لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المولى جل وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المهمة الجليلة،هم رجال تغلغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم هم ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا لخدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المسلمين المضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضاة الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام وتفضيله على متاع الحياة الدنيا، رجال ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون، وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ....»
هو يوسف بن تاشفين ناصر الدين بن تالاكاكين الصنهاجي (1006-1106) ثاني ملوك المرابطين بعد عمه أبي بكر بن عمر، القادم من بلاد موريتانيا الذي لقب بأمير المسلمين»، بعد تأسيسه لأول إمبراطورية في الغرب الإسلامي التي امتدت من حدود تونس حتى غانا جنوبا والأندلس شمالا والتي أنقذها (أي الأندلس) من ضياع محقق بمعركة الزلاقة بعد أن استنجد به أمير اشبيلية.
يقول كتاب «الكامل في التاريخ» لابن أثير: «كان يوسف بن تاشفين حليما كريما ديّنا خيّرا يحب أهل العلم والدين وتحكمهم في بلاده، ويبالغ في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند سماع الموعظة لأن قلبه لها، نشأ محبا للعفو والصفح عن الذنوب العظام، استجمعت فيه خصائل الخير وجوامع الفضيلة ما ندر أن يوجد مثلها في شخص مثله، فيوسف بن تاشفين أبو يعقوب لا يقل عظمة عن يوسف بن أيوب الملقب بصلاح الدين الأيوبي، فإذا كان الثاني قد ذاع صيته في المشرق الإسلامي وهو يقارع الصليبيين ويوحد المسلمين، فإن الأول قد ذاع صيته وانتشر أمره في المغرب الإسلامي وهو يقارع الإسبان النصارى والمارقين في الدين وملوك الطوائف ويوحّد المسلمين في زمن كانوا فيه أحوج ما يكونون إلى أمثاله.
ظروف حكم معقدة
كانت الظروف السياسية التي سادت زمنه غاية في التعقيد وغلب عليها تعدد الولاءات وانقسام العالم الإسلامي وسيطرة قوى متناقضة على شعوبه، ففي بغداد كانت الخلافة العباسية من الضعف بمكان بحيث لا تسيطر على معظم ولاياتها، وفي مصر ساد الحكم الفاطمي، وفي بلاد الشام بدأت بواكير الحملات الصليبية بالنزول إلى سواحلها، وفي الأندلس استعرت الخصومة والخيانة وعمّ الفساد بين ملوك طوائفها، أما في بلاد المغرب الإسلامي (حيث نشأ وترعرع) فقد كانت قبائل مارقة من الدين تسيطر على الشمال المغربي وتحصّن مواقعها في المدن الساحلية كسبتة وطنجة ومليلية التي بقيت من آثار الدولة العبيدية الفاطمية التي تمثلت في جزء منها بإمارة كانت تسمى «الإمارة البرغواطية» التي سيطرت على شمال المغرب وبنت أسطولا قويا لها وحصّنت قواتها البحرية المطلة على جبل طارق.
ففي عام 445 هجرية أسس عبد الله بن ياسين حركة المرابطية (الرباط في سبيل الله) وبعد عشر سنوات تسلم يوسف بن تاشفين قيادة الحركة التي بدأها بتعمير البلاد وحكمها بالعدل والقسطاس المستقيم يختار رجالا من أهل الفقه والقضاء لتطبيق الإسلام على الناس مهتما ببناء المساجد باعتبارها مراكز دعوة وانطلاق وتوحيد للمسلمين تحت إمارته، ثم بدأ يتوسع شرقا وغربا وجنوبا حتى كانت المواجهة بينه وبين الإمارة البرغواطية أمرا لا مفر منه، فاستعان ابن تاشفين بالمعتمد بن عباد (احد أمراء الأندلس الصالحين) لمحاربة البرغواطيين فأمده المعتمد بقوة بحرية ساعدته للقضاء على تلك الإمارة واحتلالها موحّدا المغرب بأكمله حتى الجزائر شرقا وغانا جنوبا عام 476 هجرية.
