في الوقت الذي مدَّ رشيد قطعة القماش المبللة ب«الدوليو» إلى نديمه أحس بشيء يخترق قفصه الصدري ويُسحب بسرعة بعد أن تبعه ينبوع من الدماء فجّرت آلاما حادة في صدره وبطنه.. ليسقط جثة هامدة، جريمة قتل غير متوقعة تعود أسبابها إلى خلاف بسبب محاولة الضحية سلب ساعة يدوية من قاتله. كان رشيد دائم الفقدان لرشده، إذ كان غارقا في الحرمان والفقر والجوع... ودوخة «الديليون». كان شابا يافعا في الثانية والعشرين من عمره، ولكنه لم يكن ككل الشباب، لم يكن يغار منهم بعد أن استسلم لحالته وقبل بوضعه وأقسم على أن يترك الدنيا التي تركته ويدع الحياة التي هجرته. قَرَّر أن يلج عالما خاصا به ويهجر عالم أقرانه، وحكم على نفسه بإعدام عقله وتعطيل فكره واعتقال «التخمام»، وشجعته الوحدة والعزلة على تأكيد القرار. فقر و حرمان كان رشيد قبل أن يدخل عالم التيه ويسلك مسالك المتاهات التي لم يكن يهابها، بحكم أنه لم يكن يفكر يوما ما في البحث عن مخرج لها، كان قبل ذلك يجوب المقاهي والمحلات التجارية والأسواق بحثا عن عمل. كان العثور عليه من المستحيلات فكان اليأس يدِبُّ إلى قلبه ويزحف الفقر إلى كِسوته وتسكن الأوساخ جلده. فَقَدَ أسرته قبل أن يفقد نفسه وبدأ يسألها إن كان من حقه الحياة أم في مماته الخلاص، كان مساء كل يوم يأوي إلى إحدى الضيعات بجنانات سيدي ادريس بوسط مدينة وجدة. كان يلقي بجسده في ركن من أركان الضيعة وسط النباتات الآهلة بالحشرات والأتربة والأحجار. كان سريره من لحاف مهترئ وغطاؤه بطانية قذرة تصدقت بها عليه إحدى النساء من سكان «الجنان» وقبل أن يقضم خبزا جاد به عليه أحد الآكلين بالدكاكين المطاعم بالجوطية، كان يخرج من جيبه الداخلي بمعطفه قنينته ويسكب جرعة في قطعة قماش ويضعها على أنفه لمرات عديدة. كانت النشوة تكبر وتكبر والدوخة تغمر الرأس، فترتسم على شفتيه علامات لا يدري أحد إن كانت تعبر عن البكاء والتعاسة والشقاء أو الفرح والسعادة والهناء... ندماء حول قنينة «الديليون» تعرف رشيد على عُمَر خلال أحد المساءات حين كان يتجول في متاهات المدينة بين القبور المنسية وبين المنازل المهجورة. التقى صاحبه وربطت بينهما قنينة «الديليون» المودة وتوطدت علاقاتهما بواسطة قطعة القماش المعطرة برحيقها. تمازجت الأنفاس واختلطت سوائل الأنفين واشتركا في اللقمة والمضغة والجرعة. كان عُمَر أقل فقرا من رشيد وكان أكبر منه سِنًّا بعامين حيث كان يشتغل مساعد تاجر بأحد أسواق المدينة. ورغم عمله، فإنه كان لا يكفيه في قوته اليومي، فبالأحرى في اقتناء قنينات جعة صهباء أو لتر من الخمور الحمراء أو قطعة شيرا صفراء أو حبة بولة حمراء. وجد عمر في «قرعة الديليون» بثلاثة دراهم العوض والبديل بل كان لا يؤدي إلا النصف بحكم «الشراكة والتعاون». لم يكن عمر بالوسخ القذر رغم بساطة لباسه، كان أنظف من صاحبه، بل أكثر من ذلك كانت له ساعة يدوية اقتناها له «لمعلم» بخمسة دراهم، لكنها «ساعة» يدوية يابانية إلكترونية تؤدي وظيفتها وتشير إلى الأوقات ولا تختلف عن الأخريات من «روليكس» أو «دوكما» أو «سيتيزن» أو « كازيو». كان عمر ينظر إلى ساعته بين الفينة والأخرى من مساء ذلك اليوم حتى لا يتأخر كثيرا، إذ كان يجب عليه الاستيقاظ في صباح اليوم الموالي حتى لا ينفجر غضب مشغله للمرة الرابعة ويتقرر بذلك طرده. كان رشيد يراقبه، وكان يتمنى إلقاء نظرة على