ابتكرت مظاهر التمرد والاحتجاج، التي تعرفها الكثير من البلدان العربية، ضمن ما سمي «الربيع العربي»، «استثمارا» جديدا للفضاء العمومي، بشوارعه وساحاته، وإعادة تقسيم مغايرة للفضاء، تتجاوز التقسيم الموروث منذ سنوات عديدة عن السلط والأنظمة السياسية الاستبدادية. لقد «حرّرت» أنظمة الاحتجاج والتمرد والمقاومة الفضاء من انتظامه التقليدي في شكل إداري معين، وأسست لعلاقة جديدة ومتميزة مع المجال العمومي، اخترقت نظام المدينة، كما أسستها ونظمتها السلطة. يكفي أن ننظر إبان الانتفاضة التونسية إلى تحول شارع 7 نونبر، كما سماه نظام بنعلي، إلى شارع 14 نونبر، تاريخ بداية الانتفاضة، وإلى الدور الهام الذي لعبته «ساحة التحرير» في قلب القاهرة. معنى هذا أن التراب الوطني، الذي سهرت الأنظمة القمعية لعقود طويلة على تأطيره وتوزيعه توزيعا أمنيا ووظيفيا، قد تغير محتواه، إلى حد ما، وصار الجسد الفيزيقي للجماعة البشرية، أي للحشود التي تتواجد داخله بشعاراتها وطقوسها وممارساتها الاحتجاجية اليومية. إن العلاقة مع الشارع العمومي لا تنتظم سياسيا فقط، بل تنتظم أنثروبولوجيا أيضا، لذا فإن رمزيته تتغير مع تحولات المحتوى الأنثروبولوجي والسياسي، الذي تمنحه إياه الجماعة والحشود التي تملؤه وتستثمره وتمارس فيه وجودها اليومي. انطلاقا من هذا، يمكن القول إن مظاهر التمرد والاحتجاج المنتشرة الآن قد أسست لسيميوطيقا ثورية للفضاء، تتجاوز السيميوطيقيا البارانوية الاستبدادية، التي كانت تهيمن عليه كلية، حين كان محتكَرا من طرف السلطة وأجهزتها فقط. يحيلنا هذا، بالضرورة، على الوقوف عند مفهوم «الشعب»، خصوصا أن هذا «الاستثمار» الجديد للشارع كفضاء للتمرد والاحتجاج يتم من طرف الشعب، بمختلف مكوناته، وخصوصا منها تلك المعنية مباشرة بالاحتجاجات. يعتبر الشعب، عموما، اصطلاحا جماعيا من الصعب تحديده، نظرا إلى اختلاف السياقات الزمنية والأمكنة وأنظمة الحكم، وفي المدخل المعجمي لقاموس «Le Robert»، الخاص بكلمة «شعب»، نجد ثلاثة تعريفات، يقول التعريف الأول إن «الشعب هو مجموعة الناس الذين يعيشون داخل المجتمع ويسكنون ترابا محددا ويشتركون في مجموعة من العادات والمؤسسات». أما التعريف الثاني فيرى أنه «مجموعة الأشخاص الخاضعين لنفس القوانين، والذين يشكلون جماعة»، بينما يذهب التعريف الثالث إلى القول إن «الشعب هو الحشد من الأشخاص المجتمعين»... إن مفهوم «الشعب» يظل غامضا، موزعا بين عوامل الوحدة الاجتماعية (الشعب الموحد) وعوامل التجزئة (الأقليات الفعالة) ولكنه، مع ذلك، يظل مفهوما حيويا. لقد أسهم العصر الحديث، بقوة، في نحت تمييز مرعب بين الفرد، القادر على التعبير عن اختيارات عقلانية، والحشد الذي تحركه المشاعر والعواطف، ولهذا السبب، ظل مفهوم «الشعب» في الفلسفة السياسية مثار نقاش وجدل. لقد سمحت المظاهرات ببناء فضاء عمومي حقيقي مع توالي الزمن، تكون المطالب والاحتجاجات داخله مسموعة ومرئية، حيث يحتج الشعب، المقصي من قواعد اللعبة