الثقافة حاجة إنسانية تتطلع، على نحو دائم، إلى الإشباع. وإذا كانت الكائنات الأخرى لا يرتبط لديها الدب فوق الأرض والسعي في الجبال والكهوف والغابات والأنهار إلا بالحاجة الغريزية إلى الطعام والتناسل، فإن الإنسان، بخلاف ذلك، يشترط لديه السعي بالوعي بوجوده ومحيطه وتاريخه وحاضره، على نحو يسمح للعادات والطقوس والقيم بالتوارث أو العراك أحيانا، داخل فضاء ثقافي عام، ينتهي إلى تكريس قيم واستنبات أخرى، تفرضها شروط الحياة المتجددة باستمرار. الانسان كائن ثقافي بامتياز، ولذلك عندما يتعهد الكائنات الأخرى بالرعاية، نجده يخضعها لشكل من أشكال التنظيم الثقافي، يبدأ بالرعاية الطبية والتحكم في النسل، ويصل إلى بث السلوك «المرهف» في التصرفات والرغبات، بل وحتى في المظهر الخارجي، الذي يجعلنا نرى قردة وقططا وكلابا تعتمر قبعات أنيقة، وتستر العورة بملابس توحي بذوق ودلال واضحين. بل نرى بعضها يؤدي أحيانا أدوارا سينمائية وتلفزيونية مقنعة تحولها، على نحو يدهش الجميع، إلى نجوم حقيقية. العدوى الثقافية ينقلها الإنسان، بالتأكيد، إلى محيطه وبيئته. ويظهر ذلك في أشكال العمارة وتصميم المدن، كما يظهر في ما يتجاوز السكن والأمن والاستقرار، إلى فضاءات الرياضة والترفيه وما يتصل بالنتاج الرمزي كالمتاحف والمعاهد والمكتبات والجامعات والمطابع والمسارح ودور السينما ومؤسسات الإعلام. كل هذه الفضاءات تُضفي على حياة الإنسان عمقا ثقافيا، يعتبر جزءا من ذخيرة الذوق العام والحس المُشترك الذي يتعهده كل فرد، لحسابه الخاص، بالتعميق والتثقيف، على نحو يضفي عليه خصوصية، وذلك بحسب حظه من التعلم والوعي والمثابرة والموهبة والاستثناء. تتعدد الوسائل والدعامات الحاملة للثقافي، لكن الكتاب يبقى في قلب المشهد. ومن المرجح أن كل الوسائل المستحدثة (الأنترنيت مثلا) لا تستطيع أن تغني عنه. يمكن أن نتلقى، بالفعل، سيلا من المعلومات الجديدة من مواقع الثقافة والإخبار التي تتناسل باستمرار على شبكة الأنترنيت. يمكن أن نقف عاجزين عن ملاحقة كل ما يُعرض على هذا الحامل ذي الشهية المفتوحة، وقد نأسف لأن العمر قصير ولا يسعنا إلا أن نعلق بخيوط الشبكة العجيبة كرتيلاء تريد أن تتحول إلى سوبرمان في زمن قياسي. وقد يحدث أن تتحول أصابعنا إلى شياطين صغيرة مدربة على ملامسة الأزرار، والبحث، في الأدغال العنكبوتية، عن رائحة الفضائح والجيف والمعارك والنزوات والعقائد وبنات الأفكار وأحلام المخيلة. قد يحدث كل هذا، وتتأثر حياتنا قليلا أو كثيرا، بحسب عمرنا، وثقافتنا وودرجة حماسنا لهذا المخلوق الفضائي الجديد. لكن كل هذا ينبغي أن يكشف عن غنى العالم وتعقده، لا أن يتحول إلى بديل عنه. لذلك، ينبغي أن يحافظ الأنترنيت، في وعينا، نحن المتفاعلين معه، على أداتيته. فهو أداة للاطلاع والبحث والمعرفة والتواصل، التي لا تنسخ، بالضرورة، غيرها من الأدوات الأخرى الحاملة للثقافي، وعلى رأسها الكتاب. وإذا كانت الشبكة العنكبوتية قد أوقعت في حبالها كثيرا من القلوب، وتوسعت قاعدتها بشكل مذهل، فإن هذه الدينامية في الفضول وحب الاستطلاع التي فجرتها، أتمنى أن تساعد أكثر على بلورة قارئ لا يكتفي بالدردشة، وإنما ينحاز أكثر إلى الأسئلة والانشغالات العامة، التي لا تتعارض، بالضرورة، مع أحلام تحقيق الذات. كيف يكون الأنترنيت أداة للتثقيف التي تدفع إلى فتح الكتاب وقراءة ما تنطوي عليه الأبجدية من أسرار؟ كيف يكون صديقا جديدا للكتاب، بعد الجريدة والتلفزيون، وليس نديدا منافسا؟ كيف يمكن أن تجمع بين الأنترنيت والكتاب الأهداف، حتى وإن فرَّقت بينهما السبل؟ هذه هي الأسئلة التي تحتاج إلى تأمل وأجوبة، وإن كنتُ أُحس، في قرارة نفسي، أن الكتاب لن يخرج منهزما في معركة ماتزال بحاجة ماسة إلى كلماته، التي أودع فيها الإنسان كثيرا من أسراره.