عندما يُسلَّم المهاجرُ إلى كندا بطاقةَ الجنسية وورقة التهنئة يُدفع في يده جنبا إلى جنب مرسوم الحريات والحقوق الكندي (CANADIAN CHARTER FOR FREEDOMS AND RIGHTS) الذي يتضمن حقوقه وواجباته كمواطن ينتسب إلى العالم الجديد. وأهم ما في هذه الوثيقة حرية («الاعتقاد» و«التعبير» و«الاجتماع» سلميا، فيعتنق أو يترك الدين الذي يشاء، وينطق بدون خوف من الجواسيس، وينشئ الأحزاب بتشجيع وترخيص من الحكومة، ويعترض في مظاهرات صاخبة مع أو ضد، في قوة ما فوق نووية لانطلاق مارد الحرية من قمقم الاستبداد، في مجتمع يرى أن الحرية للجميع، بمن فيهم من يطلق عليهم «أعداء الشعب» لأن الحرية لكل الناس، اتفقنا معهم أو اختلفنا، فيتمتع بها الجميع عسلا سائغا للشاربين، ويحظر فقط «استخدام القوة» لفرض الآراء، فمن يستطيع إقناع الناس وكسبهم فليمدد بسبب إلى السماء. لن تبنى ديمقراطية مع «العنف»، ومؤشرُ السلامة في المجتمع اتفاقُ جميع الفرقاء على إلقاء السلاح فلا تؤلَّه القوة. ولكن لماذا ننتمي نحن إلى العالم القديم وتسمى أوربا وكندا العالم الأول؟ إن الغرب دفع ثمن الرحلة غاليا حتى وصل إلى شاطئ الديمقراطية وساحل القانون. نحن لا نستوعب معنى فصل السلطات، نحن نعيش حالة الطوارئ ولا نعرف ذلك، نحن نعيش خارج القانون ولا ندري، نحن نستورد السيارة والمجالس النيابية ولكننا لا نستطيع إنتاج السيارات ولا إيجاد حياة نيابية إلا على شكل كاريكاتور بدون حياة وبدون نيابة، في قصة مترجمة يرويها أخرس مهمته الكلام! لا بد من حرية التعبير وبدون حدود وعلى إطلاقه ضمن قاعدتي السلام والاحترام، وإذا نطق من نظن أنه يقول حراما وممنوعا فيمكن أن نرد عليه لا أن نخرِّسه وإلا أصابنا الخرس أجمعين. وهو، على كل حال، داء دوي نعاني منه منذ ألف عام، فإذا نطقنا وجب أن نهمس فنقول كلاما لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا في محافظة مثالية على النوم العام! بالتعبير تظهر وجهات النظر، فتتزاوج وتتناقض وتتوالد وتتكاثر، سنة الله في خلقه، ولكننا نريد مواطنا أخرس يفكر عنه آخرون بالوكالة معلنين الوصاية على عقله في شهادة صاعقة بأنه قاصر. وبحرية التعبير تطفو الأفكار الخاطئة فتخضع للتمحيص والنقد، للتهميش أو الترسيخ، أما المطاردة فتدفع الأفكار إلى الانزواء في الجبال، وكثرة انتشار الإثنيات في منطقة بعينها ضمن شرانق محنطة سببها الجغرافيا، فمع أن مصر كانت فاطمية لفترة قرنين وصُمِّم الأزهر للدعوة إليها، فليس على ظهرها اليوم فاطمي واحد، والأزهر يبشر بكل شيء إلا الدعوة الفاطمية بسبب جغرافي بحت، لأن الناس لا يمكنها أن تعيش إلا بجانب النيل، تختلط وتتبادل الأفكار والبضائع، وما عدا ذلك ليست إلا صحاري للدفن، كما دفن موسى جيل الاستبداد في رحلة التيه. ويحدثنا التاريخ أن كثيرا من الدعوات، وأمام ضغط هذه الحقيقة، لم تكن لتحافظ على نفسها إلا بالانتقال إلى مكان آخر تعيش في صَدَفة حلزونية من الانزواء والتقوقع في رؤوس الجبال، وبذلك تفسر الجغرافيا أسرار انتشار الدعوات وتغلغل الطوائف والأديان. يجب أن نؤسس لمجتمع إنساني منفتح فنضع القواعد التالية: تفكير بدون حدود، وتعبير بدون قيود، وكتابة وطباعة بدون رقابة، وإلغاء نظام التجسس على المواطن، فلا يؤاخذ على شيء إلا بذنب جناه بدليل مادي مع توفير ضمانات الدفاع عنه، وليس لتقرير كتبه مخبر سري في جنح الظلام. ولكن كلماتي هذه لا قيمة لها وهي أشبه بالمواعظ الأخلاقية، جميل أن تلقى، وقد تنفس عنا شيئا من مشاعرنا البئيسة المكبوتة، ولكن السؤال المصيري: كيف نصل إلى تغيير هذه الأوضاع؟ يأمرنا القرآن بثلاث وصايا من «حسن الظن» وأن «لا نغتاب» و«عدم التجسس) ونحن نعمل ضدها بحرص ودأب، فلا نحسن الظن بالإنسان والأصل عندنا أنه متهم حتى تثبت براءته، ونملأ القوائم السوداء من المطلوبين على الحدود، ونغتاب الآخر بقولنا إنه رجعي أو ملحد، وننشئ أنظمة أمنية تجسسية بحجم الديناصورات اللاحمة، أصبحت خطيرة حتى على نفسها والحاكم بشبكة أوسع من الأنترنيت، وبدقة عمل أكثر من وكالة ناسا لارتياد الفضاء، في وطن لا تعمل فيه الخدمات العامة، يعيش حالة الطوارئ حتى يوم الزلزلة. إن النظام البيزنطي، الذي طوَّره البيت الأموي، قد انهار على سكانه، وتحولت عملية اعتلاء كرسي السلطة جلوسا على كرسي الإعدام بالكهرباء. ومنذ أيام العباسيين، نرى خادما مثل «يونس» يمتلك من مفاتيح القوة ما يقتل به الخليفة المقتدر فيُحمل إليه رأسه كما ينقل المسعودي فيبكي ويلطم، وانتهاء بالاتحاد السوفياتي الذي اضطر مرغما إلى أن يفكك جهاز الرعب الذي طوَّره بعد أن أرسل من أنشؤوه وعائلاتهم إلى معسكرات الاعتقال، مثل زوجة مولوتوف، وكما يقول المثل العربي: سمِّن كلبك يأكلك. وبعد انهيار جدار برلين، تبين أن نظام الاستخبارات في ألمانياالشرقية كان قد وضع عشرين ألف غرفة تنصت على المواطنين وتكوين إضبارة أمنية لكل مواطن مثل ملائكة العذاب ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. في عام 1999م استطاع المجتمع الأمريكي أن يضع أكبر شخصية سياسية تحت المساءلة في حكاية تروي عن أمة عظيمة تنجب رؤساء وتحاكمهم وتبدلهم وتستغني عن خدماتهم فلا يعودون، في رواية عن أمة ودود ولود لعبقريات لا تنتهي. وفي الوقت الذي يودع فيه العالم وراثة الملك والحكم الفردي، نبدأ نحن في محاولة شحن الحياة في جثث ماتت منذ قرون كمن يفترض فيه أن يدخل الجامعة فيدخل مدارس محو الأمية. ألا توجد عندنا حرية تعبير أم إنه لا يوجد عندنا ما نعبر عنه؟ هل هناك عائق أمام انتشار الكلمة، فهي محاصرة لا يسمح لها بالتجول، أم إنها تمارس عملية انتحار داخلي؟ أما السياسيون فيقولون إنه لا توجد حرية تعبير بسبب استبداد الحاكم! ولكن هل المعارضة ستسمح للحاكم بالتعبير لو جلست محله؟ إن قوم موسى كانوا يستعجلون مثل هذا الأمر، فقالوا له لم تتغير أوضاعنا وكنا نتفاءل أن يصير الأمر إلينا (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) فلم يتغير شيء والحالة هي هي! كان جواب موسى أن الامتحان الأكبر هو عندما تسقط تفاحة السلطة في أيديكم، هل ستتحولون إلى فرعون جديد بعباءة إسلامية؟ عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون. إن إمكانية إيجاد مثقف يرى التغيير بدون أن يقعد في جيب الحاكم أو يتآمر عليه أصبحت مهمة مستحيلة على ما يبدو... جاء في الإنجيل: إذا فسد الملح فبماذا يملح؟ وإذا كان النور الذي فيك ظلاما، فكم يكون الظلام؟ جاء هشام بن عبد الملك إلى مكة معتمرا، فأدخل عليه طاووس، فخلع نعليه وتقدم ببساطة فحياه: كيف أنت يا هشام؟ ثم جلس. فغضب الخليفة الأموي حتى همَّ بقتله فنصحه من حوله بالتريث فهو في بيت الله العتيق! فالتفت إليه هشام وقد امتقع وجهه من الغضب، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ أجاب طاووس بهدوء: وما فعلت؟ قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تكنِّني ولم تقل لي يا أمير المؤمنين ثم جلست قبل أن آذن لك! فالتفت إليه طاووس ببراءة وقال: أما خلعي نعلي بحاشية بساطك فإنني أخلعهما بين يدي رب العزة خمس مرات في اليوم ولا يغضب مني، وأما أنني لم أكنِّك فإن الله كنَّى أعداءه فقال تبت يدا أبي لهب، ونادى أحباءه من الأنبياء فقال يا يحيى يا عيسى يا داوود، وأما أنني لم أقل لك يا أمير المؤمنين فإنه ليس كل المؤمنين راضيا بإمارتك فخشيت أن أكون كاذبا، وأما أنني جلست بجانبك فإني سمعت أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب يقول: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل جالس والناس حوله قيام! فزلزل هشام ثم التفت إليه ضارعا فقال: يا طاووس عظني: قال سمعت أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب يقول: إن في جهنم حياتٍ وعقاربَ كالبغال تلدغ من لا يعدل في رعيته ثم قام وانصرف.