أنيقون، بثياب نظيفة، يبتسمون طيلة الوقت، هم أشبه بموظفي الأبناك، لكنهم متسولون، أناس من مختلف القارات، خبروا أن أقصر طريق إلى جيوب الإسبان هو أن يصنعوا الفرح في الشوارع، فالشفقة صارت عملة صدئة، إذ لكي يعطف عليك الناس في أوربا فإنه عليك أن تقدم شيئا ما تستحق مقابله رغيف خبز وفنجان قهوة في المساء. العاهات لاتطعم خبزا في إسبانيا، ولكي يرتقي المرأ إلى رتبة متسول في المجتمع ويحظى بإعجاب المارين في الساحات العامة، فإن عليه أولا أن يكون موهوبا، يتقن مغازلة القيثارة أو معانقة الكمان، ويحفظ عن ظهر قلب بعض مقطوعات بيتهوفن أو ألحانا عذبة من البلد الذي جاء منه، يقف في أنفاق الميترو يلتقط رزقه من جيوب العابرين الذين لايجدون أحيانا الوقت لسماع ترانيمه، يرمون بضعة سنتيمات فوق المنديل، ويرحلون، يقنعهم بأنه ليس متسولا، بل فنان رمت به الأقدار إلى شطآنهم. بالنسبة إلى بعض المتسولين، فإن زبناء الميترو أناس «أخف من رزقهم»، يمرقون بسرعة البرق، لذلك لا يمنحون الفرصة للمتسول لدغدغة مشاعرهم بالقدر الكافي، لايرمون إلا بضعة سنتيمات أو نصف أورو ويختفون، لهذا يفضل جزء من متسولي إسبانيا عرض فنهم في المقاهي العمومية، محولين الساحات إلى أشبه بمهرجانات صغيرة. بعض الشبان المغاربة في أوربا هم أيضا امتهنوا هذه الحرفة، رغم أن الأغلبية لاتينيون أو من أوربا الشرقية، وهو مايفسره عزيز. ن، ابن المدينة القديمة بالرباط، بأنه أسلوب في الحياة، فحياة الشوارع التي خبرها في باريس وحولته إلى عازف أمام «نوتر دام دو باري» علمته أشياء لم يدركها عندما كان يبلي ثيابه فوق مقاعد المدارس المغربية، فقيثارته هي مصدر قوته، يأتي كل مساء إلى ساحة عمومية يختارها بعناية، ويشرع في العزف، ولا تمر إلا دقائق معدودة حتى يلتف حوله المعجبون، يتوقف عن العزف عندما يشعر بأن النصاب اكتمل ويخرج قبعة جلدية ويمر عليهم واحدا واحدا، قائلا بانجليزية سليمة تعلمها في الشوارع: «اسمي عزيز، وجئتكم من باريس، لنتقاسم هذه اللحظات السعيدة». ويضيف عزيز الذي تطل القسوة من تقاسيم وجهه، وهو جالس في أحد أزقة حي الكارمن بفلنسية «أحيانا أعود في المساء بمبلغ يصل إلى 100 أورو، وفي لحظات أخرى يستبد بي الجوع، في فصل الصيف أجوب أوربا تاركا باريس التي تصبح مجرد علامة تجارية جيدة في بلدان أوربية أخرى». الذين لم يفلحوا في تعلم العزف والغناء يعرفون منذ البداية أنهم متسولون من الدرجة الثانية، مثل بعض العجائز الغجريات اللواتي فاتهن قطار الطرب أو صارت أغانيهن قديمة، أو بعض المهاجرين السريين الأفارقة، كان هم معانقة القارة العجوز يأكلهم كل يوم وغفلوا عن تعلم العزف والغناء، لذلك لم يجدوا بدا من الانكماش على أنفسهم قرب حانة أو مطعم، ورفع إناء حديدي صدئ صوب السماء، ربما يزغرد قلبهم ذات لحظة، عندما يسمعون رنين قطعة نقدية وهي تسقط في قعر الإناء.