على مرأى ومسمع من العالم، تواصل الأنظمة العربية في ليبيا واليمن وسوريا البطش بشعوبها مستعملة الجيوش في عملية البطش هذه، علما بأن الجيوش إنما وجدت لحماية الشعوب ولم توجد للبطش والتنكيل بها. ومن المعلوم أيضا أن الذي شجع هذه الأنظمة المستبدة على البطش بشعوبها هو موقف العالم السلبي بسبب الخلافات بين دول العالم الكبرى، وهي خلافات مردها المصالح، فالنظام الروسي لا زال يعمل جاهدا من أجل نقض كل إجماع دولي محتمل لمحاصرة الأنظمة في ليبيا واليمن وسوريا، حتى إن الزعيم الليبي حين فكر في البطش بشعبه اتخذ النظام الروسي إسوة وقدوة، وذكر بما فعله الجيش الروسي ضد المعتصمين بمبنى البرلمان الدوما، كما ذكر بما فعله النظام الصيني ضد انتفاضة ربيع الصين. واستشهاد ديكتاتور ليبيا ببطش النظامين الروسي والصيني يعني أن هذين النظامين يجيزان تسخير الجيش لقمع الشعب، وهو أمر جائز بالنسبة إليهما، وهذا لا يستغرب من نظامين مستبدين وفق عقيدة الشمولية المعتمدة فيهما. ولا يستبعد من أنظمة عربية مستبدة كانت مقلدة لهذين النظامين في النهج الشمولي أن تحذو حذوهما في تسخير الجيش لقمع شعوبها. وإذا كان موقف روسيا والصين مؤيدا للأنظمة العربية المستبدة بدافع علاقة التبعية التاريخية المعروفة في النهج الشمولي، وهو موقف لا يستغرب، فالغريب أن تساير باقي دول العالم الموقف الروسي والصيني، وتخضع لابتزازهما بدافع الحرص على المصالح. فعلى الدول التي تنعت نفسها بدول العالم الحر والديمقراطي أن تختار بين المصالح أو المبادئ. فإما أن تدافع عن مبادئ الحرية والديمقراطية التي طالما أوجعت بها الرؤوس وصمت بها الآذان في وسائل إعلامها، أو تعلن صراحة أن مصالحها فوق دماء وحريات الشعوب المضطهدة. ولقد انشغل العالم بالخلاف بين الدول العظمى بخصوص تضارب مصالحها في الساحة العربية، وتحديدا في المناطق التي تعرف الحركات الشعبية، وأغفل محنة الشعوب العربية التي تدفع الثمن باهظا يوميا من دماء أبنائها. ولقد استغلت الأنظمة العربية المستبدة في ليبيا وسوريا واليمن ظرف الخلاف بين الدول العظمى لتبالغ في عمليات قمع شعوبها تحت تعتيم إعلامي غير مسبوق في زمن شعار «العالم قرية صغيرة». ولقد تحولت القرية الصغيرة، بين عشية وضحاها، إلى قارات متباعدة في أزمنة غابرة بلا إعلام أو تواصل. ولقد أعلن كل من النظام الليبي والسوري تبني سياسة قمع الشعب وتسخير الآلة العسكرية لذلك، مع التحدي السافر لإرادة ما يسمى المجتمع الدولي على الطراز الصهيوني الذي عودنا على الضرب بإرادة المجتمع الدولي عرض الحائط عندما يريد إبادة الشعب الفلسطيني. ولقد كانت تصريحات ما يسمى دول العالم الحر أكثر تشجيعا للأنظمة العربية المستبدة من تأييد روسيا والصين لها، حيث بدا الموقف من هذه الأنظمة المستبدة، في ما يسمى دول العالم الحر، محتشما يتحاشى الكلام عن لاشرعية هذه الأنظمة وعن ضرورة استئصالها، ويصرح بين الحين والآخر بأن تدخل دول الغرب في ليبيا لا يستهدف النظام الليبي ولا الزعامة الليبية وكأن الحرب الدائرة في ليبيا حرب لا علاقة للزعامة الليبية بها. وهذا الموقف المتردد مرده الخضوع لابتزاز الروس والصينيين وكل من حشر في عملية توفير الدعم للأنظمة العربية الديكتاتورية التي ملتها الشعوب وانتفضت ضدها. وعوض أن تتضح المواقف وفق المبادئ، فإنها ظلت غامضة بسبب المصالح المتضاربة للدول العظمى في شرق وغرب العالم. فالإعلام الغربي، الذي كان شغله اليومي الحديث