قبل أن تتوقف الشاحنة، فتح الشقي «عكاشة» الباب ورمى بجسده في الفراغ دون أن يعي أن الآلة لا زالت تدور... سمع «ميمون» وَقْع السقطة واستفاق على هول ما وَقَع ونزل لاستطلاع الأمر... اقترب من نديمه ورأى ما رأى ثم امتطى شاحنته وانسحب في صمت الليل تحت أعين النجوم وضوء القمر... كانت الساعة تشير إلى الواحدة صباحا، عندما تلقت عناصر المداومة بالمركز الترابي التابع لسرية الدرك الملكي بتاوريرت خبرا مفاده وجود جثة لشخص مجهول الهوية عند أحد أركان الطريق الرابطة بين مدينة العيونالشرقية وجماعة «مَسْتَكْمَرْ». انتقلت عناصر السرية إلى عين المكان لمعاينة الجثة وتحرير محضر بشأنها والظروف المحيطة بوفاة صاحبها. نزل قائد السرية متبوعا بعناصره ولف حول الجثة وأدارها بحثا أن أداة ما تكون ساهمت في الوفاة، ثم أمعن النظر فيها جيدا، خاصة على مستوى الوجه والرأس قبل أن يتبادل كلمات مع أحد مساعديه. كانت الجثة لرجل في العقد الرابع من عمره، ملقاة على الظهر على جانب الطريق. لم تكن تبدو على الجسد آثار طعنات آلة حادة أو جروح غائرة أو فقدان دماء, بحكم أن الجثة لم تكن غارقة فيها. أهم ملاحظة تم تسجيلها هي التشوهات التي كانت تعلو وجه الهالك ورأسه بحكم رضوض خطيرة ساهمت في انتفاخ في العينين والخدين. لم يكن سهلا تمييز ملامح الشخص الهالك، إذ انمحت تحت التشوهات. استخرج القائد وثائق من جيب المعطف الذي كان يرتديه صاحب الجثة وهز رأسه مشيرا إلى اهتدائه إلى هويته. كان القائد الدركي قد استنتج بعض الخلاصات، منها منطقة انتماء الهالك وعمره ووضعيته العائلية ومهنته. كانت بعض الفرضيات تدور في خلد المحقق بحكم رائحة الخمر التي كانت تفوح من جثة الهالك «عكاشة»... شغل معلق على شاحنة كان «عكاشة» عاملا بأحد مقالع الرمال المنتشرة على طول وادي «زا» بتاوريرت. كان قوي البنية، وكان معتدل القامة، يكسو رأسه شعر أشعث تغطيه طاقية وكانت تجاعيد وجهه تحيل إلى انتمائه إلى البداوة، وكان يبرز ذلك أكثر شارباه الكثيفان اللذان كانا يعلوان فَمًا تُطِلُّ منه أسنان سوداء بفعل سجائر التبغ الأسود. لم يكن «عكاشة» يفكر في الزواج ولا في «المرأة» رغم بلوغه سن السادسة والثلاثين من عمره. كان مقتنعا جدا بألا جدوى من بناء عُشّ الزوجية في ظل الفقر الذي يكابده وشغل غير قار يمارسه. كان يشتغل الأيام كلها في شحن الشاحنات بالرمال. وكان العمل ينطلق في الصباح الباكر إلى أن تغرب الشمس. كانت الجموع من أقرانه لا تستريح إلا عند القيلولة بعد التهام رغيف من الخبز المصحوب ببيض أو لبن أو حليب أو علبة من السردين. كان يجد عزاءه في كثرة العُزَّاب ومعاناة المتزوجين والمشتغلين بالمقالع والعاطلين الراغبين في شغل. كان همه يشبه هموم الجميع, خاصة صديقه «ميمون» سائق الشاحنة الذي غالبا ما يصطحبه في آخر سفرية من المقلع إلى مدينة تاوريرت حيث كانا يقضيان بعضا من الوقت في امتصاص رحيق بعض قنينات «الروج» بعد يوم متعب. ليلة حمراء داخل مقصورة شاحنة كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء عندما اتخذ «عكاشة» ونديمه «ميمون» أحد رفقائه من القرية مكانهما داخل مقصورة الشاحنة على بعد كيلومترات من المدينة. كان كل شيء جاهزا كما اتفق على ذلك. كانت قنينات الخمر الأحمر منتصبة عند الأقدام وبجانبها كيس أسود من