الساعة ويتفرج على أرقامها، فيما كان عُمر قد تثاقلت عظامه وتخشبت أعضاءه ورفضت حركاته الانسياق لأوامره، بفعل المخدر، إذ تعطل تفكيره ولم يدر ماذا كان يريد فعله. فضل التمدد وإضافة شهقات أخرى من الرحيق بعد أن وضع رأسه في قطعة القماش... جريمة قتل مجانية تمدد عمر على الأرض انتشاء وأرخى أعضاءه ومدَّ يده الحاملة للساعة اليدوية، التي كانت تحت عيني رشيد الذي بدأ يتفحصها ويحاول قراءة أرقامها ثم وضع يده عليها وحاول إدارتها ليحدد الوقت رغم أن الوقت لا يعنيه. سحب عُمر يده بقوة وقفز من مكانه واستل سكينا من تحته، قبل أن يبدأ في صراخ خافت ويعبث بكلمات غير مفهومة «الساعة.. تَخْوَنْ لي الساعة... دين امُّك... الساعة...» لم يع رشيد ماذا جرى لصاحبه وطلب منه العودة إلى مكانه مناولا إياه قطعة القماش بعد أن صب عليها آخر جرعة «اكعد، بغيت الساعة انديرها في يدي باش نشوف شحال راحنا في الليل». وفي الوقت الذي مدَّ رشيد القطعة إلى نديمه أحس بشيء يخترق قفصه الصدري ويُسحب بسرعة بعد أن تبعه ينبوع من فجّر آلاما حادة في الصدر والبطن. لم يقُوَ رشيد على لفظ ولو كلمة واحدة ولا على التراجع وكانت آخر حركاته أن حاول مسك السكين بيده اليسرى قبل أن ينغرس مرة أخرى في حلقه، لكنها ذبحت كفه وسحبت مرة ثانية وسحبت معها خيطا آخر من نفس السائل. سقط جسد رشيد على الأرض كاشفا لعُمر ظهرا قابلا لمزيد من الطعنات، ضربة على الكتف «هاك، اكعد»، ثم ثانية «هاك، زيد» وأخيرة وسط الظهر على مستوى العمود الفقري» ارْصَى، يالفرخ..» رمى عُمر بسكينه بعد أن أنهى عمله وانسحب من المكان بهدوء جارًّا ساقيه بعد أن خارت قواه في عملية مجانية دفع ثمنها نديمه دون أن يدري أسبابها وترك عقله في قنينة «الديليون» الممدودة إلى جانب السكين... بحث وتحريات واعتقال بتاريخ 7 نونبر، بينما كانت عناصر الديمومة تقوم بمعاينة جنين بقسم المستعجلات، تم إخبارهم بوفاة شخص متأثرا بجروحه، بعد ما تم نقله إلى المستعجلات حوالي الساعة الواحدة صباحا من طرف رفيق له مجهول الهوية، وتوفي على الساعة السابعة صباحا من نفس التاريخ بقسم الإنعاش، يتعلق الأمر بالمسمى قيد حياته، رشيد الماحي، من مواليد سنة 1984 والساكن بسيدي ادريس جنان لحبوس بدون رقم بوجدة. وفور تلقي الخبر انتقل رئيس مصلحة الشرطة القضائية وعناصره بوجدة إلى قسم الإنعاش، وبمستودع الأموات تمت معاينة خمسة جروح دامية على جثة الضحية، طعنتان في الظهر، ثالثة في القفص الصدري من جهة اليمين، ورابعة في الكتف الأيسر وخامسة في اليد اليسرى. ومن خلال البحث والتحري الذي قامت به الفرقة الجنائية الأولى التابعة لمصلحة الشرطة القضائية بوجدة، تم التعرف على الجاني وإلقاء القبض عليه، ويتعلق الأمر بالمسمى عمر لمسيح المزداد سنة 1982، مساعد تاجر والساكن بزنقة الإمام علي رقم 62 بوجدة، والذي اعترف بالمنسوب إليه جملة وتفصيلا، موضحا أن الأسباب الحقيقية للضرب والجرح المفضي إلى الوفاة هي حالة التخدير التي كان عليها الجاني بفعل استنشاق مادة «الديليون» ووقوعه في خلاف بسبب محاولة الضحية سلب ساعة يدوية منه. أداة الجريمة تم حجزها، وهي عبارة عن سكين متوسط الحجم عليه آثار الدم علما أن الجريمة وقعت ببناية مهجورة بشارع بن حمديس حوالي منتصف الليل. وقد قدم المتهم إلى العدالة من أجل الضرب والجرح بالسلاح الأبيض المفضيين إلى الوفاة.