السياسية، ويتمرد ويفرغ كوامن غضبه. لقد تم نحت مفهوم الشعب قانونيا عبر مسألة السيادة، لأنه يتوفر على عدد معين من الحقوق الأساسية المعترَف بها في الدستور، وهذا الأمر بالذات هو الذي أدى إلى طرح مشكلة العلاقة بين الشعب وحقوقه. إن الشعب لا يمتلك المكان الذي يتم عبره تحرير الفضاء العمومي وتحرير الكلام داخله للتعبير عن الغضب. إن العلاقة بين الشارع والشعب ليست قديمة جدا، كما أنها تختلف باختلاف الثقافات السياسية. يسهم الشارع في تحويل احتجاجات الحشود إلى مظاهر وممارسات مرئية، لأنه المكان الوحيد الذي يصير الحق في المقاومة داخله ممكنا ومؤكدا. لكن السؤال الذي يظل مطروحا هو: هل المظاهرات، كوسيلة شرعية للمطالبة بتغييرات سياسية واجتماعية، هي فقط وسيلة للضغط على الحاكمين؟ إن الشارع، عبر توظيفه الاحتجاج والتمرد، يُغيّر وظيفته من مجرد مجال حضري للعبور وللتجارة والحياة اليومية، ليُعبّر عن مطالب شعبية لا تسهم، بالضرورة، في بناء إرادة جماعية، ولكنها تكشف بدائل ومخارج ممكنة. كانت المظاهرة في القرن ال18 تعبيرا عموميا عن شعور أو رأي، ولكنها صارت في القرن ال19 معادلا مرئيا لقصدية سياسية، حيث تغيرت الشعارات والطقوس. لقد بيّن يورغن هابرماز كيف أن الرأي العام ارتبط في القرن ال19 بالإعلان وبالصالونات البورجوازية. لقد تأسس الرأي، أولا، كمحكمة خاصة بجماعة اجتماعية، قبل أن ينتشر داخل شرائح المجتمع كلها، ومنذ 1830 وحتى كومونة باريس سنة 1848، صارت المظاهرة معطى مألوفا إبان القرن ال19، سواء كانت سلمية أو دموية. وقد لعب تطور الصحافة دورا في اتساعها وانتشارها. يصير الشعب، هذا المفهوم المتعذر تحديدُه، مصدرَ خوف حين يتجمع في كيانات جماعية، لأن العدد يصير مصدر قوة. لقد تماهى الشارع مع التمرد الراديكالي وصار الوسيلة الوحيدة للضغط على الحاكمين، وكانت المشكلة المطروحة هي التوفر على ناطق باسم الحشود، لا يستسلم بسهولة لإغراءات التمثل الإشهاري أو التمثيلية السياسية، لأن الأمر يتعلق بإيصال مَطالِبَ جماعية. إن تاريخ المظاهرات يُبيّن، بالملموس، التطور التدريجي الذي مرت منه، قبل أن تحتل الفضاء العمومي للمدينة، أي الشوارع والساحات لتخضع لإجراءات مقننة، أفقدتها عفويتها وفاعليتها. يشير بيير فافر إلى أن المظاهرة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: أولا المظاهرة الافتتاحية، التي لا تكون لها تمثيلية في الحقل السياسي. ثانيا: مظاهرة الأزمة، التي تدفع المتظاهرين إلى الوقوف وجها لوجه أمام السلطات السياسية. وثالثا: المظاهرة المألوفة، المتوقَّعة، والمرتبطة برمزية مؤسسة في الماضي، مثل مظاهرة فاتح ماي. تكون المظاهرات الافتتاحية (مثل ماي 1968) ذات علاقة مع المستقبل وتكون أكثر راديكالية من غيرها وتعتمد في ممارستها على شكل معين للعنف، لذا فإنها تثير اهتمام الحاكمين والساكنة أكثر من غيرها. هنا، في كل مظاهرة، يكون هدفها تحريك الأحاسيس الجماعية مجموعة من الطقوس، كالغناء والصراخ والاحتجاج