البلاستيك مملوء ببعض المأكولات التي هي في آن واحد وجبة عشاء و«كطعة». فرك «عكاشة» يديه وابتسم لنديمه «ميمون» وناوله كأسا من كؤوس «حياتي» وأجهز على القنينة الأولى فاتحا إياها محدثا بفمه صوتا مقلدا انفجار سدادتها قبل أن ينطق «سَرَّحْ مسجونك». بدأت الكأس، بين النديمين، تدور ودماء رأسيهما تفور وانطلق الحديث عن الأشغال والعمال والرمال واختلط بأحاديث عن النساء و«الروج» و«الحريك» ثم عودة إلى واقع مر كمرارة الجرعات التي كانت تبتلعها الأفواه. فرغت الكؤوس وامتلأت الرؤوس وتخلخلت العقول، واختلطت الكلمات وثقلت العبارات... كانت الساعة تشير إلى الدقيقة الثلاثين بعد منتصف ليلة يوم الجمعة وصباح يوم السبت عندما تقررت العودة إلى البيوت. لم يكن أحد منهما يفهم مفردات الآخر, التي كانت تخرج متقطعة, ولا أحد منهما كان يدري أكان نديمه يغني أو يتحدث أو يقول شيئا ما. كان «ميمون» يَوَدُّ أن يصل إلى سريره ويرمي فوقه جسده المهدود. أقلعت الشاحنة واخترقت المدينة لتلج الطريق المؤدية للدوار قبل أن يلتفت ميمون إلى صديقه عكاشة قائلا «وْصَلْنا ...». وقبل أن تتوقف الشاحنة، فتح الشقي «عكاشة» الباب ورمى بجسده في الفراغ دون أن يعي أن الآلة لا زالت تدور... سمع «ميمون» وَقْع السقطة واستفاق على هول ما وَقَع ونزل لاستطلاع الأمر...اقترب من نديمه ورأى ما رأى وحرك جسده ثم امتطى شاحنته وانسحب في صمت الليل تحت أعين النجوم وضوء القمر... بحث وتحريات واعتقال لم تكن الرضوض عادية، إذ إن جسم الهالك كله كان يعاني من آثارها، وكان استنتاج القائد يصب في احتمال تعرض «عكاشة» قيد حياته إلى الضرب بحجر أو أداة أو سقوط غير عرضي من أعلى حاجز. انتقلت عناصر الدرك الملكي إلى دوار الهالك حيث تم فتح تحقيق مع السكان، تبين من خلاله أنه كان ليلة الحادث رفقة صديقه «ميمون» الذي صرح من خلال أقواله أنه افترق معه وهو في صحة جيدة، كما عبر عن اندهاشه لما وقع لصديقه الذي كان يلازمه ويقتسم معه الحُلو والمُر. لم تكن تصريحات «ميمون» مقنعة بالنسبة إلى القائد ضابط الدرك الملكي, أمر عناصره بالقيام بعملية مراقبة وتفحص للشاحنة وعملية تفتيش لداخلها ولمحتوياتها بهدف العثور على خيط يمكنهم من حل اللغز الذي يبدو أنه بدأ يعرف طريقه إلى النهاية. لم يكن انتظار الدركيين طويلا حين تم العثور على آثار الدم بهيكل الشاحنة رغم أن السائق «ميمون» قام بتنظيفها، الأمر الذي جعل القائد يطلب من عناصره تمديد المراقبة لتشمل ملابس السائق ليصلوا إلى مفاجأة. لقد تم اكتشاف بقع دم بشري بالجزء السفلي من سروال «ميمون», الذي اعتقل وتم استدعاء عناصر من فرقة التشخيص القضائي بوجدة حيث تم أخذ عينة من الدم لتحليلها ومقارنتها مع دم الضحية. انطلق البحث من جديد وتمت محاصرة السائق نديم الهالك الذي انهار واعترف جملة وتفصيلا بالوقائع قبل أن يوضح كيف أن الهالك كان رفقته في حالة سكر متقدمة وفتح باب الشاحنة مستعدا للنزول قبل التوقف التام للشاحنة ليسقط أرضا ويلقى حتفه في الحين دون أن يتمكن هو أن يفعل شيئا. إحالة على العدالة أحالت عناصر المركز القضائي التابع لسرية الدرك الملكي بتاوريرت، المتهم سائق الشاحنة على محكمة الاستئناف بوجدة من أجل إحداث جروح خطيرة مفضية إلى الموت وعدم تقديم مساعدة لشخص في حالة خطر وعدم التبليغ...