلطة ثم البقسماط، وبعد ذلك تلقيها في الزيت الساخن، كانت تفعل ذلك بانفعال يشبه المرح وتتخيله وهو يلتهم قطع الفراخ بينما هي ترقبه برضى. خُيّل إليها أن صوتا ما ينبعث من الخارج وتذكرت أنها تركت تليفونها المحمول في الصالة، أخرجت الدجاج من الزيت وأغلقت النار ثم جففت يديها بسرعة وهرعت لترد.. كان الرقم غريبا وقال صوت شاب إنه صديق ابنها، وأكد لها أنه بخير لكنه تعبان وهو في مستشفى قصر العيني، آخر ما تذكره هو شكل القماش المنقوش للمقعد الذي كانت تحدق فيه.. كيف ارتدت ثيابها واستوقفت سيارة أجرة وماذا قال لها السائق عن حسني مبارك وكيف ردت عليه.. كل هذه التفاصيل انطمست في ذهنها واختلطت كأنها وشيش غير مفهوم.. لن تنسى أبدا وجه موظف الاستقبال في المستشفى.. أخبرته باسم ابنها الثلاثي ثم استطردت: - أنا والدته. زميله اتصل وقال لي إنه تعبان ومحجوز عندكم. استغرق الموظف وقتا. أطال النظر في الدفتر ثم رفع رأسه ببطء وقال: - ابنك استشهد.. البقية في حياتك. لم تصرخ. تطلعت إلى الموظف وكأنها لا تفهم.. لم تصدق.. كانت متأكدة أن هناك خطأ ما.. لا يمكن أن يكون هذا ما حدث.. «استشهد». ما معنى هذه الكلمة. لقد خرج من البيت وسوف يرجع وهي قد أعدت له قطع الدجاج بالطريقة التي يحبها. إنهم مخطئون بلا شك.. قصر العيني مثل كل المستشفيات العامة. منتهى الإهمال. صاحت هذه المرة بصوت عال: من فضلك، تأكد من الاسم. تطلع إليها الموظف بحزن ثم أدار نحوها الدفتر.. كان اسم ابنها مسجلا في صفحة كتب عليها بخط كبير متعجل «قائمة المتوفين».. عندئذ فقط صرخت.. ظلت تصرخ وتلطم وجهها حتى اجتمع حولها العاملون وأهالي المرضى.. سيدات لا تعرفهن رُحن يواسينها ويحتضنّها وهن يبكين.. بعد دقائق كانت في مشرحة المستشفى. همس العامل معزيا ثم سار وهي تتبعه حتى توقف وفتح باب الثلاجة وجر بيديه مستطيلا خشبيا كان ابنها راقدا عليه.. رفع العامل الغطاء عن وجهه. بدا لها كأنه نائم، تماما كما رأته آخر مرة. نفس الطقم الذي اشتراه في العيد، البنطلون الجينز والقميص الأبيض والبلوفر الكحلي.. كان وجهه هادئا وكأنه على وشك الابتسام. الفرق الوحيد هو ذلك الثقب. ثقب أسود غريب كأنه مرسوم بعناية في منتصف المنطقة بين الحاجبين.. عرفت بعد ذلك الحكاية.. كان ابنها في المظاهرة وبدأ الرصاص الحي ينهمر على المتظاهرين.. سقط متظاهرون حول ابنها فكان يهرع إليهم ليسعفهم.. قام بجر أول مصاب إلى سيارة خاصة لتنقله إلى المستشفى ثم اعتدل واقفا وتوجه لحمل مصاب آخر. عندئذ بات وجهه في مجال عدسة القناص تماما. صوّب القناص إلى نقطة بين الحاجبين وضغط الزناد فانطلقت رصاصة اخترقت الجمجمة وانتهى كل شيء. سقط ابنها. مات. رصاصة واحدة تساوي حياة بأكملها. ضغطة على الزناد تنتهي عندها الذكريات والأحلام، يستوي بعدها الحزن والفرح والتاريخ والمستقبل. الذي قتل ابنها ليس من جيش الأعداء وإنما هو مواطن مصري تدرب طويلا حتى يقتل المصريين بدقة واحتراف.. وجه ابنها المثقوب بالرصاص هو الحقيقة وكل ما عدا ذلك غبار يتطاير أمام عينيها..