في لحظة تحول الحب الذي كان يكنه عبد الصمد لهشام إلى حقد، والصداقة إلى عداوة، ورأى فيه أسباب مصائبه ومصدر تعاسته، بحيث قبل شخصا يدعى الفاسي ضيفا وفتح له أبواب البيت وما كان له أن يفعل ذلك، بل كان عليه أن يطرده كما اقترح عليه... إذن، هشام هو مصدر كل المصائب وعليه أن يؤدي الثمن، إذ أفرغ فيه عبد الصمدغِلَّهُ بطعنه بسكين في صدره قبل أن يَنْسحِب من الساحة... تلقت مصالح الشرطة القضائية بالسعيدية خبرا مفاده أن شخصا تعرض للطعن بسكين بمركز مداغ بدائرة أحفير عمالة بركان وانتقل إلى مقر القيادة وهو ينزف دما، إذ سقط أمام باب المركز بعد أن نطق باسم الفاعل. فانتقلت العناصر ذاتها إلى عين المكان بعد أن أشعرت رئيسها ووكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية ببركان. لكن عند وصولها إلى المكان المذكور لم تجد الشخص الجريح الذي تم نقله إلى مستشفى الدراق بنفس المدينة، حيث أخبرهم أحد أفراد القوات المساعدة بأن المعني بالأمر شاب، في عامه ال25، يدعى هشام، من مواليد قرية مداغ، وأنه تعرض لطعنة في صدره من طرف أحد أبناء القرية الملقب ب«عينية» الذي ما يزال يجوب أزقة القرية في حالة سكر جد مفرطة. وبالفعل لم يطل البحث عنه وتم العثور عليه قرب منزل والديه. كان الجاني عبد الصمد، وهو من مواليد 1979 بدوار غير بعيد عن مداغ، مخمورا ومنهكا، مصابا بجرح في العين اليسرى وآخر في الشفة السفلى. فتم اقتياده إلى مركز الشرطة حيث وضع تحت الحراسة النظرية. وفي صباح اليوم الموالي عند انتقال رجال الشرطة القضائية إلى مستشفى الدراق للوقوف على صحة الضحية تم إخبارهم بأن الشاب هشام وافته المنية في تمام الساعة الواحدة صباحا متأثرا بجراحه. إذاك تمت معاينة الجثة الموضوعة بمستودع الأموات. استفاقة من السكر واستعادة الشريط لم يصدق «عينية» بعد صحوته من سكره صباحا، خَبَرَ مصرع صديق طفولته الذي احتضنه عندما طرده والداه من البيت بسبب معاقرته الخمر وتعاطيه للمخدرات وعزوفه عن العمل، ولم يستوعب بعد استفاقته أن ما وقع كان على يده. «أي دافع حرك غريزتي العدوانية تجاه صديقي وولي نعمتي؟ لم يسئ إلي ولو مرة واحدة، بل آواني وساعدني وأكرمني. لا لست أنا المسؤول...لا. هو المسؤول... لماذا استقبل بالأحضان ذلك الفاسي الغريب واستبدله بي. لا... الفاسي هو المسؤول...علاش دْخُلْ بيناتنا هاذ الفاسي... واش جابو هنا لبركان..؟ ما يمكنش نقتل صاحبي بحال خويا...لا، أنا ماشي مسؤول..»... فعلا كان هشام وعبد الصمد أكثر من صديقين بحكم أنهما تربيا معا وكبرا في منطقة مداغ، بحيث كان قرينه وجليسه بالمقهى التي توجد أسفل شقة عائلة هشام. كانت صورة هشام لا تفارق مخيلة عبد الصمد وهو يناوله فنجان قهوة أو يسكب له كأس شاي أو يهديه سيجارة. كان عبد الصمد متوسط القامة ذا شعر أسود وعينين سوداوين يعلوهما حاجبان رقيقان ويتوسطهما أنف صغير ومستقيم ويرتدي دائما سروالا وقميصا من نوع الدجينز أزرق اللون وحذاء أسود. كان هشام بالنسبة إلى عبد الصمد بمثابة الأب والأخ والصديق والنديم. وكلما ضاقت به الدنيا وجد في بيته الملجأ والأمن والدفء... بيت مأوى للأصدقاء و«النشاط» كان بيت هشام ملجأ أصدقائه وخلانه، خصوصا وأنه كان يسكن لوحده بعيدا عن عائلته. كان الأصدقاء والندماء يقيمون الليالي الحمراء إذ كانت العطالة والبطالة تلازمهم كملابسهم. كانوا يقتلون الوقت بتعاطي الخمر والمخدرات وكان الوقت يقتلهم ببطء، بل كان يسخر منهم في الوقت الذي كانوا يستلقون على قفاهم ضحكا من النكت المحكية أو الأفكار الغريبة التي كانت تتولد عن النشوة الخمرية والحلم الناتج عن جرعات من «جوانات» الشيرا. كان عبد الصمد يعتبر نفسه صاحب المنزل بحكم الصداقة التي تربطه بهشام وكان له مفتاح البيت يدخله متى شاء. كان الكل ينسحب بعد انتهاء السمر و«النشاط» ويبقى هو حرا في البيت إلى أن جاء محمد الملقب بالفاسي ليقتسم معه كل شيء، البيت