والتأكيد والصفير وإعلان الغضب صراخا، وتوظف مجموعة من «الرموز»، كالشعارات واللافتات والرايات والرسوم الكاريكاتورية والجمل التي ترددها الحشود.. وقد كانت «ساحة التحرير»، في قلب القاهرة، وشوارع تونس العاصمة مختبرا تجريبيا لهذه الطقوس والرموز. انطلاقا من هذا، يعاد ابتكار الفضاء العمومي داخل رمزية ثورية جديدة (دور الرسوم الجدارية أو فن الغرافيتي في ساحة التحرير، وهو ما يترجم، إلى حد بعيد، النزوع الكوني للشعب الذي يتجاوز ظروفه وشرطيته الخاصة. لكنْ، حين تفلت المظاهرات من كل نظام أو مراقبة وتنحو منحى العنف، فإن الكثير من القواعد والمعايير تنهار ويتغير كل شيء في لحظة وجيزة، مع نصب المتاريس، كما حدث في ماي 1968 وفي تظاهرات أخرى عبر العالم. يصور المخرج كريس ماركو هذا التحويل في فيلمه الوثائقي عن ماي 68، من خلال فضاء حصري عمّتْه الفوضى، حيث نرى ضوءا من الأضواء المنظمة لمرور السيارات تضيء ألوانه وسط شارع كان مسرحا لمجابهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات البوليس. يبدو اشتعال هذا الضوء وسط الخراب سرياليا، لأن الديكور اليومي للشارع فقد وظيفيته، لأن الضوء مرتبط بمدونة السير. يتحول الشارع إلى أوراش مفتوحة، تماما كالساحات، وتفقد هذه الأمكنة نظامها العادي ولا تصير مجرد فضاءات عامة يعبرها المارة وطرقات خاضعة لقانون السير. يبدو كما لو أن الشارع أو الساحة يحتفظان ب«لاوعي» الحدث المدهش الذي اخترقهما في تردده وتكراره المديني الحضري. ذاك ما دفع كانط في «صراع الملَكات» إلى اعتبار لحظة الثورة الفرنسية لحظة تأسيسية، حيث وصف جماليتها كفاصل انتقالي قوي في التاريخ. إن العلاقة بين الجمالي والسياسي تسمح بنشر وتعميم متعة الحدث، التي هي متعة فردية وجماعية في آن. بهذا المعنى، تحدثنا أعلاه عن تأسيس سيميوطيقا رمزية وثورية جديدة للفضاء العمومي أو للتراب الوطني. إن الشارع هو التركيبة الحسية الجامعة بين أفراد حشد في حالة دائمة، وإذا ما وقفنا طويلا عند المقاربة للأحاسيس التي يتم التعبير عنها داخل التظاهرات الجماعية، فإننا في إضفاء طابع جمالي مفرط على الأحاسيس، دون الأخذ بعين الاعتبار أن الشعب يتظاهر لممارسة الضغط. ليس التجمع الاحتجاجي مطلبا في ذاته، بل مجرد وسيلة لترجمة أهداف ترجمة سياسية. إن الأهم في هذا السياق هو بناء نظرية تأخذ بعين الاعتبار تلك اللحظات الحاسمة، التي يبنى فيها متخيل جماعي، لأن الرغبة في التواجد داخل حشد ما تقود الإنسان إلى الانخراط في الحياة الاجتماعية، بعيدا عن العزلة والخوف (نرى في الكثير من المظاهرات الشعبية، كما في تونس، مصر وسوريا، مثلا، كيف يتم الحديث من طرف المثقفين وعامة الشعب عن «تحطيم جدار الخوف»)... إن طرح الحياة الاجتماعية والانخراط فيها، كسقف للأفراد، هو التفكير في صياغة أنطولوجيا سياسية تأخذ بعين الاعتبار هذه الحاجة الاجتماعية الملحة التي هي القاسم بين الناس والأجساد والرغبات. إن التظاهرات الجماعية في الشوارع والساحات