وروي أن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم رضي الله عنهما لما قدما من المدينة، قالا لعمرو بن العاص: استأذن لنا أمير المؤمنين، فقال: أنتما والله أصبتما اسمه، فهو الأمير ونحن المؤمنون، فدخل عمرو على عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما هذا ؟ فقال: أنت الأمير، ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من يومئذ . وقيل في سببها غير ذلك . أما لفظ الأمير بإطلاق فقد كان مستعملاً في عهد النبي، لكن لم يكن مقصورًا على الخليفة، وإنما يسمى به أمراء الجيوش والأقاليم والمدن ونحو ذلك، وقد ورد في الحديث «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني». ومن الملاحظ أن لفظ (الإمامة) يغلب استعماله عادة عند أهل السنة في مباحثهم العقدية والفقهية، بينما الغالب استعمال لفظ (الخلافة) في الكتابات التاريخية، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه المباحث - خاصة العقدية - قد كتبت للرد على المبتدعة في هذا الباب كالشيعة والخوارج. فالشيعة يستخدمون لفظ الإمامة دون الخلافة، ويعتبرونها أحد أركان الإيمان عندهم، ويفرقون بين الإمامة والخلافة، فهم يعتبرون الإمامة رئاسة دين، والخلافة رئاسة دولة، ويريدون من ذلك إثبات أن عليًا رضي الله تعالى عنه كان إمامًا زمن خلافة الثلاثة الذين سبقوه. وفي ذلك فصل للدين عن الدولة. وهذا لا يقره الإسلام. وممن ذهب إلى التفريق بينهما أيضًا الرافضة الباطنية، وبعض المعتزلة . وأرجع بعض الكتاب المعاصرين سبب استعمال لفظ (الإمامة) عند أهل السنة إلى تأثر أهل السنة بالشيعة ، ويرى بعضهم أن هذه التسمية من اختراعات الشيعة وهذا غير صحيح لاستعمال المسلمين هذا اللفظ قبل انشقاق الشيعة عن الجماعة، ولوروده في بعض الآيات والأحاديث كما سبق، ولاستعمال الصحابةُ رضوان الله عليهم له. ومما سبق في تعريف الإمامة يتضح لنا أن العلماء الذين تصدوا لتعريفها قدَّموا أمور الدين والعناية به وحفظه على أمور الدنيا، بمعنى جعل الثانية تابعة للأولى، وبيان أن سياسة الدنيا يجب أن تكون بالدين وشرائعه وتعاليمه، وأن فصل الدين عن السياسة مخالفة صريحة لتعاليم الإسلام ولشريعته الربانية، وأن سياسة الدنيا بالقوانين الوضعية أو بالآراء والشهوات النفسية مخالفة أيضًا للإسلام، فلا يجوز أن يطلق على هذا النوع من الحكم بأنه حكم إسلامي، أو متمش مع الشريعة الإسلامية، بل هو مخالفة صريحة لها لا يقره الإسلام. ولهذا فرق العلماء بين الخلافة والملك، فيقول العلامة ابن خلدون في ذلك: «إن الملك الطبيعي: هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها». والفرق بين الخلافة والملك ثابت في الأحاديث الصحيحة الصريحة عن النبي من ذلك: - ما رواه أهل السنن وغيرهم عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله عن النبي قال: «خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم يؤتي الله ملكه - أو الملك - من يشاء». وفي رواية: «ستكون الخلافة ثلاثين عامًا ثم يكون الملك». - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلس جبريل إلى النبي عليه السلام فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك: أملكًا أجعلك، أم عبدًا رسولاً؟ قال له جبريل: تواضع لربك يا محمد. فقال رسول الله: «لا، بل عبدًا رسولاً». وهذا يدل على أنه لم يكن ملكًا مع أنه إمام المسلمين بلا منازع. ومن الآثار ما روي عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الفرقُ بين الخليفة والملك، فقال سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهمًا أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك، وأما الخليفة فهو الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهل بيته، والوالد على ولده، ويقضي بينهم بكتاب الله. فقال كعب: ما كنت أحسب في هذا المجلس من يفرق بين الملك والخليفة، ولكن الله ألهم سلمان الإجابة. فهذا من الفروق في نوعية سياسة الرعية، ومن الفروق أيضًا الطريق التي يتم بها الملك أو الخلافة، فالملك يتم عادة عن طريق القهر والغلبة والعهد من الآباء للأبناء ونحو ذلك، دون الرجوع إلى أهل الحل والعقد، أما الخلافة فلا تكون إلا بإقرار أهل الحل والعقد، سواء عن طريق الاختيار أو عن طريق الاستخلاف كما سيأتي، لكن مما يجب التنبيه إليه أن كلامنا هنا لا يشمل الملك الذي ذكره الله لبعض أنبيائه كداود وسليمان وغيرهما عليهم السلام، فقد قال الله تعالى عن داود: ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾. وقال عن سليمان :﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ﴾. وغيرهم من الأنبياء ممن سُمُّو ملوكًا فهؤلاء أنبياء معصومون، ولا شك أن ملكهم على نهج الحق قطعًا، لذلك لا يرد عليه الذم الوارد في الأحاديث السابقة لعصمتهم عليهم السلام. لهذا كان من اللازم إضافة مفهوم التنصيص على مفاهيم الثلاث وليس في ذلك تناقض مادام المسمى واحدا هو حاكم المغرب فتكون إمارة المؤمنين سندا شرعيا لحماية الدين ولحمة للمجتمع، والخليفة كالقائم على رعاية الرعية لأنه خليفة الله في أرضه، والملك يعد سندا سياسيا ينبغي تقديره واحترامه، وان هتف البعض بإزالة القدسية عن شخص الملك، فالوصف في حد ذاته غير صحيح. فالقدسية مرتبطة بنعوت العالم العلوي دلالة على الصفاء والطهارة، والقدسية اشتقت من مسمى الروح القدس وهي لفظة مترجمة من النص التوراتي «الروح القدس» أي جبريل عليه السلام، فورود الغلط في الاستعمال التداولي للفظة يدعونا إلى عدم الحاجة إلى هذا النقاش في إزالة أو إبقاء وصف القدسية لراعي الأمة، إلا إذا أرادت طائفة من القول بإزالة القدسية عن الملك كي لا يتابع قضائيا الناعت للملك بأوصاف قدحية والتقليل من قدره، ومخاطبته بلا احترام، فالهيبة للراعي لابد منها وما نقوله نابع من مبادئ حسن القول والخلق الحسن، فان كنا لا نرضى برفع الولد صوته على أبيه فكذلك الحال مع الراعي للأمة. فحسن التصرف عملا وقولا واجب شرعي تمليه فروض البيعة، والنصح له واجب شرعي كذلك. فهذا الخليفة عمر بن الخطاب كان يردد «رحم الله من أهدى إلي عيوبي». وفي الجانب القانوني: ينص الفصل التاسع عشر من دستور 1962 على ما يلي: «الملك أمير المؤمنين ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها». فقد اعتبر بعض الباحثين أن هذا الفصل جعل الدستور المغربي يتكون من طبقتين عليا وسفلى، وأنه بمثابة دستور داخل دستور فيما رأى فيه اتجاه آخر دسترة للحق الإلهي. وذهبوا في تحليلهم للفصل 19 إلى القول: «إن أمير المؤمنين لا يستمد صلاحيته من الدستور بل يستمد مهامه من الكتاب والسنة». وان ممارسة السلطات الخفية استنادا إلى قراءة النصوص الشرعية التي تشير إلى ما