الثورة الشبابية المصرية، التي انطلقت من ميدان التحرير في القاهرة وامتدت إلى مختلف المدن والقرى والنجوع الأخرى، لم تفاجئ العالم بانتصارها ودأب أبنائها وصبرهم فحسب، وإنما بتغيير وجه مصر السياسي وقلب معادلات القوة وتحالفاتها في المنطقة العربية، والأهم من ذلك بدء مسيرة إعادة صياغة العلاقة بالمحتل الإسرائيلي. ومن هنا، كان من الطبيعي أن تتآمر جهات عديدة لإجهاض هذه الثورة وحرفها عن مسارها وتفريغها من محتواها الوطني والإنساني، وتقف إسرائيل على رأس هذه القوى المتآمرة، جنبا إلى جنب مع بعض الحكومات العربية التي تعارض التغيير الديمقراطي وتريد قتل المشروع العربي وإبقاء مصر دولة ذيلية تابعة لمشاريع الهيمنة الأمريكية في المنطقة. لم يفاجئنا إعلان السلطات القضائية المصرية الصادر يوم أمس (يقصد يوم الأحد الأخير) عن إلقاء القبض على جاسوس إسرائيلي يدعى إيفرلان غرين، برتبة ضابط في جهاز المخابرات الإسرائيلي «الموساد» بتهمة محاولة تجنيد شبان مصريين للقيام بأعمال تخريب وبذر بذور الفتن الطائفية، لهز استقرار البلاد، وإشعال نيران الحرب الطائفية، وتخريب نسيجها الاجتماعي، وشق وحدتها الوطنية. هذا الجاسوس، الذي أفادت المصادر القضائية بأنه كان يوجد في ميدان التحرير في القاهرة منتحلا اسما مستعارا، كان يحرض المصريين في الميدان على مهاجمة الكنائس لتأجيج نيران الصراع الطائفي وتصعيد الصدامات بين الأقباط وأشقائهم المسلمين، ويشتري ذمم بعض الضعفاء بالأموال التي كان يوزعها عليهم. مصر الثورة مستهدفة لأنها لم تعد ذليلة أمام المحتل الإسرائيلي، أو تابعة للمشاريع الأمريكية، أو متورطة في مؤامرات لتشديد الحصار على قطاع غزة وخنق مليوني عربي ومسلم، وبيع الغاز بثمن بخس للإسرائيليين، ولهذا فإن من الطبيعي أن يرسل الإسرائيليون جواسيسهم إليها لدعم الثورة المضادة التي تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وبما يؤدي إلى تسليم مصر مجددا إلى مافيات الفساد والقمع ونهب المال العام. وليس صدفة أن تكون كنائس مصر هدفا للمخططات الإسرائيلية، في المرحلة القريبة التي سبقت اندلاع الثورة وأثناءها، فقد شاهدنا مجزرة كنيسة القديسين في الإسكندرية ليلة رأس السنة الماضية تتم بترتيب من قبل اللواء الحبيب العادلي، وزير الداخلية السابق، الذي يقبع حاليا خلف القضبان، ثم محاولة حرق كنيسة امبابة، وانفجار الصدامات الطائفية بين المسلمين والأقباط. الأصابع الإسرائيلية لم تتوقف مطلقا عن اللعب بالنار في الشؤون الداخلية المصرية، مثلما فعلت في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، والكنائس دائما أحد أهدافها، من أجل تحريض المسيحيين ضد أشقائهم المسلمين والإيحاء بأن التعايش الإسلامي المسيحي غير ممكن، بل مستحيل. ولذلك لم يكن غريبا أن يلعب اللوبي الإسرائيلي الدور نفسه ضد الأقليات الإسلامية في الغرب، من حيث محاولة إلصاق تهمة الإرهاب بها وتنفير المجتمعات الغربية منها باعتبارها مصدر الخطر على أمنها، وتأكيد مفاهيم خاطئة حول عدم تعايش الإسلام والديمقراطية. الثورة المصرية قلبت كل الحسابات الاستراتيجية الإسرائيلية رأسا على عقب بعد أربعين عاما من الاطمئنان إلى خنوع الأنظمة العربية وتخليها عن سلاح المقاومة ودعمها لمسيرة سلمية عرجاء ومزورة. فقد بدأنا نسمع أصواتا لمحللين استراتيجيين إسرائيليين يتحدثون عن إدخال تغييرات على العقيدة والأولويات العسكرية الإسرائيلية تضع مصر على رأس قائمة الأعداء مجددا. انتقال مصر، بفضل الثورة، من سمسار السلام الموبوء في المنطقة مثلما كان عليه الحال في عهد الرئيس المخلوع مبارك وحكمه الذي امتد ثلاثين عاما، إلى دولة