عما يسمى المشروع النووي الإيراني، ضرب صفحا عن تورط النظام الإيراني في دعم قمع النظام السوري للشعب، وتصدير أساليب القمع المجربة ضد الشعب الإيراني إلى هذا النظام البوليسي المتعطش للدماء. ويحدث هذا أمام أعين العالم المتفرج على الشعب السوري الذي تنزف دماء أبنائه يوميا. وجاءت مواقف ما يسمى العالم الحر ضد قمع النظام السوري للشعب على غرار مواقفه من النظام الليبي، لا تستهدف القيادة المستبدة وتحاول ذر الرماد في العيون في انتظار أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في مسار الحراك الشعبي الليبي والسوري واليمني لتتغير المواقف بعد ذلك حسب المصالح لا حسب المبادئ. ومن المؤسف أن تكون الجيوش العربية مجرد أداة طيعة في أيدي الأنظمة المستبدة لأن بنائها وإعدادها كان لهذا الغرض من خلال اختيار قيادات لها بلا ضمائر ولا وعي سياسي، وإسكاتها عن طريق شغلها بجمع الثروات والاغتناء لتكون وظيفتها هي قمع الشعوب، وخدمة الأنظمة كما يخدم العبيد السادة. فما هي قيمة جيش يكلف بقمع شعبه الأعزل من طرف نظام فاسد مستبد جوع الشعب وقهره؟ ألا يجدر بالجيش السوري أن يثور على نظامه المستبد الذي عوض أن يوجهه لتحرير الجولان سلطه على قمع الشعب؟ ألا يوجد في هذا الجيش ضباط أحرار فيهم ذرة من رجولة وشجاعة ونخوة وكرامة لقلب ظهر المجن لنظام فاسد مستبد والوقوف إلى جانب الشعب كما فعل الجيش التونسي والمصري؟ أما النظام اليمني فمهزلته ليس لها مثيل في العالم، حيث ركب القبلية، وكلما ثار الشعب اليمني حشر النظام الفاسد القبائل الموالية له حوله لركوبها ولضمان استمرار وجوده، وهي نفس القبائل التي كون منها جيشه سلفا لضمان وجوده، وهو نفس الجيش الذي يقمع الشعب. ولقد أعاد النظام اليمني عجلة التاريخ إلى أيام العرب في الجاهلية، حيث كان الاحتماء بالقبائل هو الأسلوب المتبع للبقاء. ولقد حاول النظام الليبي أيضا ركوب أسلوب النظام اليمني في تسخير القبيلة فأعوزته القبلية الكافية، فعمد إلى أسلوب استعمال المرتزقة والدروع البشرية المرغمة على المرابطة أمام مقر وجوده لمنع قصفه من الجو. والمحزن أن تلتزم الأنظمة العربية الصمت الشيطاني الأخرس وتتفرج على الشعوب العربية المضطهدة دون مواقف واضحة، لأن الأنظمة العربية لا يمكن أن يتخلى بعضها عن بعض على اعتبار أن مصيرها مشترك، وهو الفساد والاستبداد وقمع الشعوب من أجل البقاء في السلطة. وإذا ما تحركت هذه الأنظمة العربية بخصوص ما يجري في ليبيا وسوريا واليمن كان تحركها وفق المصالح ولا علاقة له بالمبادئ، متّبعة في ذلك أسلوب دول العالم الكبرى. فالمبادرة الخليجية في اليمن هي أسلوب وقاية دول الخليج من عدوى الحراك اليمني أكثر منها مبادرة إنقاذ الشعب اليمني من اضطهاد نظام تجاوز خطوط الفساد الحمراء، ومعارضة النظام اللبناني لكل عقوبة محتملة ضد النظام السوري دافعها المصلحة أيضا، وسكوت باقي الأنظمة العربية عما يجري في ليبيا وسوريا واليمن إنما دافعه المصلحة. فإلى متى سيظل العالم صامتا متفرجا على الشعوب العربية المضطهدة وهي تشيع يوميا عشرات الضحايا لتبقى الأنظمة المستبدة جاثمة على صدورها؟ وإلى متى ستظل الجيوش العربية مجرد أداة طيعة في أيدي الأنظمة المستبدة بسبب قيادات فاسدة فيها، لا عمل لها سوى جمع الأموال التي تشغلها عن الانقلاب على الأنظمة الفاسدة حفاظا على كرامة الشعوب أو، على الأقل، الحياد كما فعل الجيشان التونسي والمصري؟ محمد شركي - كاتب وباحث