ليست التعبير عن هستيريا جماعية، بل تترجم، بقوة وبإلحاح، مقاومة الهيمنة. إنها تعبير عن الحق في المقاومة، تماما كما عبّر ماكيافيلي عن ذلك ب«تمرد الشعب على علية القوم من النبلاء»، وهو التمرد الذي تم باسم الحرية، لذا فإن نظام الحكم الأصلح للحشود هو الديمقراطية أو ما سماه سبينوزا، في «رسالة في السياسة»، حكم العدد الأكبر الذي يرمي إلى تحقيق الحرية مطلقا. أن نطرح هذا يعني أن نفكر في فلسفة سياسية ممكنة، تكون بمثابة نظرية للجماعات الإنسانية، الطامحة إلى الانعتاق والحرية والديمقراطية، أي إلى اجتزاء حقها في الحكم، عبر التوفر على حقوق مضمونة تمارس من خلالها سيادتها. لقد انتزع الغوغاء والدهماء حقوقهم إبان الإمبراطورية الرومانية في الشارع وساحات المدن، حيث يتحقق الجوارُ الأقرب إلى السلطة السياسية... يحضر الشارع، إذن، بمثابة تجسيد لجمالية شعبية، لأنه يسمح للجمع، المتعدد والمتنوع والمتنافر، بأن يتماهى أفراده في ما بينهم. وقد يحتل الأفراد الشوارع والساحات، أحيانا كثيرة، فقط من أجل إثبات حقهم في الوجود، وهو ما يضع الدلالة السياسية للتظاهر، في بعض الأحيان، في مرتبة ثانوية، لأن الشارع يصير فضاء للصراع من أجل الوجود والاعتراف، كما حدث في ماي 68، الذي لم يؤد إلى أبعاد سياسية مباشرة، بل إلى التعبير عن حق جيل بأكمله في الوجود. إن مطلب الديمقراطية بالنسبة إلى الحشود، التي تحتل الساحات والشوارع، يتحول إلى نوع من الرغبة الجماعية في خلق ذاتية أو سيرورة تذويب جديدة، من خلال مساهمة المواطنين في الشأن العام. إن الديمقراطية ليست نمطا محددا للحكم، قابلا ل«النمدجة»، ولا أسلوبا للحياة الاجتماعية، بل هي الذاتية الجماعية التي عبرها توجد ذوات سياسية. لا يوجد الشعب إلا من خلال أنماط التذويب المختلفة هذه. إن الشعب هو ذات الديمقراطية، باعتبار الديمقراطية الرحمَ الأصل للسياسة أو لكل سياسة على مقاس إنسانية الإنسان... لقد أشرنا أعلاه إلى أن لحظات التمرد الشعبي هي لحظات تحرير الكلام، لأن الناطقين باسم المقصيين والمقموعين والمهيمَن عليهم ينظمون أنفسهم ويتحركون باسم أولئك المحرومين من الحق في الكلام، شريطة أن يكون هذا الكلام المستعاد محرَّرا، هو نفسه، من كل مرجعية استبدادية أو من كل دعوة إلى نظام يحتكر الكلام وحده، كما هو الأمر بالنسبة إلى الدولة الدينية، كما يجسدها نظام «الملالي» في إيران. إن الشارع يصير، في النهاية، مسرحا يُجسّد التمثيل الحي للديمقراطية. ينزل الشعب إلى الشارع ويكتب بيانا أو بيانات ويطالب بترجمة سياسية لمطالبه وبتجسيد ملموس ومباشرة لإرادته، وحينها يصير فضاء ومكانا لكونية مستعادة. إن الديمقراطية لا تحيى إلا بكلام مواطنيها وتعبيراتهم، ويجب في هذا السياق، أن نجترح الطريق أو الطرق، مجددا، نحو النقابات والأحزاب السياسية والجمعيات المدنية وكل الأمكنة، حيث يكون الكلام ممكنا ويكون النقاش موجودا وفاعلا، وحيث بإمكان الغضب الشعبي أن يتحول إلى احتجاج ومَطالِبَ جماعية.