معركة الزلاقة
بعد أن قوي ساعده واستقرت دولته، لجأ إليه مسلمو الأندلس طالبين الغوث والنجدة حيث أصبحت أحوالهم تسوء يوما بعد يوم، فملوك الطوائف لقبوا أنفسهم بالخلفاء وخطّبوا لأنفسهم بالمنابر وضربوا النقود بأسمائهم وأصبح كل واحد منهم يسعى للاستيلاء على ممتلكات صاحبه ولا تضره الاستعانة بالإسبان النصارى وأعداء المسلمين لتحقيق أهدافهم (كان ملوك الطوائف قد استنابوا الفساق والفساد واستنجدوا بالنصارى وتنازلوا لهم عن مداخل البلاد ومخارجها...)، فاستجاب ابن تاشفين لطلب المسلمين المستضعفين، وفي ذلك يقول ابن العربي: « فلباهم أمير المسلمين ومنحه الله النصر والجّم الكفار السيف واستولى على من قدر عليه من الرؤساء من البلاد والمعاقل وبقيت طائفة من رؤساء الثغر الشرقي تحالفوا مع النصارى فدعاهم أمير المؤمنين إلى الجهاد أو الدخول في بيعة الجمهور، فقالوا له لا جهاد إلا مع إمام من قريش ولست به أو مع نائبه وما أنت بذلك، فقال: أنا خادم الإمام العباسي، فقالوا له اظهر لنا تقديمه إليك، فقال: أو ليست الخطبة في جميع بلادي له؟، فقالوا ذاك احتيال ومردّوا إلى النفاق.
وحتى يكون ابن تاشفين أميرا شرعيا أرسل إلى الخليفة العباسي يطلب منه توليته، يقول السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: «وفي سنة تسع وأربعين أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سبتةومراكش إلى المقتدي يطلب أن يسلّطنه وأن يقلّده ما بيده من البلاد، فبعث إليه الخلع والإعلام والتقليد ولقبه بأمير المسلمين، ففرح ابن تاشفين بذلك وسرّ به فقهاء المغرب، فسارع ابن تاشفين للدخول إلى الأندلس شمالا رفقة المعتمد بن عباد وقاد الجيش الإسلامي وقاتل النصارى قتالا مريرا في معركة الزلاقة(وقعت معركة الزلاقة أو معركة سهل الزلاقة في الثالث والعشرين من أكتوبر 1086 بين جيوش المسلمين متحدة بالمرابطين (بقيادة يوسف بن تاشفين) وجيش المعتمد بن عباد(ملك اشبيلية في عهد ملوك الطوائف) ضد قوات الملك القشتالي «الفونسو السادس»، التي انتصر فيها المسلمون وأوقفت بموجبها زحف النصارى المطرد على أراضي ملوك الطوائف الإسلامية وأخرت سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس لمدة تزيد عن قرنين ونصف) اكبر المعارك التي انتصر فيها المسلمون انتصارا كبيرا على النصارى الإسبان وهزم ملكهم «الفونسو السادس» هزيمة نكراء موحدا بذلك الأندلس (بعد أن خلع ملوك الطوائف) لتصبح أكبر ولاية إسلامية في دولة الخلافة.
يقول صاحب الحلل الموشية: «ولما ضخمت مملكة يوسف بن تاشفين واتسعت عمالته، اجتمعت إليه أشياع قبيلته وأعيان دولته وقالوا له: أنت خليفة الله في أرضه وحقك أكبر من أن تدعى بالأمير بل ندعوك بأمير المؤمنين، فقال لهم : حاشا لله أن نتسمّى بهذا الاسم، إنما يتسمّى به خلفاء بني العباس لكونهم من تلك السلالة الكريمة ولأنهم ملوك الحرمين مكة والمدينة، وأنا رجلهم والقائم بدعوتهم»، فقالوا: لا بد من اسم تمتاز به، فأجاب إلى أمير المؤمنين وناصر الدين، وخطب له بذلك في المنابر وخوطب به مع العُدّوتين(أي المغرب والأندلس). قبل أن يتوفى متأثرا بمرضه ويدفن بمدينة مراكش سنة 498 هجرية.
يقول يوسف اشباخ في كتابه «تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين»(ترجمة الأستاذ محمد عنان بالقاهرة 1958): «... يوسف.. أحد أولئك الرجال الأفذاذ الذين يلوح أن القدر قد اصطفاهم لتغيير وجهة سير الحوادث في التاريخ، فقد بثَّ بما استحدث من نظم وأساليب روحًا قوية في القبائل والشعوب التي يحكمها، وقد فاضت هذه الروح إلى تحقيق العجائب».