قرارها مستقل وسيادي يضع مصالح الأمة والعقيدة على قمة الأولويات، يضع إسرائيل في موقف محرج يربك جميع حساباتها السابقة. وتكفي الإشارة إلى أن انتقال مصر من خانة الأصدقاء إلى خانة الأعداء، وفق الحسابات الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة، سيكلف الخزينة الإسرائيلية حوالي عشرين مليار دولار على الأقل لما يمليه ذلك من إعادة تسليح للجيش الإسرائيلي وتطوير استعداداته الدفاعية على الجبهة الجنوبية المصرية. ولعل أبرز نقاط التغيير في المعادلة الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه مصر هو تكثيف أسلحة التجسس لتقويض الأمن المصري من الداخل، وبأدوات مصرية إذا تأتى ذلك، فقبل عام اكتشفت أجهزة مكافحة التجسس المصرية شبكة بقيادة شاب مصري جرى تجنيده من قبل الموساد الإسرائيلي أثناء دراسته في الصين، وأدت اعترافاته بالتجسس على منشآت مصرية، وأبرزها شبكة الاتصالات، وهواتف كبار الضباط إلى تفكيك ثلاث خلايا للموساد في لبنان وسورية. اكتشاف دور الجاسوس الإسرائيلي الجديد في مصر أمر جيد يكشف يقظة الأجهزة الأمنية المصرية في وقت تنشغل فيه بالتصدي لمؤامرات أتباع الثورة المضادة ورجالات الرئيس المخلوع، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو حول عدد الجواسيس الذين زرعتهم الأجهزة الإسرائيلية ومازالوا طلقاء يواصلون أعمالهم التخريبية، الأمر الذي يجب أن يدفع الشعب المصري وفئاته الشعبية كافة، والنشطاء الأقباط والمسلمين على وجه الخصوص، إلى أخذ كل إجراءات الحيطة والحذر لتجنب الوقوع في حبائل هؤلاء ومؤامراتهم على بلدهم. فالعميل الإسرائيلي غرين كان يتردد بشكل مستمر على أماكن العبادة، وكانت كنيسة امبابة وقرية صول، اللتان شهدتا صدامات طائفية دموية، من الأماكن التي تردد عليها بشكل مكثف. إسرائيل لم تحترم، ولن تحترم، معاهدات السلام مع مصر أو غيرها من الدول العربية، ولا يمكن أن ننسى إرسالها ثلاثين عميلا للموساد لاغتيال الشهيد محمود المبحوح في إمارة دبي واستخدام جوازات سفر بريطانية وفرنسية وألمانية وكندية وإيرلندية مزورة لتنفيذ هذه الجريمة، فإذا كانت لا تحترم أكبر حلفائها وداعميها، ومعاهداتها واتفاقاتها الأمنية معهم، فهل يمكن أن تحترم معاهدات سلامها مع الدول العربية؟ نجد لزاما علينا التنبيه إلى أن الإسرائيليين الذين يلعبون دورا كبيرا في قيادة وتوجيه الثورة المضادة في مصر يركزون على أهداف عزيزة، أبرزها ضرب الأمن القومي المصري، وتحريض العالم الغربي، وأمريكا على وجه الخصوص، ضد مصر، ومحاولة إحداث شرخ كبير بين شباب الثورة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتعاظم الجهد في هذا الإطار بعد نجاح العهد المصري الجديد في تحقيق المصالحة الفلسطينية وكسر الحصار الظالم على أبناء قطاع غزة بفتح معبر رفح بشكل دائم، ومعارضة أي هجوم إسرائيلي على القطاع. مصر الثورة ستقاوم مثل هذه المؤامرات ولا يخامرنا أي شك في ذلك بفضل وعي شعبها، وشباب ثورته على وجه التحديد، هؤلاء الشباب الذين يمثلون «بوليصة تأمين» للحفاظ على إنجازات ثورة ميدان التحرير من خلال مظاهراتهم المليونية في كل مرة يرون انحرافا عن أهدافها ومبادئها، لن يسمحوا مطلقا بخطف ثورتهم ونجاح الثورة المضادة. ما لا يعرفه الإسرائيليون والأمريكيون، وبعض الدول العربية المعادية للتغيير الديمقراطي، أن مصر عادت إلى أبنائها أولا، وإلينا أي العرب والمسلمين ثانيا، وأن لا رجعة إلى الوراء مطلقا، فليس أمام مصر وشعبها غير الصعود إلى أعلى، إلى الكرامة والمجد والريادة والقيادة. فانتصار الثورة في مصر هو انتصار الربيع العربي حتى لو تباطأ أو تأخر قليلا.