والصديق والأكل والمبيت و«الشراب» و«الجوانات» و«القصارة» و«النشاط»، وكذلك مساعدات هشام بحكم أنه كان ميسور الحال طيب القلب وكريم الخلق ولا يرد طلبا ولا يتخلى عن محتاج. وبقدر ما كان قلب هشام ينفتح كان قلب عبد الصمد ينغلق. وكان هذا الأخير يحث صديق طفولته على طرد الفاسي «الأجنبي» عن القرية وعن مدينة بركان ويُظْهِر عيوبه ويَعُدّ له سوابقه. لكن كانت طلباته تقابل بالرفض بحجة أن الكل في حاجة للمساعدات ولا فرق بين الأصدقاء. اِسْوَدَّ قلب «عينية» وغَشَتْ عينيه ضبابة الحقد مما دفعه، يوم وقوع الجريمة، إلى محاولة طرد الفاسي وتحذيره من مغبة العودة إلى البيت، بل ذهب أبعد من ذلك وقرر ملاحقته في كل مكان ولو في السجن... «والله ما نتخلى عليه واخا ندخل عليه للحبس». سيناريو بدون نهاية كان عبد الصمد قابعا في ركن غرفة تحت الحراسة النظرية بمركز الشرطة القضائية حين دعاه شرطي للوقوف واقتاده إلى مكتب الرئيس حيث بدأ استنطاقه. لم ينتظر عبد الصمد السؤال وشرع في سرد قصته صباح ذلك اليوم الدامي: «قضيت الليلة مع شخص يدعى الفاسي الغريب عن المنطقة واحتسينا الخمر هناك بمسكن هشام دون مشكل، وفي صبيحة اليوم الموالي افترقنا حيث قضيت النهار بالشاطئ رفقة محسن بعدما احتسينا قنينة خمر... التقيت الفاسي بإحدى المقاهي ونشب بيننا نزاع، كنت في حالة سكر فتبادلنا الضرب والجرح...أما صديقي هشام فلم أشاهده منذ الصباح...» لكن لم يكن في وسع عبد الصمد الإنكار مرة أخرى أمام شهود حضروا الواقعة بالتفاصيل وجاءت أقوالهم متطابقة، وكان لا بد أن يحكي تفاصيل الحادث كاملة، مرة أخرى، منذ أن ولج بيت الضحية. سيناريو الجريمة طرد عبد الصمد من بيت والديه بسبب الخلافات مع والده الذي ضاق ذرعا بسلوكاته ورفضه العمل بالفلاحة، فكانت قبلته صديق عمره الذي لم يتوان مرة في تقديم المساعدة له فآواه وفتح له بيت العائلة الذي كان يسكن به وحده بحكم أن عائلته تقطن بطابق فوق مقهى في ملكيتها. وبدأت الخلافات بين الصديقين حين استضاف هشام صديقا آخرا قَدِمَ من مدينة فاس وكان في حاجة إلى من يساعده وأصبح البيت يضم الثلاثة. هذه الوضعية الجديدة لم ترق عبد الصمد الذي ضاق ذرعا بمحمد الملقب بالفاسي، والمعروف بسوابقه العدلية، حيث قضى سنة سجنا نافذا سنة 2001 من أجل السرقة وشهرا نافذا سنة 2002 من أجل شراء المسروق. بدأ الحقد والكراهية يدبان في قلبه وانفجرا عندما قوبل طلبه بطرد الفاسي من طرف هشام صاحب البيت. ومساء يوم الجريمة انتقل عبد الصمد في حالة سكر طافح إلى المقهى بعد أن احتسى قنينة خمر مع محسن حيث وجد هناك الفاسي. فاستشاط غضبا لما رآه، رفض الفاسي الانسحاب في بادئ الأمر ورأى أن ليس من حقه أن يمتثل لأمر عبد الصمد الذي انفجر سبا وشتما وأخرج سكينا وأخذ يلوح به. إذاك طلب النادل من الاثنين مغادرة المكان. وما أن ابتعدا بأمتار قليلة حتى بدآ يتبادلان السب والضرب والجرح والرشق بالحجارة، فتَدَخَّل هشام، الذي نزل من الشقة إثر سماعه الصراخ، لفض النزاع بين صديقيه. وفي لحظة تحول الحب الذي يكنه عبد الصمد لهشام إلى حقد والصداقة إلى عداوة إذ رأى فيه أسباب مصائبه ومصدر تعاسته بحيث قبل الفاسي ضيفا وفتح له أبواب البيت وما كان له أن يفعل ذلك، بل كان عليه أن يطرده كما اقترح عليه... إذن، هشام هو، مصدر كل هذا وعليه أن يؤدي الثمن وأفرغ فيه غِلَّهُ بِغَرْس السكين في صدره. جريمة وعقاب قدم الجاني عبد الصمد الملقب ب»عينية» إلى العدالة من أجل الضرب والجرح بواسطة السلاح الأبيض المفضي إلى الموت المنصوص عليها في الفصل 410 من القانون الجنائي المغربي ومن ثم إلى السجن الذي سيقضي به مدة طويلة يندب فيها فقدان والديه وأهله وصديق عمره، ولكن لن ينفعه البكاء ولا الندم ولا الحسرة.... وقُدِّم محمد الملقب بالفاسي من أجل الضرب والجرح المتبادل حيث ستنضاف نقطة سوداء أخرى إلى «نهج سيرته» الموسومة بسوابق عدلية.