أناط الله به الخليفة، يعطي للملك مجالا لممارسة لا حدود لها. وبما أن أمير المؤمنين كرئيس للدولة الإسلامية المغربية مارس عبر الحقب والعصور صلاحيات واختصاصات في شتى الميادين والمجالات بحيث لم يكن مقيدا إلا بما ورد في الكتاب والسنة إلا أن الملك أمير المؤمنين في إطار المرحلة الدستورية يظل خاضعا لما هو مقرر في الشريعة الإسلامية بسبب كون الإسلام دين الدولة، كما يلتزم في ذات الوقت بما ورد في الوثيقة الدستورية برمتها. وقد أكد المشرع أن المغرب ملكية دستورية ديمقراطية، فهي مقيدة بنصوص التعاقد الدستوري، والملكية بذلك مقيدة بالشريعة الإسلامية فاعتبار الملك هو أمير المؤمنين. ومن هذا المنطلق فالملك يفترض فيه أن يتصرف في إطار هذين القيدين، ولا ينبغي له تجاوزهما لتكون ممارسته للسلطة صحيحة، وعليه فالقول بأن الفصل 19 يعطي صلاحيات غير محدودة، وأنه يمثل دستور داخل الدستور المغربي، فيه نوع من المبالغة والتضخيم. وهكذا يحيل مصطلح «أمير المؤمنين» على المشروعية الدينية حيث يستمد الملك نسبه الشريف من «آل البيت». ويعتبر خليفة الرسول، وأسمى سلطة في البلاد الإسلامية منوطة بقيادة المسلمين، وإمامة الصلاة بهم، وحماية الأرواح، ومصالح الذميين كما يتمتع بمشروعية تاريخية باعتباره رمزا لوحدة الأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها، علاوة على المشروعية المكتسبة من البيعة وما ترمز إليه. وكتوصية باحث نرى: التصريح بالمرجعية الدينية الإسلامية، والتفصيل فيها بذكر الالتزام بتعاليم الفقه المالكي والمعرفة الإيمانية تبعا للاستدلال العقدي الأشعري درءا للوافد من الخارج حفاظا على لحمة المجتمع؛ الإبقاء على مضامين الفصل19، وعلى العدد تسعة عشر لرمزية مفادها أن الثابت لا يتغير والضامن لوحدتنا لا يتبدل، وحتى نعي فعلا مفهوم الإصلاح بدل أن تأخذنا لهفة الإصلاح إلى التهديم والدمار. الالتزام بمعنى الملكية الديمقراطية. والدعوة إلى تحديد سلط الملك وهي دعوة دفينة في محاولة لإفراغ الملكية من محتواها، فان الاجتهاد الشرعي يدعو إلى مبدأ الشورى المؤسس لمفهوم التشارك في أخذ القرار وهو مفهوم إسلامي يرمي إلى أخذ الإجماع، فتتشارك غرفتا البرلمان والمستشارين برئاسة الملك في سن التشريعات المناسبة، وتكون الأغلبية في التصويت هي المشرع الفعلي، والحكم والفيصل. الدعوة إلى ترأس الوزير الأول أو مسمى رئيس الدولة للحكومة وللمجلس الوزاري لا يخالف العمل الشرعي فقد استخلف رسول الله أبا بكر في الصلاة وهو حي، ولم ينافسه في إمامة المسلمين في دينهم ودنياهم. الرقابة والمحاسبة أمر لازم وضروري، والتساوي أمام سلطة القانون، فالعدل كمفهوم مجرد وجب دسترته. فعبارة «من أين لك هذا» ؟ تفرض خلق آلية قانونية وقضائية لتحقيقها، لنبذ الفساد الذي قهر العباد فدفع بالشعوب إلى الثورة على المستبدين. التطور الديمقراطي كمفهوم يعني الفعل والنتيجة الايجابية، ولا يعني الشكل والمظهر. فعامة المغاربة لهم موقف من هذا التعدد الكمي للأحزاب غير المفيد، ولا يعني هذا الدعوة إلى إلغاء التعددية الحزبية لكن لابد من تصحيح الوضع بسن قانون يزكي الإبقاء على الأصلح منها، ومعرفة ذلك تكون عن طريق حصول الحزب على تمثيلية أكبر في غرفتي البرلمان والمستشارين، ما سيحدث تنافسية ايجابية، ما سيترتب عنه من خلق أقطاب وتحالفات كبرى بدل التجزئة والتفرقة. انتهى