نختلف مع كل الآراء التي قالت أن لا جديد في خطاب بنيامين نتنياهو الذي ألقاه يوم أمس (يقصد الثلاثاء) أمام الكونغرس الأمريكي، لأنه كان حافلا بالرسائل المعبرة التي أراد إرسالها إلى أكثر من جهة عربية وعالمية: الرسالة الأولى إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما ومفادها أنه ليس حاكم أمريكا وإنما اللوبي اليهودي الداعم لإسرائيل، فهذا اللوبي هو الذي يقرر السياسات الأمريكية وفقا للإملاءات الليكودية. الرسالة الثانية إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتقول مفرداتها إنه أضاع وقته، في مهزلة استمرت حوالي عشرين عاما، بعث خلالها الوهم، وهم السلام إلى الشعب الفلسطيني، واعتقدت أنك تستطيع الوصول إلى دولة مستقلة، فالذي يحدد الدولة وهويتها وطبيعة حدودها هو السيد الإسرائيلي الذي يجب أن تقبل يديه صباح مساء، وتشكره على هذه النعمة. الرسالة الثالثة إلى الزعماء العرب، المخلوعين منهم أو من هم على الطريق، ومؤداها أن مبادرتهم السلمية باتت منتهية الصلاحية وفاقدة المفعول، وعليكم تجديدها وفق الشروط الإسرائيلية الجديدة، أي التبعية لنا مقابل السلام لكم. الرسالة الرابعة إلى حركة «حماس»، المطالَبة بتغيير جلدها وتمزيق ميثاقها وحلق لحى قادتها، وإلا فعليها تحمل كل العواقب. الرسالة الخامسة إلى الملايين من العرب، سواء داخل الأرض المحتلة أو خارجها، ومضمونها أنهم عنصريون ديكتاتوريون قمعيون، لا أمان لهم ولا سلام معهم. عندما شاهدت أعضاء مجلسي النواب والشيوخ يتصرفون كالبهلوانات، يصفقون لأكاذيب نتنياهو وقوفا، وكأنهم تلاميذ صغار أمام أستاذهم المتعجرف، شعرت بالخجل من نفسي كإنسان عربي، لأن حكامنا، وعلى مدى أربعين عاما على الأقل، كانوا عبيدا عند هؤلاء وحكومتهم ووزرائها وسفرائها، ولذلك بت أكثر قناعة بأن الثورات الشعبية التي انطلقت في أكثر من بلد عربي، يجب أن تستمر وأن تتوسع وأن تدعم حتى تضع حدا لهذا الهوان الذي نعيشه حاليا، سواء كانت في دول الاعتدال أو الممانعة، في دول ملكية أو جمهورية، فالجميع شركاء في إهانتنا وإذلالنا، من خلال تذللهم ورضوخهم لهذا الهوان الأمريكي الإسرائيلي. نواب الكونغرس الذين صفقوا بحرارة لنتنياهو، وقوفا وقعودا، كانوا يصفقون للشخص الذي أهان رئيسهم المنتخب، وكانوا يصفقون لإهانتنا أيضا، وكانوا يصفقون لإهانة القانون الدولي وأحكامه ومعاهداته، والقذف بها إلى صفيحة القمامة. لا يمكن أن أصدق أن هؤلاء هم مشرعو الدولة العظمى في التاريخ، التي تدعي أنها زعيمة العالم الحر المدافعة عن قيم العدالة والديمقراطية والانتصار للمظلومين في مختلف أنحاء العالم، وحتى مجالس القبائل المتخلفة التي تنتمي إلى العصر الحجري لا يمكن أن تتصرف بالطريقة البهلوانية التي تصرف بها نواب الكونغرس. بحثت طوال الخطاب عن نائب واحد، فقط نائب واحد، لم يصفق وقوفا، وربما لو كان أوباما جالساً لانضم إلى قطيع المصفقين وربما بالحرارة نفسها، لأنهم يلتقون جميعا على مبدأ التبعية