قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... جاء في «الإمتاع والمؤانسة» أن عامة الناس تساءلوا ماذا استحق سعيد بن عبد الرحمن أن ولاه المهدي القضاء وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟ فقال: «إن خبره باتصاله بالمهدي طريف، فقد دخل الربيع الحاجب حين أفضت الخلافة إلى المهدي وقال له: «استأذن لي أدخلْ على أمير المؤمنين»، فقال له: «من أنت وما حاجتك؟» قال: «أنا رجل قد رأيت لأمير المؤمنين، أعزه الله، رؤيا صالحة وقد أحببت أن تذكرني له»، فقال الربيع: «يا هذا، إن القوم لا يصدقون في ما يرونه لأنفسهم، فكيف بما يراه لهم غيرهم؟»، فاحتلْ بحيلة غير هذه، فقال: «إن لم تخبره بمكاني سألت من يوصلني إليه وأخبره إنني سألتك الإذن لي عليه فلم تفعل»، فدخل الحاجب الربيع على المهدي، فقال له: «يا أمير المؤمنين، إنكم قد أطمعتم الناس في أنفسكم، فقد احتالوا عليكم بكل ضرب». فقال له المهدي: «هكذا تصنع الملوك، فماذا؟» قال: «رجل في الباب يزعم أنه رأى لأمير المؤمنين -أيده الله- رؤيا حسنة، وقد أحب أن يقصها عليك». فقال المهدي: «يا ربيع، إني -والله- أرى الرؤيا لنفسي فلا تصح لي، فكيف يمكن ادعاؤها ممن لعله قد افتعلها؟» قال: «والله قلت له مثل هذا فلم يقبل». قال: «هات الرجل». فدخل عليه سعيد وكان له رؤية وجمال ومروة ظاهرة ولحية عظيمة ولسان طلق، فقال له: «ما رأيتَ، بارك الله فيك؟» قال: «رأيت يا أمير المؤمنين آتيا أتاني في منامي فقال: أَخبرْ أمير المؤمنين بأنه يعيش ثلاثين سنة في الخلافة، وآية ذلك أنه يرى في ليلته الآتية في منامه كأنه يقلب جرة فيجد فيها ثلاثين ياقوتة، كأنها قد وُهِبت له». فقال المهدي: «ما أحسن ما رأيت، ونحن نمتحن رؤياك في ليلتنا المقبلة على ما أخبرتنا، فإن كان الأمر على ما ذكرت، أعطيناك فوق ما تريد، وإن كان الأمر بخلاف ذلك، لم نعاقبك، لعلمنا أن الرؤيا الصالحة ربما صدقت وربما اختلفت». قال: «يا أمير المؤمنين، فما أصنع أنا الساعة إذا صرت إلى منزلي وعيالي وأخبرهم بأني كنت عند أمير المؤمنين أكرمه الله، ثم رجعت صفرَ اليد؟» فقال له المهدي: «فكيف نعمل؟» فقال: «يعجل لي أمير المؤمنين، أعزه الله تعالى، ما أحب وما أحلف له بالطلاق إني قد صدقت». فأمر له بعشرة آلاف درهم وأمر بأن يؤخذ له كفيل، ليحضر من غد ذلك اليوم، فقبض المال وقال له: «من يكفلك؟» فمد عينه إلى خادم حسن الوجه والزي وقال: «هذا يكفلني». فقال له المهدي: «أتكفله يا غلام؟»، فاحمرَّ وخجل، وقال: «نعم يا أمير المؤمنين»، فكفله وانصرف سعيد بن عبد الرحمن بالعشرة آلاف درهم. فلما كانت تلك الليلة، رأى المهدي ما ذكره له سعيد، حرفا بحرف، وأصبح سعيد فوافى الباب واستأذن، فأُذِن له، فلما وقعت عين المهدي عليه، قال له: «أين مصداق ما قلت لنا عليه؟» فقلت له: «وما رأى أمير المؤمنين؟». فضحك في جوابه، فقال له: «امرأتي طالق إن لم تكن رأيتَ شيئا؟» فقال: «لأني أحلف على صدق». قال له المهدي: «فقد، والله، رأيت ذلك، مبينا»، فقال سعيد: «أنجز لي يا أمير المؤمنين ما وعدتني». فقال المهدي: «حبا وكرامة». ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار وعشر تخوت ثياب من كل صنف وثلاثة مراكب من أنفس دوابه محلاة، فأخذ ذلك وانصرف، فلحق به الخادم الذي كان كفله وقال: «سألتك بالله، هل لهذه الرؤيا من أصل؟» فقال سعيد: «لا، والله». فقال الخادم: «كيف وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته؟» قال: «هذا من المخاريق التي لا أب لها، وذلك أني لما ألقيت هذا الكلام خطر بباله وحدَّث به نفسه وأسرى به قلبه واشتغل به فكره، ففي ساعة نام، خُيِّل له ما حل في قلبه واشتغل به فكره فنام فرآه». فقال له الخادم: «قد حلفت بالطلاق». قال: «طلقة واحدة وأبقيت معي على اثنتين وأزيد مهرها عشرة دراهم وأتحصل على عشرة آلاف درهم وثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت من أصناف الثياب وثلاثة مراكب فارهة». فبهت الخادم وتعجب من ذلك، فقال له سعيد: «قد صدقتك وجعلت ذلك مكافأتك على كفالتك فاستر علي». ثم طلبه المهدي لمنادمته، فنادمه وحظي عنده وقلده القضاء على العسكر، فلم يزل كذلك حتى مات. المهدي والأعرابي.. يُحكى أن المهدي خرج يتصيد، فسار به فرسه حتى دخل إلى خباء أعرابي، فقال: يا أعرابي، هل من قرى؟»، قال: «نعم»، فأخرج له قرض شعير فأكله، ثم أخرج له فضلة من لبن فسقاه، ثم أتاه بنبيذ في ركوة فسقاه قدحا، فلما شرب قال: «يا أخا العرب، أتدري من أنا؟»، قال: «لا، والله». قال: «أنا من خدمِ أمير المؤمنين الخاصة». قال: «بارك الله في موضعك». ثم سقاه قعبا آخر فشربه فقال: «يا أعرابي، أتدري من أنا؟»، قال: «زعمت أنك من خدم أمير المؤمنين الخاصة». قال: «لا، بل أنا من قواد جيش أمير المؤمنين». قال: «رحِبْتَ بلادك وطاب مرادك». ثم سقاه ثالثا، فلما فرغ منه قال: «يا أعرابي، أتدري من أنا؟»، قال: «زعمت أنك من قواد أمير المؤمنين». قال: «لا، ولكني أمير المؤمنين»... فأخذ الأعرابي الركوة وأفرغها وقال: «والله لو شربت الرابع لادعيت أنك رسول الله»... فضحك المهدي حتى غشي عليه وأحاطت به الخيل ونزلت إليه الملوك والأشراف، فطار قلب الأعرابي فقال له: «لا بأس عليك ولا خوف»، ثم أمر له بكسوة ومال...
الهادي والخارجي .. كان الهادي يوما في بستان على حمار، ولا سلاح معه وبحضرته جماعة من خواصه وأهل بيته، فدخل عليه حاجبه وأخبره بأن في الباب بعض الخوارج له بأس ومكائد، وقد ظفر به بعض القواد، فأمر الهادي بإدخاله فدخل عليه بين رجلين قد قبضا على يديه. فلما أبصر الخارجي الهادي، جذب يديه من الرجلين واختطف سيف أحدهما وقصد الهادي ففر كل من كان حوله وبقي الهادي وحده، ثابتا على حماره، حتى إذا دنا منه الخارجي وهمَّ بأن يعلوه بالسيف، أومأ الهادي إلى وراء الخارجي وأوهمه بأن غلاما وراءه وقال: «يا غلام، اضرب عنقه»، فظن الخارجي أن غلاما وراءه والتفت الخارجي، فترجل الهادي مسرعا عن حماره، فقبض على عنق الخارجي وذبحه بالسيف الذي كان معه، ثم عاد إلى ظهر حماره من فوره، وأتباع الهادي ينظرون إليه ويتسللون عليه وقد ملئوا منه حياء ورعبا، فما عاتبهم ولا خاطبهم في ذلك بكلمة، ولم يفارق السلاح، بعد ذلك اليوم، ولم يركب إلا جوادا من الخيل.