لهذا الإسرائيلي المتغطرس الذي يتحدى كل قيم العدالة ومبادئ الإنسانية، ويرتكب المجازر ضد الأبرياء، بل ويتباهى بها. هذه الدولة الديمقراطية، التي قال عنها نتنياهو إنها تحقق حرية العبادة في القدسالمحتلة التي يجب أن تبقى عاصمة موحدة للدولة اليهودية، هي التي تقتل المسيحيين والمسلمين في لبنان وقطاع غزة، وتهدم منازلهم في المدينة المقدسة، وتحرم الملايين من الفلسطينيين من زيارة مساجدها وكنائسها، بل وتعمل على تقويض أساساتها لهدمها، بئست هذه الدولة وبئست ديمقراطيتها الدموية هذه. الرد العربي يجب ألا يكون على خطاب نتنياهو، وإنما على الإذعان الأمريكي له، على الرئيس أوباما الذي يرتعد خوفا منه ودولته، على الكونغرس الذي يقبّل أحذيته، فهذا الأمريكي الخانع الراكع عند أقدام الظلم الإسرائيلي الفاجر لا يمكن أن يكون وسيط سلام، بل هو نصير للعدوان وقتل الأبرياء ومصادرة الحريات. نتنياهو طالب الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأن يمزق اتفاقه مع حركة «حماس» وخيّره بينها وبين السلام معه، ونحن هنا لا نطالب الرئيس عباس بأن يختار بني أهله ووطنه فقط، وإنما أن يعيد الاعتبار إلى ميثاق حركة «فتح» وأدبيات منظمة التحرير الفلسطينية الأساسية، وهي الدولة الديمقراطية الواحدة على كل الأراضي الفلسطينية. فقد قتل نتنياهو، بخطابه يوم أمس (يقصد الثلاثاء) حل الدولتين، بل نقول إنه أطلق عليه رصاصة الرحمة، وأسدل الستار على أكذوبة السلام التي صدقها الرئيس عباس والكثيرون من حوله لعقدين من الزمن. رئيس الوزراء الإسرائيلي أسدى خدمة كبيرة للشعب الفلسطيني بخطابه هذا وما ورد فيه من مواقف صريحة واضحة لا تتضمن أي لبس أو غموض، مؤكدا ليس فقط على يهودية الدولة وإنما على إسرائيلية القدسالمحتلة أيضا، ورفض عودة أي فلسطيني حتى لو كان في غرفة العناية المركزة إلى أرض فلسطين التاريخية، والقسم بعدم العودة نهائيا إلى حدود عام 1967. نتنياهو يستحق الشكر أيضا، لأنه أزال الغشاوة عن عيون الكثير من العرب والمسلمين وكشف الوجه الحقيقي لأمريكا ومؤسساتها أمام العالم بأسره والجهة الحقيقية التي ترسم سياساتها وتضع قراراتها وتصوغ طبيعة مواقفها. فالذين صفقوا لنتنياهو هم ممثلو الشعب الأمريكي المنتخبون، والرئيس الذي تراجع عن مطالبته بدولة فلسطينية في إطار حدود عام 1967 هو رئيس منتخب، ومن قبل الليبراليين أيضا. هؤلاء الذين يصفقون بحرارة لنسف عملية السلام ولمصادرة حقوق شعب مظلوم مضطهد، ولوصف حركة «حماس» المنتخبة ديمقراطيا بكونها النسخة الفلسطينية من تنظيم «القاعدة»، لا يمكن أن يكونوا أصدقاء للعرب والمسلمين، ولا يمكن أن ينتصروا للشعوب العربية وثوراتها ضد الظلم والديكتاتورية وحقها المشروع في الحريات والكرامة، بل هؤلاء نقيض ذلك كليا. خطاب نتنياهو، ومن قبله تراجعات أوباما المذلة، هو صرخة قوية لإيقاظ النيام العرب. هو دعوة إلى صحوة عربية.. هو تحريض على المزيد من الثورات.. هو وقود سريع الاشتعال للتطرف بأشكاله كافة.